q

سونر چاغاپتاي

 

وضعت الأزمة السورية العلاقات الأمريكية - التركية تحت ضغط هائل، وهو توتر ناتج عن الأولويات المختلفة لدى الدولتين. ففي حين تريد أنقرة إسقاط نظام الرئيس السوري بشار الأسد باعتباره خطراً محدقاً عند حدودها، حدّت واشنطن أهدافها بمحاربة تنظيم «الدولة الإسلامية في العراق والشام» («داعش»)، المعروف أيضاً باسم «الدولة الإسلامية». وفي المقابل، تخشى كل دولة أن تتبنى أهداف الدولة الأخرى فتهمّش بذلك أهدافها الرئيسية الخاصة.

وهناك تقارير أخرى مفادها أن رئيسَي هاتين الدولتين قد شعرا شخصياً بهذه الضغوط. فبعد أن كانت الشراكة الودية والاتصالات الهاتفية المنتظمة تجمع الرئيسين باراك أوباما ورجب طيب أردوغان، بات الخلاف بينهما على الحرب السورية شديداً إلى درجة أنهما يتفاديان التواصل بانتظام أحدهما مع الآخر. ولم يتوانَ أردوغان في السابع من كانون الثاني/يناير عن التعبير عن استيائه من الحرب الجوية المحدودة التي تشنها واشنطن على «داعش»، فقال: "إذا فعلتم شيئاً فافعلوه بشكل صحيح. وإذا كنتم تنوون القيام به معنا، فعليكم أن تقدّروا قيمة ما نقوله."

ونظراً إلى هذا الوضع المضطرب، لا يزال السؤال يطرح نفسه: إلى أي مدى قد تؤدي هذه الأهداف المتضاربة بين الولايات المتحدة وتركيا إلى تقويض الروابط الثنائية؟

علاقة تمتد إلى ستة عقود

في الواقع أن العلاقات الأمريكية - التركية تعود إلى عدة سنوات. فقد انضمت تركيا إلى "حلف شمال الأطلسي" في عام 1952 لترسخ رسمياً التحالف بين الدولتين. وفي عام 1964، في الوقت الذي كانت فيه العلاقات التركية - اليونانية تتداعى بسبب مزاعم متضاربة بشأن قبرص، بعث الرئيس ليندون جونسون رسالة شديدة اللهجة إلى رئيس الوزراء التركي عصمت إينونو يهدد فيها بالتخلي عن تركيا إذا ما أقدمت على استخدام القوة في الجزيرة القبرصية. وحين دخلت القوات العسكرية التركية إلى قبرص عام 1974 لحماية القبارصة الأتراك، فرضت واشنطن حظراً على توريد الأسلحة إلى أنقرة. فاستتبع ذلك جموداً عميقاً في العلاقات بين الدولتين حتى عام 1981، إلا أن العلاقة بينهما استعادت عافيتها في نهاية المطاف. وقد ساهم في ذلك، الانقلاب العسكري الذي حدث في تركيا عام 1980، حيث عمد الجنرالات في أعقابه إلى اعتماد سياسة وفاق مع الولايات المتحدة. وما كان من واشنطن - التي كانت قلقة من السيطرة الإسلامية على إيران في العام السابق - إلا أن استجابت لهذه السياسة بإيجابية. ونرى في هذه الحالة كيف أن الفوضى التي تعم دول الجوار التركي تعزز أهمية تركيا بالنسبة للولايات المتحدة.

