q

جرى الحديث في المقالات السابقة عن "الاسلام السياسي بين الدولة والسلطة"، حول حرص بعض الاحزاب الاسلامية الحاكمة على بناء السلطة والحكم اكثر من اهتمامها على بناء الدولة ومؤسساتها، والسبب في ذلك – بكل بساطة- تصور هذه الاحزاب أن منطلقاتها الدينية تسمح لها بهكذا تفضيل لتحقيق ما تراه حقّاً وصدقاً وعدلاً، فهي إنما تقدم نموذجاً لنظام "الحكم الاسلامي" حسب وجهة نظرها. وهذا ما كلّف بلادنا الخاضعة تحت تجربة "الاسلام السياسي" مشقّة استيعاب مفردات هذه التجربة ثم تفهّمها والقبول بها، لان الفكر لم يكن يوماً ما، حكراً على جماعة او فئة او شخصية مهما تسامت وتعالت، إنما جميع بني البشر لهم القدرة على التفكير والتدبّر والتأمل في الظواهر والموجودات ثم التوصل الى الحقائق، وهو ما يدعونا اليه القرآن الكريم في عديد الآيات الكريمة، وما لا نشهده في تجارب "الاسلام السياسي".

التوازن بين الفكر والعمل

تتذرع بعض الاحزاب الاسلامية بأهمية الفكر والتنظير بأنه بمنزلة المخ في كيان الأمة، إذ لولاها لما تمكن أحد من تحديد الوجهة الصحيحة في حياته، وكما أن المخ هو الذي يوجه الإيعازات الى الجسم بالحركة وإصدار ردود الافعال المختلفة، فان الفكر روح العمل والباعث اليه، بمعنى أن الفكر يسبق العمل، والنظرية تسبق التطبيق، بيد أن المهم هنا؛ التوازن بين الاثنين، كما يدعو الى ذلك سماحة المرجع الراحل السيد محمد الشيرازي – قدس سره- في "فقه السياسة"، فاذا "زيد في الفكر او نقص منه انقلب في كثير من الاحيان ضاراً...". مثال ذلك يورد سماحته في أن "الحزب الاسلامي يفكر في تشكيل وحدات عامة في كل قطر اسلامي لتنمو حتى تتمكن من اسقاط الجدر الاستعمارية، لترجع الامة الواحدة الى حكومتها الواحدة، واذا بالاستعمار يأتي ليضيف الى هذه الفكرة، فكرة أن تكون مبادئ هذا التشكيل تساوي البشر – في البلاد الاسلامية- من غير فرق بين مسلمهم وكافرهم أمام القانون...".

عدم التوازن هذا يلقي بظلاله السوداء على الواقع الاجتماعي عندما تكون الفكرة والنظرية كل شيء في الحياة، فبدلاً من أن تكون هذه الفكرة وتلك النظرية طريقاً للتخطيط والبرمجة على طريق النمو والتطور، تكون وسيلة لتنظيم المسيرات الجماهيرية وتعبئة المشاعر ضد هذا وذاك، وبعد رفع هتافات الموت والكراهية، تنتهي هذه الفعاليات بحرق هذا العلم أو ذاك، او سحقه بالأقدام احياناً، في تجاوز فاضح للمعايير الدبلوماسية وأصول العلاقات السياسية بين الدول وهو ما لا تنكره نفس الدولة التي تشهد هكذا فعاليات.

ولا يهم بعد ذلك ما ينتج عن الشحن السياسي من ردود أفعال سياسية او طائفية وحتى اقتصادية على البلد والشعب، وهذا ما نلاحظه في عديد البلاد التي خاضت التجربة، مثل "مصر الإخوانية" و "تركيا الاردوغانية"، وما جرى لهما من تطاول للأيديولوجيا على الحياة العامة، و محاولة لزجّ المجتمع والاقتصاد وحتى السياسة، في صراعات و حروب خاسرة، كذلك الحال في التي وصلتها رياح "الاسلام السياسي" مثل سوريا، وما بلغته من فجائع ومآسي يعجز القلم عن ذكرها.

فن الممكن المكلف أحياناً

لا شكّ في أهمية الفكرة والأيديولوجيا في التوجيه والتنظيم، بيد أن الأهم ميدان التطبيق العملي، فالافكار نراها تجول في أدمغة النخبة و رموز قيادية، وإن تخطت قليلاً فانها في بطون الكتب، وفي خطوة أخرى في الندوات والملتقيات الخاصة، كل ذلك لن يكلف المنظرين سوى الحديث والكلام ثم الكلام، بينما تمرير هذا الحديث و الافكار بين الناس بشكل عام هو الاختبار العسير الذي طالما سقطت فيه تيارات وشخصيات فكرية، لانهم في خضم العمل السياسي تناسوا كون السياسة علم وفن، كما أجمع على ذلك العلماء والمفكرون. علماً أن "فن الممكن" ينتهي تارةً الى نتائج سلبية لاحتمال استخدامها قاعدة "الغاية تبرر الوسيلة"، وتارةً اخرى تكون لها نتائج ايجابية عندما تلتزم المعايير والقيم الاخلاقية والانسانية.

وبين هذا وذاك نرى سقوط الفاشلين في تجارب "الاسلام السياسي" عندما يفصلون بين الانسان وبين موضوع علم السياسة، و ربما من هنا جاءت مقولة إبعاد الناس والمجتمع في البلاد الاسلامية عن السياسة، وأنها مدعاة للتلوث والانحراف والفساد، لان خوض المجتمع السياسة بكل مفرداتها ومكوناتها، تكلف أهل الحكم الكثير من المصالح والامتيازات اضافة الى جهد والتزامات عديدة.

وهذا نهج البلاغة مشحون بقواعد في السياسة تنتهي تحكيم القيم والمبادئ ومنها تتحقق مصالح الناس، فقال في احدى خطبه: "... فقد جعل الله لي عليكم حقاً بولاية أمركم، ولكم عليّ من الحق مثل الذي لي عليكم، والحق أوسع الاشياء في التواصف، وأضيقها في التناصف، لا يجري لأحد إلا جرى عليه، ولا يجري له إلا جرى عليه، ولو كان لأحد أن يجري له ولا يجرى عليه لكان ذلك خاصاً لله سبحانه...".

وذات مرة طُلب منه، عليه السلام، أن يعمل وفق قاعدة "الغاية تبرر الوسيلة" فقال: "أتأمرونني أن أطلب النصر بالجور؟! والله ما أطور به ما سمر سمير، وأم نجم في السماء نجماً، لو كان المال لي لسويت بينهم، فكيف والمال مال الله".

هكذا كان أمير المؤمنين، عليه السلام، وهو إن جاز لنا التعبير، نقول أول من برع في تطبيق "الاسلام السياسي" بالمفهوم الدارج، وأعطى درساً بليغاً في أن السياسة كعلم وفن وايضاً فكرة ونظرية، يجب ان تكون وسيلة للبناء والتقدم، لا أن تكون المتحكمة بالمصائر والثوابت، وهذا بحاجة الى غير قليل من الجد والاجتهاد والتفاني والتضحية وسائر المفردات الاخلاقية والانسانية.

اضف تعليق