q

وفدت العلمانية الى البلاد العربية والإسلامية في ظل أجواء من أزمة خانقة مرت بها العلاقات بين الغرب الأوربي والعالم الإسلامي، والسعي الحثيث من جانب الدول الأوربية للاستحواذ على ممتلكات الدولة العثمانية، وكانت جزءا من هذه المحاولات الضغط على هذه الدولة باتجاه تعديل قوانينها المتعلقة بأتباع الديانات الأخرى ونظام الامتيازات الأجنبية، وجاءت استجابة الدولة العثمانية في مرحلة من تراجع القوة السياسية والعسكرية التي امتازت بها هذه الدولة في مراحل سابقة، فشرعت قوانين شكلت أول تخل إسلامي عن تطبيق الشريعة، وفسحت المجال أمام ضغوط أخرى أخذت تتحول الى حاجات إصلاحية وضرورية مهدت لها بقوة التعديلات التي أجرتها حكومة مصر في العام 1805م بإصدار الوالي محمد علي باشا حاكم مصر أمرا بانشاء ديوان باسم (ديوان الوالي) له الحق في الفصل بين المصريين والأجانب ويكون فيه أربعة علماء من المذاهب الإسلامية الأربعة ينظر في مسائل المواريث والأوصياء والجنايات الكبرى، وتقتصر مهمة قضاة هذه المذاهب في النظر في هذه المسائل حصرا مما هدد بانحسار سلطة الشريعة الإسلامية باعتبارها حجر الزاوية في النظام العامـ. (العلمانية، الشيخ محمد مهدي شمس الدين،ص9ـ).

وفي سنة 1826م أنشا مجلس تجار الإسكندرية وضم 12 عضوا ثلاثة منهم من الأوربيين ثم أنشأ على غراره مجلس تجاري في مصر سنة 1827م وكان وجود الأجانب في هذه المجالس أول تدخل مارسه الأجانب في القضاء المصري، واستمرت تلك التعديلات حتى أنشأت محاكم مختلطة وصدرت مجموعة قوانينها سنة 1875م ثم وضع قانون مدني وتجاري وقانون للمرافعات وصدرت هذه القوانين سنة 1883 وشكلت المحاكم الأهلية ومارست عملها سنة 1884 وشملت مصر كلها سنة1889م (م.ن، ص90ـ).

أعقبها صدور لائحة للأحوال الشخصية سنة 1897م وبذلك فصلت الأحوال الشخصية عن غيرها من شؤون الحياة الاجتماعية والاقتصادية في مصر وفي التعديلات التي أجريت بعد ذلك على تلك القوانين لم ترد الاشارة الى مصدرية الشريعة الإسلامية بل حتى كمصدر احتياطي وانما وضعت العرف بعد تشريعات القانون الوضعي الذي سرت نصوصه على جميع المسائل التي تناولها، وبعد العرف يصار الى حكم ومقتضى القانون الطبيعي وقواعد العدالة ثم أضطر المشرع المصري الى أجراء تعديل قانوني قضى بموجبه اعتبار الشريعة الإسلامية مصدرا تشريعيا احتياطيا ثالثا بعد نصوص القانون الوضعي والعرف (م.ن،ص93) وهو ما عملت به التشريعات الوضعية العراقية حيث جاء وبالترتيب التشريع الوضعي أولا والعرف ثانيا ثم الفقه الإسلامي ثالثا وبعد ذلك قواعد العدل رابعا. وقد تأثر المشرع العراقي كليا بالقانون المدني المصري وهو حال القانون السوري وغالبية البلاد العربية التي أقتدت بمصر في تشريعاتها القانونية.

وكان أخطر اعلان لإلغاء الشريعة الإسلامية هو اعلان الغاء الخلافة الإسلامية سنة1922م ورفع شعار تحطيم الأصنام الذي رفعه الراديكاليون الكماليون وطبقوه سنة 1922 بإرغام المواطنين الاتراك على خلع غطاء الراس ذو السمة الاسلامية واستبداله بالقبعة الأوربية وحلت جماعات الدراويش من اجل قطع صلتها الشعبية بالجماهير البسيطة وهي صلة ذات منحى ديني، وعمد الكماليون الى اغلاق التكايا وهدم القبور الإسلامية وثبتوا التقويم الغريغوري الذي بدأ العمل به سنة 1926 م واستبدلت الطريقة الإسلامية في تحديد اليوم الجديد والذي يبدا بصلاة العشاء بالساعة الدولية فكانت في نظر الراديكاليين الكماليين افضل قنوات للاتصال بالعالم الخارجي والبدء بتحديث الدولة التركية.