مصالح مشتركة تقابلها هوية آخذة في التباعد

تعتبر السلطة التركية الحالية أنّه قد تكون هناك مصالح مشتركة بين تركيا والولايات المتحدة، غير أنهما لا تملكان هوية مشتركة. ففي عام 2003، أظهرت حكومة "حزب العدالة والتنمية" المنتخبة حديثاً مؤشرات تدل على بداية مرحلة التغيّر في العلاقات الأمريكية - التركية حين رفضت السماح للقوات الأمريكية بالعبور إلى العراق عبر الأراضي التركية. وفي حين كان الزعماء الأتراك السابقون يتبنون شعار مؤسس البلاد الحديث مصطفى كمال أتاتورك المنادي إلى "التقرب من الغرب"، تؤمن نخبة "حزب العدالة والتنمية" بأنّ على تركيا أن تصبح قوة مستقلة في الشرق الأوسط لا تتعاون مع واشنطن إلا عندما كان هذا التعاون يخدم مصالحها. وباتت الوحدة الاستراتيجية خياراً "انتقائياً" أكثر فأكثر لدى تركيا. وفي أيار/مايو 2010، صوتت أنقرة ضد القرار المدعوم من الولايات المتحدة وأوروبا في مجلس الأمن الدولي بفرض عقوبات على إيران بهدف ردع مطامعها النووية. ثم في عام 2013 قررت نخبة "حزب العدالة والتنمية" شراء منظومات دفاع جوية صينية، مبتعدةً بذلك عن التزام تركيا التقليدي تجاه مجموعة "حلف شمال الأطلسي".

الحرب السورية: تحدٍ للقيادة الإقليمية

لقد تمتعت تركيا بتقدم اقتصادي ملحوظ في ظل حكم "حزب العدالة والتنمية"، لكن الحرب السورية قوّضت حلم الحزب بتحويل تركيا إلى قوة إقليمية. وبعد ظهور المعارضة السورية في أوائل عام 2011، حاولت أنقرة في البداية مد يدها إلى نظام الأسد وأوصته بإجراء الإصلاحات على أمل أن تستفيد من تأثيرها الاقتصادي الجديد على دمشق ومن غيره من النفوذ المُتصور عليها. لكن الرئيس الأسد لم يخفق في التجاوب مع هذه المناشدة فحسب، بل أرسل دباباته إلى المدن السورية للمرة الأولى وذلك بعد ساعات فقط من زيارة وزير الخارجية التركي إلى دمشق. واستجابةً إلى هذا الرفض، دعمت أنقرة الثوار ضد نظام الأسد. ومع ذلك، صمد الأسد لا بل أصبح يشكل خطراً كبيراً على تركيا. ففي أيار/مايو 2013، وقع تفجير مرتبط بنظامه في بلدة ريحانلي عند الحدود التركية وذهب ضحيته 51 شخصاً، وقد كان هذا التفجير أسوأ اعتداء إرهابي يقع على الأراضي التركية في التاريخ الحديث. ومن جهة أخرى، دخل نحو مليونَي لاجئ سوري إلى تركيا هرباً من مذابح الأسد، ومعظمهم تمركز في المحافظات التركية الجنوبية حيث يشكلون 20 في المائة من السكان. وإلى جانب إرهاق هؤلاء اللاجئين لموارد تركيا، يزداد التوتر الاقتصادي والاجتماعي والعرقي بين اللاجئين والأتراك، حتى أن أعمال الشغب باتت أمور متكررة في هذه المحافظات.

وفي الوقت نفسه، ربما يشكل تنظيم «الدولة الإسلامية» - الذي يقيم دولة على نسق حركة "طالبان" على طول حدود تركيا البالغة نحو 900 ميلاً مع العراق وسوريا - أكبر تهديد وجودي لتركيا منذ أن طالب جوزيف ستالين بأراض في عام 1946. لذلك فإن تركيا بحاجة إلى الولايات المتحدة من أجل التصدي بفعالية للرئيس الأسد وتنظيم «داعش» على حدٍّ سواء. بيد أن نخبة "حزب العدالة والتنمية" محتارة بين حلمها بتحويل تركيا إلى نجم إقليمي يعمل بشكل مستقل عن واشنطن، وبين الإقرار على مضض بزعامة الولايات المتحدة في المنطقة. ومن الممكن أن يحدث هذا الاحتمال الأخير إذا ما أكدت واشنطن لأنقرة التزامها بالإطاحة بالأسد.

