التاريخ يصنعه العظماء

العــدد الخاص

الأعداد السابقة

الصفحة الرئيسية

 

وقفة سريعة مع الإمام الشيرازي (قده)

عبد العزيز الناصري

عندما كنت في قم المقدسة، والأجواء من حولي تفوح بعطر الإيمان والدين، تمنيت وقد كان معي هم طالما أقلقني منذ نعومة أضفاري، بأن أقدم عملاً مسرحياً يجسد الفكر الإسلامي، ويبني مواقف بعض رجالاته الخالدة، لتصبح بعد حين ديدناً وشرعة يتلبغها آخرون من ذوي الإبداع الفني والمسرحي تحديداً.

وشرعت فعلاً بتشكيل فرقة مسرحية، وكتبت نصاً عن الصحابي «عمار بن ياسر» وآخر عن الصحابي «سلمان المحمدي» وتم اختيار النص الثاني ليقدم باكورة عمل الفرقة التي كانت تتألف من ثلة من الشباب المؤمن، منهم من يعمل في فيلق بدر، ومنهم بعتاش على الكسب اليومي.

وقبل أن أشرع في التمارين المسرحية برزت أمامي مشكلة أقلقتني فعلاً ألا وهي مشكلة الدعم المادي، فجلّ الممثلين الذين يعملون بمعيتي ذوي أسر كبيرة منها وبعضهم لم يتزوجوا بعد، لكن مهما يكن الأمر لا بد أن يأكل الإنسان ليعيش لأن بدأ التمارين يعني الانقطاع الكلي لها ولمدة شهر أو شهرين على أقل تقدير، وهذا ما دفعني لأن أطرق أبواب مكاتب المرجعية في قم.

ويمر يوم وآخر، وأيام آخر... وكثر الحديث والشرح والتفصيل وآخر المطاف عدت خالي الوفاض، لم يستمع لحديثي مستمع، ولا يؤيد مشروعي مؤيد... حتى أن أحدهم قال بالحرف الواحد «حالك وآلة الشيطان» يعني خشبة المسرح.

وأصابني الأحباط، واعتكفت في بيتي عليّ أفكر بهدوء لأخرج من معضلتي هذه... وذات يوم طرق بابي صديق قديم قد سبقني إلى قم بسنتين أو أكثر... وبعد الحديث والأخذ والرد... قال...

- ما رأيك، بأن أطرق باب السيد الشيرازي؟.

اعتدلت بجلستي وقد كنت شبه ممدود على الفراش وكمن تذكر شيئاً ما..

- أجل... لقد فاتني هذا الأمر...

وكان اللقاء...

ولا أخفى – قارئي العزيز – لقد بهرت حقاً.

لقد وجدت نفسي أمام رجل يعرف كل شيء، وجدته يملأ علماً من أخمص قدميه حتى هامته لكني وجدته أكثر تواضعاً وهدوءً وإنسانية.

وجدته، قد أثقلته السنون العجاف، لكنها لم يستطيع أن تسرق الابتسامة من فيه، ابتسامة أبوية تشعرك بالأمان والارتياح أمام هذه الطود الشامخ في العلم.

لكني مع هذا التواضع الذي لمسته من لدن هذا العالم الجليل، شعرت بالحرج كادت الكلمات تتجمد في فمي، وأطرقت ملياً، وسمعت صوتاً ذات نبرة أبوية حنونة..

- أجل.. يا بني... تحدث بما لديك من أخبار.

عندها رفعت رأسي، ولملمت أفكاري، استنهضت شجاعتي، وشرعت بالحديث عن المسرح، وماله من دور فاعل في تجسيد الفكر الإسلامي وطرحه أمام الجمهور بشكل عملي ملموس، يدخل إلى القلب مباشرة، كما أستعمله أعداء الإسلام من قبل في هجماتهم الشرسة عليه.

وأنا أسترسل في حديثي، شعرت بالزهو يملأ قلبي، وتوهج في روحي، حيث وجدت ذلك العالم الديني الكبير ينصت لي بشغف مفرط، واهتمام كبير، ويهز رأسه بين حين وآخر مؤيداً ومشجعاً، لكنه ظل صامتاً حتى أنهيت حديثي كله.

وتحدث سماحته... وساد صمت من حولي إلا صوته الهادئ الرخيم، لقد ابهرني حديثه حقاً... فأنا أمام رجل دين لكنه يعلم عن المسرح كل شيء، تحدث عن الإخراج فكأنه قد درس هذا الفن في إحدى الأكاديميات وحينما عرج عن دور الممثل وما ينبغي أن يكون على حشبة المسرح أصبت بانبهار كبير، ماذا أسمع؟... أهو حقاً رجل دين كما التقيت الآخرين أم ماذا؟..

ومرت الدقائق سريعة، وأنتهى اللقاء... لقد تلقيت درساً في الفن المسرحي.

تعلمت شيئاً جديداً أو كنت أدعي أني أعرف كل شيء عن المسرح من قبل.

وودعت ذلك الرجل الموسوعي، سماحة المرجع الديني الإمام الشيرازي (قده) وأنا مليئاً بالزهو والفخار، مليئاً بالثقة والعزيمة... وعند القاعة الأخرى وقبل أن أخرج وبعض الذين معي من الغرفة المسرحية، التقيت «الحاج أبو مصطفى» ليسلمني ظرفاً، ليكون هذا الظرف سبباً لتقديم أول عمل مسرحي لي في مدينة قم ونال نجاحاً طالما اعتززت به.

بعد هذه الومضة السريعة من حياة فقيد الأمة الإسلامية، إلا تدعونا للقول بأننا بحاجة لمثل هكذا عالم ديني يعلم كل شيء، ويحتضن كل شيء، ليأثر في كل شيء وبالتالي ينتج كل شيء يخدم الدين والأمة.