q

أكبر عملية تسريب بيانات في العالم بل قد تكون الأكبر في التاريخ، فهي تفوق في حجمها تسريبات ويكيليكس الشهيرة، إذ إنها تتضمن الكشف عن 11.5 مليون وثيقة تُبين بعضها قيام عدد من رؤساء العالم منهم أوربيون ومشايخ من دول الخليج بإيداع أموالهم في ملاذات مصرفية آمنة عبر شركة "موساك فونسيكا" البنمية. هكذا علق موقع هافينغتون بوست على الوثائق المليونية التي عرفت بأوراق بنما.

ووفقا لما أوردته وسائل الإعلام فان عملية التسريب قادها المصدر المجهول إلى الصحيفة الألمانية «زود دويتشه تسايتونج» (Süddeutsche Zeitung) منذ عامٍ تقريبًا؛ فقرَّرت الصحيفة مشاركتها مع الاتحاد الدولي للصحافة الاستقصائية (ICIJ) وحوالي 400 صحافي عالمي من 107 مؤسسات صحافية في 78 دولةً لتحليل هذا الكم الهائل من البيانات (تذكَّر أنَّنا نتحدَّث عن أكثر من 11 مليون وثيقة) التي جاءت في 2.62 تيرابايت (ألف جيجابايت) من البيانات.

موساك فونسيكا، كما تصفها صحيفة «الجارديان» البريطانية، وينقل عنها موقع ساسة بوست هي واحدة من أكبر أربع شركات على مستوى العالم في مجال «الخدمات القانونية» ومقرها جزيرة بنما، تُمارس عملها بصورةٍ حصريةٍ تقريبًا مع زبائنها من الشخصيات الدولية، أو رجال الأعمال، أو السياسيين وقادة الدول، لإدارة أموالٍ وأصولٍ بالمليارات عبر تحويلها إلى عدة محطات في شبكةٍ من الشركات الخارجية (خارج إطار قوانين دولهم) بأسماءٍ غير أسماء مُلَّاكها الحقيقيين (سنتحدَّث عن هذا بعد قليل)، تُقدَّر بأكثر من 214 ألف شركة، قبل أن تعود إلى المصدر بصورةٍ يصعب تعقُّبها، وتحديد المستفيد النهائي منها.

ومنذ نشر التسريبات الأولى، فتحت دول، من بينها النمسا وهولندا وأستراليا، تحقيقات في القضية، إذ تتناول الوثائق 12 من قادة الدول الحاليين أو السابقين، و60 شخصا، على الأقل، لهم علاقة بقادة حاليين أو سابقين. ومن بين ابرز الشخصيات التي ورد ذكرها في التحقيق الدائرة المقربة من الرئيس الروسي فلاديمير بوتين، ولاعبا كرة القدم ميشيل بلاتيني وليونيل ميسي، إضافة إلى شركات مرتبطة بأفراد من عائلة الرئيس الصيني شي جين بينغ، والرئيس الأوكراني بترو بوروشنكو، فيما كان للدول العربية حصة الأسد من تلك الوثائق.

وبحسب التحقيق فإنه فيما يتعلق بالرئيس الروسي فإن الأشخاص المرتبطين به هربوا أموالاً تزيد على ملياري دولار بمساعدة من مصارف وشركات وهمية، وكما هو متوقع فقد ندد الكرملين بهذه الوثائق معتبرا أن الرئيس الروسي فلاديمير بوتين هو المستهدف الأساسي بها. وأكد الناطق باسم الكرملين ديمتري بيسكوف أن تلك التسريبات تهدف إلى "زعزعة الوضع في روسيا".

اما زعماء العالم العربي فكانت لهم حصة كبيرة من هذه التسريبات وشملت قيادات حالية و سابقة مثل رئيس الوزراء العراقي الأسبق إياد علاوي الذي امتلك عقارات وأصول في إنجلترا أدارها عبر شركات وهمية عن طريق موساك فونسيكا بين عامي 1985 و2013.

