التاريخ يصنعه العظماء

العــدد الخاص

الأعداد السابقة

الصفحة الرئيسية

 

ذكريات في بعض أسرار عظمته

جعفر العلوي

كنت بصحبة والدي المرحوم حين قادنا الشيخ المهاجر في كربلاء  لرؤيته ولعلها في آخر سنة عاشها سماحته في كربلاء، عندها لم يتجاوز عمري الحادية عشر سنة.  في أحدى (الدربونات) حسب اللهجة العراقية كان يقبع بيت الإمام، دخلنا مجلسه، فإذا هو غاص بالعلماء والزوار، سلمنا عليه وعرّفه المهاجر بوالدي، فكانت حرارة اللقاء قد أخذت مأخذها في نفسي، ولم نخرج من عنده الا وقد اعطانا العديد من الكتب هدية منه. ثم عرفت بعدها، أن ذلك من عاداته المعروفة، فهو يهدي زواره عددا من الكتب. ثم جاءنا الشيخ المهاجر بمجموعات أخرى من الكتب هدية أخرى من سماحته. على الرغم من أن ذكريات الطفولة قد انمحى أكثرها، الا أن الوقائع المؤثرة لم تكن لتُنسى، فقد أثّر فينا ذلك اللقاء، وصرنا منجذبين نحو سماحته، فكلما انتهينا من زيارة الإمام الحسين بعد فريضتي المغرب والعشاء ذهبت لرؤيته مع أخي الذي يكبرني حيث كان يقيم صلاة الجماعة في الصحن الشريف، ورأيته بعد الصلاة يعطي صدقة لأحد الفقراء، وكانت صلاته غاصة بالمصلين وهو الوحيد بين أئمة الجماعة في المشهد المقدس الذي كانت تعد الجموع من خلفه هي الأكثر عددا، ولم أكن أعلم حينها أن ذلك السيد كان هو الزعيم الروحي لكربلاء وأنه من البيت الشيرازي الذي لم تأفل شموسه القيادية.

بعد رجوعي الى البلد عكفت على قراءة كتبه، وتأثرت بها. ومن المعروف أن كتب سماحته الموجهة للشباب كانت تتسم باليسر في الفهم، وتأثرت خصيصا في طفولتي بقصص الأنبياء التي أهدانا إياها، وكنت من المتابعين لمجلة (أجوبة المسائل الدينية) التي كانت تصدر في كربلاء ومن تلك الكتب التي ألفها وكتب تلاميذه، نمت ثقافتي الدينية وتشرب فكري بمدرسته.

في منتصف السبعينات ذهبت الى الكويت وقمت بزيارته مع أحد الأخوة، فعرفته من قرب، كان يدخل الى ديوانيته في بداية العصر، قادما من بيته المتواضع الذي عرفت فيما بعد أنه لم يكن يتجاوز الحجرتين، وكانت فترة اللقاء عصرا تتسم بوجود الشباب من حوله حيث يرعاهم ويتحدث معهم من دون حواجز، فكنا نتشجع بالحديث مع سماحته في مختلف القضايا. وكنت قد سمعته يحث على الاستماع الى برنامج تبثه إذاعة الكويت يعرف بـ(وعند جهينة الخبر اليقين) ولعل البرنامج هو من أنجح البرنامج التي تعدها هذه الإذاعة، وبالفعل رأيته يستمع الى ذلك البرنامج ثم لعله قد علّق على بعض الأخبار التي احتواها. هكذا علاقته مفتوحة على العالم وهذا ما جعلنا نشعر أنه كان يعيش العصر ويتحدث بلغته. في المسجد المعروف بمسجد الشيرازي، كانت صلاته العامرة بالشباب الحيوي المفعم بروح العمل، وكانت الأنشطة الثقافية الجذابة واضحة المعالم في ذلك المسجد، وعرفت أن سماحته كان يشجع الشباب على إصدار المجلات بمختلف صورها، الحائطية والمطبوعة. وحينها كانت تصدر في الكويت عدد من المجلات المطبوعة بتوجيهات سماحته مثل "الهدى - الإسلام والحياة - الفتاة التقدمية " و لا زلت احتفظ ببعض أعداد هذه المجلات والتي كانت متقدمة فكرا وإخراجا ائنذاك. ثم تبين لي أن تلك المجلات كانت قطرا من بحر المجلات التي كانت تصدر بتوجيهات سماحته في كربلاء المقدسة.

