q
آراء وافكار - وجهات نظر

السمات الديموغرافية الكبيرة تنشئ قوة عظمى

سؤال عن تأثير التركيبة السكانية في الجغرافيا السياسية

هذا التراجع المقترن بسياسات ميزانية دولة الرفاهية الحديثة، المتمثلة في اقتراض الأموال من الأجيال القادمة لتغطية التقديمات الحالية للناخبين الأكبر سناً، يعني أن معظم حلفاء الولايات المتحدة سيصبحون أقل استعداداً وقدرة على توفير سبل الدفاع عن ذاتهم خلال العقود القادمة. ستصبح الولايات المتحدة أكثر قيمة لشركائها الأمنيين المسنين...
بقلم: نيكولاس إبرستادت

قد لا تحدد الديموغرافيا مصيرنا، لكنها في نظر طلاب الجغرافيا السياسية تكاد أن تفعل ذلك. ورغم أن المؤشرات والمقاييس التقليدية للقوة الاقتصادية والعسكرية تحظى في كثير من الأحيان باهتمام أكبر، فإن هنالك عوامل قليلة تترك تأثيراً في المنافسة الطويلة الأمد بين القوى العظمى، يضاهي ذاك الذي تخلفه التغييرات في حجم السكان وقدراتهم وخصائصهم.

وتعد الولايات المتحدة مثلاً واضحاً على ذلك. ففي عام 1850، شكلت موطناً لنحو 23 مليون شخص، أي أقل بـ13 مليوناً من عدد سكان فرنسا. وحاضراً، يبلغ عدد سكان الولايات المتحدة ما يقرب من 330 مليون نسمة، أي أكبر من عدد السكان البريطانيين والهولنديين والفرنسيين والألمان والإيطاليين مجتمعين.

في الواقع، على مدى أكثر من قرن من الزمان، تضمنت الولايات المتحدة أكبر قوة عاملة مدربة وعالية المؤهلات في العالم. ووفق مؤشرات معينة على غرار متوسط عدد سنوات الدراسة بالنسبة إلى الراشدين، فلطالما اعتبرت من بين الأماكن التي يتمتع سكانها بأعلى مستويات تعليم عالمياً.

وتضطلع تلك الأساسات الديموغرافية المواتية بدور أهم من ذاك الذي تلعبه الجغرافيا أو الموارد الطبيعية في تفسير سبب صعود الولايات المتحدة كقوة اقتصادية وعسكرية بارزة عالمياً بعد الحرب العالمية الثانية، ولماذا لا تزال تحتل هذا الموقع حتى اليوم.

ورغم ذلك، لا يقدم الأداء في زمن ماض، تحقيق نتائج مستقبلية. على مدى العقود القليلة الماضية، تمكنت الدول التي تربطها علاقة تنافسية مع الولايات المتحدة، كالصين، من أن تدخل في منافسة حقيقية معها على مكانة القوى العظمى. ويرجع الفضل الأكبر في ذلك إلى العوامل الديموغرافية.

في غضون ذلك، قضت الولايات المتحدة تدريجاً على تفوقها الديموغرافي وبددته بطرق متعددة، حتى في الوقت الذي عانى فيه حلفاؤها التقليديون في أوروبا وآسيا ركوداً أو تراجعاً سكانياً. وحتى الآن، كان الضرر الذي لحق بالقوة الأميركية محدوداً.

ويرجع ذلك إلى أن المنافسين الجيوسياسيين الرئيسين للولايات المتحدة يواجهون مشكلات ديموغرافية خطرة خاصة بهم. وفي المقابل، فحينما نمعن النظر في المستقبل، نرى أن النمو السكاني وارتفاع مستويات التعليم قد يدفعان دولاً جديدة إلى اكتساب مكانة قوة عظمى.