وفي الإمارات يبدو أن الرئيس خليفة بن زايد آل نهيان يفضل التعامل مع موساك فونسيكا، فقد أسست له الوكالة ولابنه وابنته شيخة بنت خليفة عشرات الشركات الوهمية التي تدير له أصول وعقارات سكنية وتجارية في أحياء لندن الفاخرة تقدر قيمتها بـ1.7 مليار دولار على الأقل.

الملك سلمان بن عبدالعزيز اشترى منازل فاخرة في لندن، تبلغ قيمتها على الأقل 34 مليون دولار، عن طريق شركات وهمية أيضًا أسستها موساك فونسيكا، ورغم انعدام الرقابة على حسابات العائلة المالكة السعودية، إلا أن الملك ربما قرر أن يبتعد عن "الصداع" الذي قد تسببه معرفة السعوديين بتلك الأموال. كما أن ولي العهد، الأمير محمد بن نايف تعامل أيضًا مع الشركة بين عامي 2007 و2014.

أمير قطر السابق حمد بن خليفة آل ثاني ارتبط بالشركة كما أظهرت إحدى الوثائق عندما أرسل محامي الأمير خطابًا للتفاوض لشراء إحدى الشركات في الجزر البريطانية مقابل فتح حساب في بنك الصين بلوكسمبرج، وكذلك وزير خارجيته السابق حمد بن جاسم.

في المغرب أثبتت الوثائق أن منير مجيدي، رجل الأعمال والسكرتير الشخصي للملك المغربي قد قام بالتعامل مع وكالة موساك فونسيكا التي اشترت له شركة في الجزر البريطانية، الشركة الأخيرة استُخدمت لشراء مركب شراعي فاخر استخدمه الملك المغربي لاحقا، وبعدما تمت عملية الشراء، تم نقل القارب إلى المغرب وتم تسجيله تحت اسم "البوغاز I"، كما تعامل مجيدي مع الوكالة عندما استخدم 42 مليون دولار في 2003 لشراء وتجديد شقة فاخرة في باريس، ولا يُعلم على وجه التحديد مالك هذه الشقة.

وزير الصناعة الجزائري عبد السلام بوشوارب ورد ذكره في الوثائق أيضًا، إذ استخدمت شركاته الوهمية لإدارة أعمال في تركيا والجزائر وبريطانيا.

رئيس الوزراء الأردني ووزير الدفاع السابق علي أبو الراغب امتلك عدة شركات وعمل أبناؤه في إدارة شركات أخرى كذلك، كما أظهرت الوثائق.

الرئيس السوداني السابق أحمد علي الميرغني سجل شركة في الجزر البريطانية أيضا واشترى من خلالها شقة فاخرة شمال لندن بلغ ثمنها عام 1995 أكثر من 600 ألف جنيه إسترليني، وعندما توفي الميرغني كانت حساباته تضم أكثر من 2.7 مليون دولار من الأصول والأموال.

بعض المتعاونين مع الرئيس السوري بشار الأسد وأقاربه مثل رامي وحافظ مخلوف وردت أسمائهم في التسريبات أيضا، و تثبت وثائق الشركة أنها قطعت علاقتها بالشقيقين مخلوف منذ منتصف 2011، إلا أن الشركات الوهمية والتي تديرها موساك فونسيكا لا تزال تعمل في دعم الأسد.

في مصر لا يختلف الأمر كثيرًا، استمرت في التعامل مع مبارك وابنه علاء مبارك الذي أسس شركات وهمية عن طريق الشركة كذلك.

في أوغندا على سبيل المثال، تحارب الدولة قضائيا منذ سنوات للحصول على 400 مليون دولار من الضرائب التي كان من المفترض أن تدفعها شركة قامت ببيع آبار نفط في البلاد، لكن الشركة التي استعانت بموساك فونسيكا لم تدفع فلسًا واحدًا للدولة الفقيرة التي يمثل لهذا هذا الرقم من الضرائب أكثر مما تمثله ميزانية حكومتها في عام كامل!

