q

المعرفة "هي مجموعة من الادّعاءات الصادقة المرتكزة على اسباب مقنعة". (هذا التعريف مشابه للتعريف المألوف للمعرفة كـ "عقيدة صادقة مبرّرة"). الفلاسفة يعرضون مختلف الادّعاءات، ويقدّمون الحجج الداعمة لها. ولكن هل انهم يقدّمون معرفة حول اي شيء؟ هل بالإمكان القول ان "البيان او الادّعاء الفلسفي (س) هو صادق"، او نستطيع القول فقط ان "البيان الفلسفي (س) مدعوم بأسباب قوية ومقنعة"؟ هل الموضوعات الفلسفية هي ضمن عالم الاشياء التي نستطيع الحصول على معرفة بشأنها؟

نحن نعرف طبيعة المعرفة التي تقدمها العلوم التجريبية: معرفة واقعية حول العالم واستدلالات او نظريات مدعومة بالملاحظة التجريبية. ونعرف ايضا طبيعة المعرفة التي تقدمها الرياضيات والمنطق: معرفة استنتاجية مشتقة من عدد من البديهيات في احد حقول الرياضيات. ونحن نستطيع تحديد طبيعة المعرفة التي يقدمها السيمانتيك واللغويات: معرفة تفسيرية لمعانى مختلف الكلمات والعبارات في اللغة العادية. هذه المجالات من التحقيق يمكننا تلخيصها بـ "المعرفة الاستقرائية"، و"المعرفة الاستنتاجية"، و"المعرفة السيماتيكية". ولكن ماذا تضيف الفلسفة لمعرفتنا وفهمنا للخبرة الانسانية والمعرفة.

ان المعرفة والحقيقة (truth) مترابطان. الحقيقة، بدورها، تحوز على المطابقة والصلاحية. البيانات او الادّعاءات تشير الى اشياء وخصائص، وهي صحيحة او زائفة اعتمادا على ما اذا كانت الاشياء التي تشير لها تلك البيانات تنطوي على الخصائص المنسوبة لها، لذا فان البيان او الادّعاء لا يمكن ان يكون جزءاً من المعرفة اذا لم يحقق المطابقة مع بعض الحقائق المستقلة.

الآن لنرى انواع الاستدلالات والبيانات التي تحدث ضمن الفلسفة.

اولا، الفلسفة تقدم ادعاءات مرتكزة على تحليلات صارمة للمفاهيم والعلاقات المفاهيمية. هذه الممارسة تبدو شبيهة بالخيار اللغوي والسيماتيكي اعلاه، لكن الفلاسفة يقدمون "قيمة مضافة" عبر توفير إعادة بناء عقلانية للمفاهيم التي يدرسونها. هم يحسّنون ويعيدوا بناء مفاهيم اللغة اليومية.

ثانيا، الفلسفة ربما تعطي تحليل استدلالي وتطوير متقدم آخر للطرق والانظمة المفاهيمية لمختلف التخصصات، بما فيها العلوم التجريبية. هنا يتظاهر الفيلسوف بتقديم استنتاجات هامة ستحسّن الخصائص الابستمية للممارسات العلمية القائمة. ان الفهم العميق لمنطق التفسيرات التطورية ورياضيات الاختيار الطبيعي هو جهد فلسفي، وهو مساهمة حيوية مؤثرة لفلسفة البايولوجي وللنظرية البايولوجية. هنا، يجب ان نسأل ما اذا كان هناك اساس موثوق لهذه المساهمات. ما هو المجال الذي يمتلك فيه الفيلسوف اساسا متميزا لإعطاء تقييم عقلاني وتوصيات حول هيكل وممارسة العلم التجريبي؟ اساسا، الفلاسفة سيستجيبون بالقول ان المحاججة الفلسفية حول طرق العلوم تنال مصداقية من خلال ما يمتلكه الفلاسفة من منطق وفهم عقلاني.

ثالثا، الفلسفة يمكنها بناء نظريات اخلاقية تمتلك درجة من التبرير تتجاوز الافكار الاخلاقية العادية. عندما يسأل جون رولس، "ما هي العدالة؟"، هو يبدأ بالارتباطات العادية مع المفهوم، ولكن فيما بعد يبني نظرية في العدالة تتجاوز اللغة العادية. وهو يقدم نطاقا من التبريرات الفلسفية الداعمة لنظريته في "العدالة كإنصاف"(1).