في الحقيقة، تعطي الخصائص الديموغرافية فكرة عن العالم الجيوسياسي المستقبلي، وكيف ينبغي لواشنطن أن تستعد له. ومن أجل الحفاظ على تفوق الولايات المتحدة، يجب على القادة الأميركيين اتخاذ خطوات تبطئ أو تقلب مسار الاتجاهات الديموغرافية السلبية التي تقوض الآن أسس القوة الأميركية. يجب عليهم أيضاً البدء في إعادة التفكير في استراتيجية واشنطن العالمية، مدركين أن مستقبل النظام الدولي الذي تقوده الولايات المتحدة يكمن في الديمقراطيات الفتية والمتنامية في العالم النامي. ومن خلال السياسة الداخلية الحكيمة والدبلوماسية المستندة إلى بعد النظر، يمكن للقادة الأميركيين ضمان أن الموارد البشرية التي لا تزال ضخمة في بلادهم، ستعزز القوة الأميركية لفترة طويلة في القرن المقبل.

قوة الشعب

بالنسبة إلى الإمبراطوريات والممالك في مرحلة ما قبل الحداثة، ترجم وجود عدد أكبر من السكان بتوفر عدد إضافي من الناس الذين تفرض عليهم الضرائب ويرسلون إلى الحرب، ولكن بفضل التطور الاقتصادي الحديث، أصبحت التركيبة السكانية أكثر أهمية الآن من أي وقت مضى.

منذ الثورة الصناعية، أدت الابتكارات التكنولوجية والتحسينات الأخرى في الإنتاجية البشرية إلى انخفاض طويل الأجل في أسعار الموارد الطبيعية والسلع الأساسية كالغذاء. وفي الوقت نفسه أسهم ذلك المنحى في ارتفاع عائدات العمالة الماهرة بشكل كبير.

في الواقع، يمكن أن يعزى معظم النمو الاقتصادي العالمي منذ الحرب العالمية الثانية إلى عاملين، يتمثل الأول بالتحسينات في رأس المال البشري، وهو مصطلح شامل يندرج تحته التعليم، والصحة، والتغذية، والتدريب، وعوامل أخرى تحدد إمكانات الأفراد العاملين كلاً على حدة. ويتجسد الثاني بمناخات العمل الملائمة التي أطلقت العنان لقيمة تلك الموارد البشرية.

وعلى وجه الخصوص، يملك رأس المال البشري تأثيراً هائلاً في الاقتصادات. ومثلاً، فمقابل كل عام يضاف إلى متوسط العمر المتوقع اليوم في دولة ما، تحصل زيادة دائمة في نصيب الفرد من الدخل بنحو أربعة في المئة، في تلك الدولة. ومقابل كل سنة دراسية إضافية يحصلها مواطنو دولة ما، تحدث زيادة بـ10 في المئة في متوسط نصيب الفرد من الناتج المحلي الإجمالي في تلك الدولة.

وقد أدت الفوارق الشاسعة بين تنمية رأس المال البشري في بلدان مختلفة إلى ظهور فجوات في الإنتاجية الاقتصادية اليوم أكبر مما كانت عليه في أي مرحلة سابقة من التاريخ. ومثلاً، في عام 2017، وفقاً لتقديرات "البنك الدولي"، بلغ نصيب الفرد من الناتج المحلي الإجمالي في إيرلندا إلى مستوى يفوق بمئة مرة تقريباً من ذاك المسجل في جمهورية أفريقيا الوسطى (عند تعديله وفقاً للقوة الشرائية النسبية).

ورغم ذلك، لا تكون هذه التباينات ثابتة بشكل قاطع. فبفضل التقدم التكنولوجي الكبير، يمكن للدول الآن زيادة رأسمالها البشري بشكل أسرع من أي وقت مضى. استغرقت السويد من عام 1886 إلى عام 2003 لترفع متوسط العمر المتوقع فيها من 50 عاماً إلى 80 عاماً. في المقابل، حققت كوريا الجنوبية النتيجة نفسها في أقل من نصف الوقت، إذ حدث ذلك بين أواخر خمسينيات القرن العشرين وعام 2009.