الأمر الأخر الذي استرعى انتباهي هو وجود الهيئات الشبابية التي أسسها المنتشرة في الكويت، وكان كل طالب في حوزة الرسول الأعظم(ص) مسئول عن واحدة أو أكثر.  فهمت بعدها أن من استراتيجية الإمام هو وجود التجمعات الشبابية المؤمنة التي تتحمل مسئولية العمل الرسالي من جهة و ترقية طالب العلوم الدينية من جهة ثانية بحيث يشعر الطالب أنه مسؤول ومبلغ وعامل بعلمه أثناء الدراسة.  وهذا المنهج يختلف عن طريقة الحوزات التي تملأ الطالب بالعلوم بعيدا عن مسئولية التبليغ، وهذه الخاصية اتسمت بها مدرسة الإمام الشيرازي حيث كان يحمّل طلبته مسئولية التبليغ أثناء العطل ويبعثهم الى أنحاء المعمورة. ولوجودي في مدرسة الرسول الأعظم(ص) تمكنت من معرفة طبيعة الدراسة فيها، فالطالب يتزود بكل العلوم التقليدية التي تدرس عادة في الحوزات مضافا لها الاهتمام بالعلوم العصرية كعلم النفس وعلم الاجتماع والسياسة والاقتصاد وغيرها. كما كانت الحوزة تعج بالنقاشات حول واقع الأمة ومشاكلها في أوقات فراغ الطلبة، وفي وقت الوجبات. كما رأيت خاصية أخرى أن هنالك اهتماما بسلوكيات  طالب العلوم الدينية، فلكل طالب موجه خاص، يهتم به من ناحية الرقي الإيماني و الفكري. وهذا ما جعل تلامذة سماحة الإمام يبرزون بعد فترة من الزمن من طلائع الأمة العاملين. و أتذكر أن سماحته كان يمنح الطلبة عطفا خاصا، فهو يتفقد أمورهم ويرعاهم، بل يقوم خلسة أحيانا بخدمتهم  كتغسيل الصحون نيابة عنهم. هذه العلاقة جعلت الطلبة يشعرون بدفء العلاقة بينهم وبين مرجعهم وأستاذهم الأكبر. أما يوم الخميس فتجتمع الحوزة كلها في درس خاص يتحدث فيها الإمام القائد عن موضوع عام يتعلق ببناء الأمة ورقيها وإخراجها من أزماتها. وبحق كانت تلك الدروس من أفضل التنظيرات المهمة حول أوضاع المسلمين و سبل خلاصهم.

في المساء وبعد ساعتين تقريبا من صلاة المغرب يجلس سماحته في ديوانيته المباركة ببنيد القار وتقع بالقرب من مسجده. و يتقاطر الشباب مع طلبته لحضور مجلسه ، يبدأ حديثه بفتح القرآن الكريم، وحيثما تقع بصره على آية يبدأ في طرح التفسير والتدبر الخاص بها وغالبا ما يربط الآية بالأجواء والواقع المعاصر، كيما يعيش الناس الفهم الحي لآيات القرآن الكريم وهو ينطلق في نظرته من الأحاديث الشريفة التي يقول أحدها" إن القرآن حيّ لا يموت، والآية حية لا تموت ، فلو كانت الآية إذا نزلت في الأقوام وماتوا ماتت الآية لمات القرآن ولكن هي جارية في الباقين كما جرت في الماضين".  وتراه يرد السلام على كل شخص يدخل المجلس ، بل حتى على الصغار. ويقوم في مجلسه لكل من يأتي لمصافحته. ترى سماحته يتحلى دوما بالبشر والبشاشة و تغمر نفسه الزكية روح التواضع، وهذا ما كان يجعل منه محبوبا في قلوب جالسيه. وكان يعرف في كر بلاء  بأنه مغناطيس يجتذب  الآخرين.

وفي الكويت يأتيه المجاهدون العراقيون ، ليتزودوا منه ويسترشدوا بدروسه النيرة . كانت أشرطته وكتبه تهرّب الى داخل العراق. وكان يتابع وضع الحوزات والعلماء وشؤون الناس في العراق باهتمام أبوي ويقضي حاجات العديد ممن يقصده من العراقيين . وحيث عمّت أزمة المهجّرين العراقيين الذين انتشروا في بلاد العالم والذين هجّرتهم حكومة البعث في مطلع السبعينيات بحجة كونهم إيرانيين، فكان رضوان الله عليه يتابع شؤونهم وكتب كتابا نافعا مسليا لهم أسمه " الى النازحين" وكان يتضمن العديد من الرؤى والأفكار التي تشد من عضدهم وتقوي معنوياتهم.

زرته بعد ذلك في قم المقدسة ، وكان بيته كخلية نحل تعج بالحركة والنشاط الدؤوب و ترى العلماء من حوله يستشيرونه ويبلغونه بكل مستجد . ذات مرة زرته مع مجموعة من الأصدقاء ، فطلب أن نجلس لوحدنا في حجرة كبيرة، وأخذ يحدثنا عن العمل في سبيل الله وعن ضرورة التحلي بمجموعة من الصفات الحسنة وأهمية الكتابة والتأليف. وكان هذا أسلوبه مع كل من يزوره ، يتعرف في البدء عليه ويسأله بتمعن عن أحوال منطقته وطبيعة عمله،ثم يتحدث بما يليق بطبيعة ذلك الشخص ونوعية تخصصه. وكان من أهم وصاياه للشباب هو الزواج واستغلال الوقت في طاعة الله والتعرف على مبادئ الإسلام والعمل لخلاص الأمة.  و كان سماحته يتفقد مريديه وأحبته باهتمام أبوي ، فقلبه يعمر بحب المؤمنين ، وقد أخبرني بعض الأصدقاء عن مدى تأثره بمحنة السجن التي مررت بها مع أخواني المؤمنين. وكان يتفقد أحوالنا ويسأل عنها من أقربائنا وبعد انتهاء الأزمة كان ارتياحه عظيما حينما علم بالإفراج عنا.