الصفحة الرئيسية

العدد 76

اتصلوا بنا

 

الإمام الشيرازي ونظرية السلم واللاعنف

إعداد: بثينة محمد الخفاجي

العنف كظاهرة انتشرت بين المجتمعات الإنسانية عموماً بشكل موسع رافقت البشرية منذ بداياتها الأولى، وجاءت الأديان السماوية على فترات زمنية تطول أو تقصر لتُحل محل هذه الظاهرة الأخوة الإنسانية والسلام والتسامح.

وعملت تلك الأديان على إنقاذ البشرية من ظلمات الجهالة، وأدخلت في قلوبهم الإيمان والطمأنينة من خلال تعاليمها السماوية وسلوك المؤمنين بها، لما للدين من تأثير كبير على السلوك والفكر والشعور، ولقد تجلى هذا التأثير واضحاً في التراث الإسلامي كما يمكن ملاحظته من خلال التأثر الهائل في الحياة اليومية للمسلمين، فالإسلام منهج حياتي وميثاق شرف ونظام قانوني يتخلل حياة المسلم بكافة وجوهها.

ويمكن لنا أن تتبع مفهوم العنف واللاعنف من خلال النصوص التي جاءت بها الأديان التوحيدية والتعاليم التي حملتها المذاهب والمعتقدات الإلحادية الوضعية التي تدين بها بعض الشعوب.

إلا أن الإسلام دين يرفض العنف ولا يقره، وينحو باللائمة على كل متعصب أو متطرف، وهو كدين سماوي يرفض الدكتاتورية ويقيم مكانها الشورى وتبادل الرأي.

إلا أننا نرى مناوئو الإسلام يعمدون كعادتهم دائماً إلى إثارة شبهاتهم الضالة الرامية إلى تشويه صورة الإسلام النقية

والحط من قدر المسلمين الذين يمتلكون هكذا عقيدة سمحاء أعادت للبشرية صوابها وسعادتها، ومن تلك الشبهات الغريبة التي أثارها وروجها بعض الجهلاء من المسلمين، هي أن الإسلام العزيز يدعو إلى العنف والقوة ويحارب سبل السلام مع الآخرين.

ومع الأسف الشديد أن مثل هذه الشبهات، لقيت رواجاً وحظيت باقتناع البعض من الناس الذين انطلت عليهم المسألة فراحوا يتعاملون مع الآخرين بالبطش والعنف متجاهلين كل الآيات والأحاديث الشريفة المنادية بالسلم والسلام، قال تعالى: (ادخلوا في السلم كافة) (البقرة: 208).

أجل، فالإسلام الحنيف جاء إلى البشرية ليخرجها من الاستبداد والجور ويأخذ بيدها نحو العدالة والأمان، لا أن يرمي بها في متاهات البطش والعنف التي لا يجنى منها سوى الويلات والآهات.

ومن هذا المنطلق ومن أجل رفع هكذا شبهة عن أذهان الشعوب إزاء الإسلام العزيز، أخذ جمعٌ من علماء الإسلام الشرفاء على عاتقهم مسؤولية الدفاع عن الإسلام والمسلمين، بإزاء هكذا شبهات ضالة ظالمة، ولتبقى صورة الإسلام زاهية براقة مشرقة تعكس اشعاعات من الرحمة والإلفة والتسامح والسلام، وقد كان في مقدمة هؤلاء العلماء الأجلاء الإمام الراحل السيد محمد الحسيني الشيرازي (قدس سره).

الإمام الشيرازي يدعو إلى السلم واللاعنف:

كان الإمام الشيرازي  (قدس سره) داعية مجدداً ورائداً في مجال اللاعنف، ونبذ العنف في حل المشكلات الإسلامية والقضايا السياسية المعاصرة، وكل ما تعانيه البشرية من سلوكيات منحرفة، فالأساليب والآليات التي يدعو إليها في حل الصراعات الفردية والجماعية والدولية في طريقها إلى التطبيق والتنفيذ، وما زالت دعواته تجد صداها في عالم اليوم وهي نابعة من الفكر الإسلامي المتجدد.

ويعد الإمام الشيرازي واحداً من أبرز العلماء والفقهاء اللذين مارسوا نقداً لاذعاً ضد العنف وقد تميز عند تأسيسه لنظريته في السلم واللاعنف أنه ذهب بها لتشمل مختلف جوانب الحياة، ابتداءً من علاقة المرء بذاته، وبأفراد أسرته ومحيطه الاجتماعي، وكذا علاقته بالدولة والنظام الحاكم فيها، وانتهاءً بعلاقته بالآخر، أياً يكن هذا الآخر، وبمعنى ثانٍ، فإن الإمام الشيرازي لم يقصر تنظيره حول فقه السلم واللاعنف -فيما يرتبط بالجانب السياسي فحسب- بل انطلق بطرحه ليضفي على هذا المفهوم بعداً أوسع وأشمل، لذا نجده يرفض العنف بكل أشكاله، كما يعتبر اللاعنف نظرية متكاملة، ومنهج سلوك متواصل، وخياراً حضارياً ينبغي أن توفر عوامل نجاحه الذاتية والموضوعية، ويقول في هذا الصدد: (إذا أردنا أن نصل مع الآخرين إلى الحل الصحيح والاجتماع على رأي صائب، لكي نحصل على النتيجة المطلوبة، يجب علينا أن نسلك طريقاً بعيداً عن العنف ونتبع أسلوب التفاهم بالحكمة والموعظة الحسنة والهدوء في معاملتنا مع الآخرين حينئذٍ نصل موفقين إنشاء الله تعالى إلى الغاية والهدف).