ورغم إمكانية حدوث مثل هذه التحسينات السريعة وغير المتوقعة في كثير من الأحيان في رأس المال البشري، فإن الديموغرافيا ككل تمثل أحد العلوم الاجتماعية التي يمكن التنبؤ بمساراتها إلى حد ما. وخلافاً للتوقعات الاقتصادية أو التكنولوجية، تميل التوقعات السكانية لأن تكون دقيقة نسبياً على مدى عدة عقود على الأقل.

ومثلاً، يتوقع أن معظم الناس الذين سيعيشون في عالم 2040، هم على قيد الحياة اليوم. وعلى رغم أن هذه التوقعات لا يمكن أن تتنبأ بالمستقبل، فإنها تستطيع أن تحدد بصورة تقريبية معالم السياسة الدولية وخطوطها العامة التي تمثل عالم الممكنات المتغير في الشؤون العالمية. لذا، يتعين على صانعي السياسة الذين يرغبون في التخطيط على المدى الطويل أن يولوا الأمر اهتماماً أكبر.

المشكلات السكانية في جمهورية الصين الشعبية

حاضراً، تهيمن على الساحة الدولية قوة عظمى واحدة (الولايات المتحدة) وقوتان كبيرتان (الصين وروسيا). بطبيعة الحال، إن المغامرات الأميركية الخاسرة الأخيرة في الخارج والاضطرابات السياسية في الداخل دفعت البعض إلى الإشارة إلى أن القوة الأميركية تتضاءل. في المقابل، إن إلقاء نظرة على التوقعات الديموغرافية للصين وروسيا يوحي بأن المخاوف من أن تفقد الولايات المتحدة مكانتها المتفوقة في أي وقت قريب، ليست في محلها.

،، تؤدي الاتجاهات الديموغرافية غير المواتية إلى خلق رياح معاكسة شديدة في وجه الاقتصاد الصيني ،،

في الواقع، تعد الصين المنافس الدولي الرئيس للولايات المتحدة. وتبدو للوهلة الأولى منافساً مثيراً للإعجاب حقاً. إنها الدولة الأكثر اكتظاظاً بالسكان في العالم. ويبلغ عدد سكانها نحو 1.4 مليار نسمة. وعلى مدار العقود الأربعة الماضية، شهدت الصين أسرع طفرة اقتصادية مستدامة في تاريخ البشرية.

ووفقاً لمعدل القدرة الشرائية النسبية، أصبح الاقتصاد الصيني الأكبر في العالم الآن. وعادة، يعزى نمو الصين منذ سبعينيات القرن الماضي إلى سياسات دينغ خسياو بينغ الذي دفع البلاد في اتجاه أكثر تأييداً للسوق الحرة بعد أن تبوأ مركز القائد الأعلى [للحزب الشيوعي الصيني] في عام 1978.

لكن، تجدر الإشارة إلى أن الخصائص الديموغرافية أدت أيضاً دوراً حاسماً في ذلك. بين عامي 1975 و2010، أصبح عدد السكان ممن هم في سن العمل (تتراوح أعمارهم بين 15 و64 عاماً) في الصين، ضعفي ما كان عليه قبل ذلك. وارتفع إجمالي ساعات العمل بشكل متسارع، إذ تخلت البلاد عن السياسات الماوية التي جعلت العمالة المدفوعة الأجر أقل توافراً وجاذبية. كذلك، تحسن الوضع الصحي وارتفع مستوى التحصيل العلمي بسرعة أيضاً.

وبالنظر إلى هذه المعدلات المثيرة للإعجاب، يتوقع كثيرون، بما في ذلك القيادات الصينية على ما يبدو، أن الصين ستتفوق على الولايات المتحدة باعتبارها القوة الرائدة في العالم في وقت ما خلال العقدين المقبلين. في المقابل، تشير التوقعات الديموغرافية طويلة الأمد في البلاد إلى خلاف ذلك.

على مدى الجيلين الماضيين، شهدت الصين انهياراً في الخصوبة تفاقم بسبب البرامج القاسية التي اعتمدتها بكين بهدف التحكم في عدد السكان. وفي عام 2015، ألغيت "سياسة الطفل الواحد" التي فرضت في عام 1979، بيد أن الضرر حدث بالفعل.