لكن كيف يمكن اخفاء مليارات الدولارات؟

صحيفة الغارديان قامت بتصميم فيديو يشرح كيفية اخفاء مليار دولاء في عدة خطوات؛ إذ تبدأ المهمة بتأسيس شركة وهمية عن طريق الشركات التابعة لموساك، ثم تقوم موساك فونسيكا بتحويل الأموال إلى تلك الشركات الوهمية، وتبقى هناك مهمة كيفية انفاق تلك الامول؟ وتقوم موساك فونسيكا بذلك أيضًا حيث تقوم بتحويل الأموال إلى الطرف المستفيد، مثلاً يمكن لإحدى هذه الشركات الوهمية أن تدفع ملايين الدولارات لاحد مشاريع المستفيدين منها .

وقد يتساءل شخص ما عن حجم الثروة المالية التي يتم اخفائها في الملاذات الضريبية ووفقا لموقع ساسة بوست فقد جاءت المحاولة الأدق لتقدير حجم هذه الأموال في كتاب "ثروة الأمم المخفية" لأستاذ الاقتصاد في جامعة UC Berkeley الأمريكية "جابرييل زاكمان"، وقدَّر فيه إجمالي الأموال في تلك الملاذات بـ7.6 تريليون دولار أمريكي.

وأظهر بحثٌ قدَّمته مجموعة "النزاهة المالية العالمية" أنَّ تهريب الأموال إلى الخارج قد كلَّف الدول النامية 7.8 تريليون (ألف مليار) دولار أمريكي بين عامي 2004 و2013 فحسب.

وبحسب البحث، لم تنجُ أيَّة دولة عربية من تهريب الأموال إلى الخارج بطرق غير شرعية؛ فهُرِّب أثناء تلك المدة من مصر حوالي 40 مليار دولار، ومن العراق 105 مليارات دولار، ومن السعودية 29 مليار دولار، ومن سوريا 48 مليار دولار.

و من بين ملايين الوثائق التي تم تسريبها، لم يصل منها بعد سوى 149 وثيقة، وهو ما يعني أننا أمام قمة جبل الجليد، وأن ملايين الوثائق الأخرى قد تحمل الكثير من المفاجآت، التي لن تكون سعيدة غالبًا لمئات من صُناع القرار في العالم.

بعض المتابعين تحدثوا بتفاؤل عن هذه التسريبات وهناك ترجيحات بأن تؤدي إلى إسقاط بعض الفاسدين، إذ من الممكن أن تثار الكثير من القضايا من جديد، فبعد أحداث ما يسمى بالربيع العربي تحدث الكثيرون في الدول العربية عن الفساد المالي وقيام المسؤولين الكبار بنهب أموال الشعوب العربية، وترجمت تلك الأحاديث إلى مطالبات باجتثاث الفساد؛ ففي العراق بدأت التظاهرات منذ نهاية الولاية الثانية لرئيس الوزراء السابق نوري المالكي للمطالبة بمحاربة الفاسدين في الدولة العراقية وازدادت حدتها في منتصف العام الماضي مع دعم المرجعية وإعلان رئيس الوزراء الجديد حيدر العبادي عن نيته اجتثاث الفساد من جذوره واختتمت باعتصام أتباع التيار الصدري قرب المنطقة الخضراء، إلا أن تلك التظاهرات لم تأتي بجديد على مستوى مكافحة الفساد رغم الدعم الكبير الذي حصلت عليه.

ويبقى التساؤل الذي يطرح نفسه هنا عن الطريقة التي يستطيع المتهمون فيها بالهروب من تلك الفضيحة؟ فكيف يمكن للرئيس الروسي فلادمير بوتين ان يصلح ما افسدته وثائق بنما والذي يحاول تسويق نفسه كصانع سلام في العالم؟، وماذا عن الدول الخليجية؟، هل سنشهد احتجاجات شعبية تطالب بالأموال المسروقة؟، قد يكون العزف على سمفونية نظرية المؤامرة غير مجدٍ هذه المرة والأيام والشهور القادمة قد تحمل مفاجآت كبيرة وليس مستغربا الحديث عن ربيع خليجي قادم لا سيما مع تراجع الدعم الأمريكي للممالك الخليجية العربية والخسائر الفادحة التي يتلقاها المحور الخليجي مقابل المحور الإيراني.

اضف تعليق