بعض ملامح نظرية اللاعنف عند الإمام الشيرازي:

يعرف الإمام الشيرازي (قدس سره) اللاعنف كالتالي: (أن يعالج الإنسان الأشياء سواء كان بناءً أو هدماً، بكل لين ورفق، حتى لا يتأذى أحد من العلاج، فهو بمثابة البلسم الذي يوضع على الجسم المتألم حتى يطيب).

ويعرض الإمام أفكاره في المسالمة وعدم العنف، وأسلوب الرفق في التعامل والمداراة، على شكل نظرية  كاملة الأبعاد والأسس في التكوين والنشأة والتعامل الحياتي إزاء مواقف الحياة المتعددة، ويستمد الإمام هذه النظرية في كل أبعادها من القرآن الكريم وسنة الرسول الأكرم (ص) وما رواه آل بيت الرسول (عليهم السلام) في مختلف المواقف، فضلاً عن قدرته الإبداعية في الاجتهاد وآرائه الفقهية النوعية.

يقول الإمام الشيرازي (قدس سره) في إحدى المسائل الفقهية: (يحرم الإسلام الغدر والاغتيال والارعاب وكل ما يسمى اليوم بالعنف والارهاب، فإنه لاعنف في الإسلام، ولا يجوز أي نوع من أعمال العنف والإرهاب الذي يوجب إيذاء الناس وإرعابهم أو الغدر بهم وبحياتهم، أو يؤدي إلى تشويه سمعة الإسلام والمسلمين).

ويضيف الإمام قوله: (كيف لا والإسلام مشتق من السلم والسلام، والقرآن الكريم يأمر بالرفق والمداراة، يقول الله تعالى: (إن الله يأمر بالعدل والإحسان وإيتاء ذي القربى وينهى عن الفحشاء والمنكر والبغي) (النحل: 90)).

السلم واللاعنف لا يعني الخضوع والاستسلام:

إن الإمام الشيرازي (قدس سره) عندما يدعو لانتهاج سياسة اللاعنف فإنه في نفس الوقت يحذر من الوقوع تحت مظلة الخنوع، هذه المظلة التي عملت على تشويه فكرة اللاعنف وجعلتها قريبة من منطق الاستسلام، فللاعنف استراتيجية تتخذ من موقع القوة لا الضعف كما يتصور البعض، فالرسول (ص) كمثال يحتذى به استخدم أسلوب اللاعنف قبل الهجرة وبعدها وجميعنا نردد مقولته الخالدة عندما فتح مكة وشعاره المذهل: (اذهبوا فأنتم الطلقاء).

إن الحرب والمقاطعة وأساليب العنف ما هي في رأي الإمام إلا وسائل اضطرارية شاذة، على خلاف الأصول الأولية الإسلامية، حالها حال الاضطرار لأكل الميتة وما أشبه، وإنما الأصل السلام، ولذا تقدر الحرب بقدرها في الإسلام، ومع ذلك يقول تعالى: (فمن اعتدى عليكم فاعتدوا عليه بمثل ما اعتدى عليكم) ثم في مكان آخر يقول: (وأن تعفوا أقرب للتقوى) وهذا النجاح الكبير لنبي الإسلام والأئمة (عليهم السلام) إنما هو لأسباب من جملتها السلام الذي كانوا يتحلون به في كل شؤونهم.

فاللاعنف في رأي الإمام (قدس سره) ليس وليد الضعف في الذات أو القوة الضخمة لدى الآخر، وإنما هو جزء من بنية المنظومة العقائدية والفكرية الإسلامية، التي ترى في اللاعنف الطريق السليم في التعامل مع القضايا والشؤون الاجتماعية والثقافية والسياسية.

ثمار اللاعنف في رأي الإمام:

تحدث الإمام الشيرازي عن ثمرتين من ثمار اللاعنف الأولى منها: هي حصر العنف في دائرة ضيقة من الناحية الكمية والكيفية، والثانية: هي التفاف الناس حول من يتأنى في موقفه ويلتزم بسياسة اللاعنف، حيث ورد في (الحليم) أن الناس أنصاره على الجاهل، ويرى سماحته أن اللاعنف وإن كان صعباً في مقابل من يستعمل العنف إلا انه محمود العاقبة.

وكما أن لسياسة اللاعنف آثارها فإن العنف ثمرته العنف، وكما يشير الإمام الراحل (رضي الله عنه) فإن المجتمع الذي يؤمن بالعنف يتربى كل أفراده على العنف، حيث إن من سيئات العنف أنه لن يقتصر على الأعداء فقط بل يتعداهم إلى الأصدقاء أيضاً، وفي التجربة العملية لاحظنا هذه الظاهرة على الحركات الإسلامية وغير الإسلامية، وتكون الحصيلة انهيار الحركة من الداخل وهجوم الأعداء من الخارج.

المرأة واللاعنف:

يشير الإمام الشيرازي (رضي الله عنه) إلى حالة المرأة قبل الإسلام وكيف أنها كانت ضحية العنف والاضطهاد في مختلف أنحاء الأرض وفي مختلف الحضارات، وكيف كان بعض العرب يئدون البنات خشية أن يقعن بيد العدو وينجبن له الأطفال، وقد أشار القرآن الكريم إلى بعض حالات العنف التي تتعرض لها المرأة حيث قال تعالى: (وإذا بشر أحدهم بالأنثى ظل وجهه مسوداً وهو كظيم يتوارى من القوم من سوء ما بشر به أيمسكه على هون أم يدسه في التراب) (النحل: 57-59).

وكانت المرأة تحرم من الإرث عند العرب.