وفي المقابل، إذا توصلت الولايات المتحدة إلى أسلوب عمل مع الأسد، قد تضطر أنقرة إلى الإقرار بهذا الواقع والإذعان للتصريح القوي بقبول الولايات المتحدة بالأسد. ففي الآونة الأخيرة، حين أسقطت الولايات المتحدة الأسلحة لمقاتلي "حزب الاتحاد الديمقراطي" الذين يدافعون عن كوباني، اعترضت أنقرة بشدة في البداية، إذ تعتبر تركيا "حزب الاتحاد الديمقراطي" ومنظمته الأم القائمة في تركيا، "حزب العمال الكردستاني"، من المنظمات الإرهابية، على الرغم من أن أنقرة تجري محادثات سلام رسمية مع "حزب العمال الكردستاني". ولكن حين تجاوزت واشنطن الفيتو التركي على إسقاط الأسلحة، وافقت أنقرة مكرهةً على الدعم الأمريكي لـ "حزب العمال الكردستاني"، حتى أنها سمحت للأكراد العراقيين بالبدء بمساعدة مقاتلي "حزب الاتحاد الديمقراطي" في كوباني وتزويدهم بالأسلحة.

نهاية العلاقات الشخصية الودية

في تموز/يوليو 2010، بعد امتناع تركيا عن التصويت في الأمم المتحدة لصالح فرض عقوبات على إيران، التقى الرئيسان أوباما وأردوغان للتحدث بصراحة عن المخاوف الإقليمية. وقد نتج عن ذلك التبادل قيام علاقة تعاطف بين الزعيمين وتكررت الأحاديث بينهما مع تبادل وجهات النظر حول الشرق الأوسط. ولكن في صيف عام 2013 اعترض البيت الأبيض على عملية القمع العنيفة التي شنها "حزب العدالة والتنمية" على تجمعات الليبراليين في "حديقة غيزي". وقد أدت هذه التطورات، مصحوبة بانتقاد واشنطن اللاحق لسجل انتهاك الحريات في تركيا، إلى تشويه العلاقة بين الطرفين. ولكن في النهاية كانت الخلافات حول سياسة الشرق الأوسط، بما في ذلك مصر - حيث ألقى أردوغان اللوم على الولايات المتحدة لتولي الرئيس عبد الفتاح السيسي الحكم - هي التي تسببت بقطع الصلة بين أوباما وأردوغان.

حليف إقليمي شائب، إنما فريد

إذا ضمت الولايات المتحدة تركيا إلى صفوف شركائها، سيسهل عليها محاربة تنظيم «الدولة الإسلامية» وإرساء الاستقرار في العراق، والإطاحة بالأسد - إذا اختارت الولايات المتحدة هذه المسار. ومع أن واشنطن تملك حلفاء آخرين في الخليج وأوروبا، تبقى تركيا الحليف الوحيد في "حلف شمال الأطلسي" الذي يقع على حدود العراق وسوريا. لذلك فإن غيابها عن المساعي الحربية للولايات المتحدة يعقّد لوجستيات العمليات ويرفع التكاليف المرتبطة بالعمليات الجوية. وفيما يتعين على أنقرة أن تقرر إلى أي مدى تستطيع تحمل السيطرة الأمريكية، ينبغي على واشنطن أيضاً أن تقرر إلى أي مدى تريد وقوف تركيا إلى جانبها.

* سونر چاغاپتاي هو زميل "باير فاميلي" ومدير برنامج الأبحاث التركية في معهد واشنطن. كما أنه مؤلف كتاب "صعود تركيا: أول قوة مسلمة في القرن الحادي والعشرين" ("بوتوماك بوكس").

...........................
* الآراء الواردة لا تعبر بالضرورة عن رأي شبكة النبأ المعلوماتية

اضف تعليق