المشكلة الكبرى في الاجابة على السؤال الرئيسي -ما هي طبيعة المعرفة الفلسفية-، هو اننا في الوضع الاعتيادي نقسم المعرفة الى "تجريبي/فكري" و"منهجي/ضروري" (او ما يسميه الفيلسوف الامريكي كوين التمييز بين "التحليلي/التركيبي"). لكن الفلاسفة يبدو يدفعون نظرياتهم قدما بطريقة تشير الى انهم لا تجريبيين ولا منهجيين خالصين. (كانط ) يضع هذه المسألة على شكل صنف المعرفة التي هي معرفة قبلية "تحليلية بالبداهة"، اي، المعرفة المرتكزة على استدلال فلسفي خالص لكنه ليس شكليا خالصا.(كانط يدّعي ان القول "الواقع هو منظّم مكانيا في الابعاد الاقليدية الثلاثة" هو تحليل قبلي(بديهي) صادق يؤكد ان القول هو بالضرورة صادق لكنه ليس صحيح منطقيا ).

احد المواقف المحتملة التي يمكن ان نتخذها هو ان نقيّد مفهوم "المعرفة" فقط بالبيانات المتعلقة بالشؤون التجريبية العامة (حيث كل من الصدق والزيف ممكنان)، ولكن مع افتراض وجود الاصناف الاخرى من الايمان التي لها درجة المصداقية العقلانية ولكن دون المطابقة مع العالم التجريبي. وفق هذا الاتجاه، فان البيانات التجريبية المدعومة بشكل ملائم، يمكن ان تشكل معرفة في العالم التجريبي. البيانات الفلسفية مثل البيانات حول الطريقة العلمية، او طبيعة الجمال، او المبادئ الاخلاقية، يمكن تقديمها بتبرير عقلاني ولكن ليس لها هيكل مرجعي يجيز لها ان تكون "حقيقية" وهي لا تُحسب كمعرفة. اذا اخذنا هذا الاتجاه، فنحن ربما لدينا المبرر بقبول المقترح "العدالة هي الانصاف"، لكننا لا نمتلك التبرير بالاعتقاد انها "صادقة". ولذلك فان البيان هو ليس مثال عن "المعرفة".

هذا الاتجاه يبدو مماثلا لموقف الوضعية المنطقية في بداية القرن العشرين، التي أكدت على نظرية التحقق من المعنى او ان معنى الجملة هو مجموعة الظروف التي تؤسس صدقيتها او زيفها، وهو ما يقود الى ان الثيولوجي والفلسفة والاخلاق هي بلا معنى. غير ان الرؤيتين ليستا شيئا واحدا لأن هذه الرؤية تقبل بان الخطاب الفلسفي هو هادف وعقلاني، انها تنكر ان البيانات التي يضعها الفلاسفة اما تتطابق او لا تتطابق مع حقائق العالم.

الاستنتاج من هذا الخط من الافكار هو نوعا ما مذهل: الفلسفة لا تقدم معرفة ابدا. لكنها بالفعل تقدم افكارا وبيانات تتأسس على اسباب جيدة، واننا لدينا اسس عقلانية للايمان بهذه البيانات.

..............................

الهوامش

(1) الفيلسوف John Rawls(1921-2002) من هارفرد، طور تصورا عن العدالة كإنصاف في عمله الكلاسيكي (نظرية في العدالة)، مستخدما عناصر من كل من فلسفة كانط والفلسفة النفعية. هو وصف طريقة للتقييم الاخلاقي للمؤسسات السياسية والاجتماعية. يؤسس رولس نظريته على مبدأين اثنين، مبدأ الحرية ومبدأ المساواة، مبدأ المساواة يقسم الى مساواة عادلة بالفرص ومبدأ الاختلاف. رتّب رولس المبادئ ترتيبا متدرجا من حيث الافضلية، مفضلا مبدأ الحرية على مبدأ المساواة العادلة في الفرص والذي بدوره يسبق في الاولوية مبدأ الاختلاف. هذا الترتيب يقرر الافضلية بالمبادئ عندما تتصادم مع بعضها اثناء التطبيق. مع ذلك، قصد بهذه المبادئ تصورا واحدا وشاملا للعدالة كأنصاف بحيث تضمن حقوق الافراد الاقل حظا في المجتمع. مبدأ الحرية هو مبدأ فيه يعطي كانط احتراما اساسيا وعالميا للفرد حيث يكون الافراد احرارا ومتساوين اخلاقيا، لكن في العالم الواقعي هناك اختلافات في قابليات وخصائص الافراد وبالتالي اختلاف في مساهماتهم والتي في ظل ظروف الحرية ستقود الى اللامساواة الاقتصادية والاجتماعية. مبدأ الاختلاف يجيز عدم المساواة ويرى فيها مصلحة للجميع. رولس يضع فكرته عن العدالة بين هذين الحدين.

...........................
* الآراء الواردة لا تعبر بالضرورة عن رأي شبكة النبأ المعلوماتية

اضف تعليق