وامعانا في التشبه بالعالم الأوربي الحديث أعتبر يوم الأحد هو يوم العطلة الرسمية منذ العام 1935م، وكان الشيء الثاني الذي نظروا اليه على أنه صنم أخر هو القانون الإسلامي أو الشريعة والتي استمر العمل بها حتى العام 1926م أي بعد الغاء الخلافة وفي زمن الجمهورية، فأدخل القانون المدني السويسري وقانون العقوبات الإيطالي وقانونا للتجارة يستند الى التشريع الألماني والإيطالي الى تركياـ (صنع تركيا الحديثة، فيروز احمد، ص182 ـ 183ـ) على يد كمال أتاتورك وجماعته من الحداثويين ـ العلمانيين الذين كانوا ينظرون الى الاستعانة بالحرف اللاتيني في كتابة اللغة التركية بديلا عن الحرف العربي أهم وسائل الاصلاح في تحطيم الموروث الديني والسياسي والاجتماعي الذي خلفته الحقبة العثمانية ـ الاسلامية وهي عمليا تكشف عن أهمية التعليم ودوره في محاولات علمنة الواقع الإسلامي سياسيا ـ اجتماعيا وثقافيا.

وهناك مسألة تعود الى رمزية هذا الحرف الدينية باعتباره الحرف الذي خط به القرآن والذي لم تطقه علمانية أتاتورك المتطرفة والتي جاءت نتيجة ضغط الحداثة المتطرفة والمبكرة في اختراق عالمنا الإسلامي وربيبتها الفكرية والسياسية العلمانية التي اختزلت نتيجة التطرف بمعنى واحد يقترب بها من مصطلح (اللائكية) الذي يتميز عن مفهوم الدنيوية بإحالته الى مفاهيم معادية للدين وتمارس فهما اختزاليا للدين، وقد تبددت بجواره كل المعاني الممكنة والمحتملة بل والمقبولة أحيانا دينيا وإسلاميا، فيما تذهب اليه العلمانية وتحمله من معان ممكنة وخصوصا على مستوى الدولة.

وينضاف الى ضغط الحداثة، الضغط الاجتماعي والسياسي الناشئ عن تفكك الدولة الإسلامية العثمانية والحاجة الملحة الى مؤسسات حديثة تستجيب الى متغيرات العصر بعد الأزمة التي شهدتها تركيا في مطلع العقد الثاني من القرن العشرين.

واما بالنسبة الى العالم العربي فأن تلك الضغوط أخذت تتحول الى هم ثقافي وجدل فكري وضعت الأمة على مفترق النظر الديني والجدل العلماني منذ مفتتح القرن العشرين حول هوية الدولة المنشودة في هذا العصر وكان السؤال المركزي في هوية الدولة ما هو الأساس الذي تقوم عليه؟ وكيف يتم التعامل مع مفهوم الجنسية والمعني به القومية في اطار هذه الدولة الحديثة وهو مفهوم يدخل في عناصر التأسيس النظري والقانوني وحتى التاريخي في الدولة الحديثة التي تبنت نظامها وسياستها أوربا بعد زوال عصر الأقطاع وبداية عصر البرجوازية التي تنتسب اليها الدولة الأوربية الحديثة.

لقد كانت معضلة أرقت الجدل الاجتماعي الإسلامي حولها وطرح السؤال حوله صراحة كل من رشيد رضا وشكيب أرسلان قبل منتصف القرن العشرين ـ (الاسلام والديمقراطية، مركز دراسات فلسفة الدين،ص96ـ)، ولازالت تغذي المنافسة الكلامية والمماحكات الأيديولوجية بين العلمانيين والدينيين بعد تأرجح نموذج الدولة بين تاريخ غابر خاص لم يعد له الا حضورا ثقافيا يعيش انفصامه مع الواقع، وبين تاريخ حديث عام لم يطو واقعنا مراحل تطوره أو الدخول في عملية تحولاته، بل هو أنموذج وفق التصور العلماني جاهز للنقل والتطبيق ومن صورها الدولة الوطنية التي أعقبت الدولة العثمانية والتي صارت محنة بالنسبة للأمة وخصوصا بعد ما يسمى بعصر الاستقلال منذ خمسينات القرن العشرين وظهور دكتاتوريات إعتاشت وبشكل طفيلي على العلمنة من جانب والدين من جانب آخر، فأساءت الى كلا الطرفين وعمقت من الأزمة وتبادل الاتهامات بينهما.

لكن قدر ان تورّث هذه الأزمة نوعا من التفهم بين الجانبين فأعقبه تفاهم بين أصحاب المشروعين اليساري والديني في البلاد العربية، فقد خفف العلمانيون من وطأة النقد للدين وتراجعوا عن فكرة اقصائه عن حياة المجتمع بعد أن سلموا ببداهة اقصائه عن الدولة وفق منحى أيديولوجي يساري ـ علماني، وكذلك تراجع الإسلاميون عن حتمية قيام الدولة الدينية فعمدوا الى المشاركة في الانتخابات ورفع شعار الديمقراطية وبما يناقض القيمة المبدئية لأيديولوجيا الاسلام السياسي.

اضف تعليق