وهبط "معدل الخصوبة الإجمالي" Total Fertility Rate في الصين إلى مستوى أدنى مما بلغه معدل الإحلال البالغ 2.1 طفل لكل امرأة منذ أوائل تسعينيات القرن العشرين في الأقل. ووفقاً لشعبة السكان التابعة للأمم المتحدة، يبلغ "معدل الخصوبة الإجمالي" في الصين الآن 1.6.

في المقابل، يعتقد بعض المحللين على غرار كاي فانغ، الخبير الديموغرافي الصيني وعضو اللجنة الدائمة للمجلس الوطني لنواب الشعب الصيني، بأن ذلك المعطل قد ينخفض إلى 1.4، فيكون أقل من معدل الإحلال بما يتخطى الـ30 في المئة تقريباً. وفي المدن الكبرى كشنغهاي، قد يبلغ معدل الخصوبة ولادة واحدة لكل امرأة أو أقل.

وفي ظل عقود من الخصوبة المنخفضة للغاية في ماضيها القريب، واستمرار ذلك لعقود قادمة أخرى، ومع غياب احتمال حصول هجرة جماعية، ستشهد الصين ذروتها السكانية مع حلول عام 2027، وفقاً لتوقعات "مكتب الإحصاء الأميركي".

لقد تقلص عدد السكان ممن هم في سن العمل [أي نسبة الإعالة العمرية] بالفعل على مدار السنوات الخمس الماضية. ومن المفترض أن ينخفض بما لا يقل عن 100 مليون بين عامي 2015 و2040. وستشهد البلاد هبوطاً كبيراً بشكل خاص في عدد السكان الذين هم في سن العمل وتقل أعمارهم عن 30 عاماً.

وقد يلامس ذلك الانخفاض الـ30 في المئة تقريباً خلال تلك السنوات. رغم أن المستوى التعليمي لهذا الجيل الصاعد سيكون الأفضل في تاريخ الصين، فإن النمو الإجمالي في التحصيل التعليمي في البلاد سيتباطأ، إذ إن الأجيال الأكبر سناً والأقل تعليماً ستشكل تدريجاً النسبة الأكبر من إجمالي السكان.

وفي ذلك الإطار، يقدر "مركز فيتغنشتاين للديموغرافيا ورأس المال البشري العالمي" The Wittgenstein Centre for Demography and Global Human Capital أنه بحلول عام 2040، سيكون معدل سنوات الدراسة لدى البالغين في الصين أقل من ذاك المسجل في بوليفيا أو زيمبابوي.

واستطراداً، مع انخفاض عدد من يكونوا ضمن سني العمل في الصين، من المتوقع أن يشهد عدد سكانها ممن تزيد أعمارهم على 65 عاماً انفجاراً ديموغرافياً. وبين عامي 2015 و2040، من المتوقع أن يرتفع عدد الصينيين فوق سن الـ65 من نحو 135 مليوناً إلى 325 مليوناً أو أكثر.

وبحلول عام 2040، يمكن أن يكون عدد كبار السن في الصين ضعفي عدد الأطفال الذين تقل أعمارهم عن 15 عاماً. كذلك، من الممكن أن يرتفع متوسط عمر سكان الصين إلى 48 عاماً، مقارنة بـ37 عاماً في عام 2015 وأقل من 25 عاماً في عام 1990.

في الحقيقة، لم يسبق لأي بلد آخر أن شهد ارتفاعاً في نسبة المسنين بهذه السرعة الهائلة. وسترتفع هذه النسبة بشكل خاص في المناطق الريفية الصينية، مع هجرة الشباب الصيني إلى المدن بحثاً عن الفرص. إجمالاً، سيكون كبار السن في الصين في عام 2040 فقراء وغير متعلمين، ويعتمدون على الآخرين في تلبية معظم حاجاتهم الاستهلاكية، وغيرها من الحاجات.

استطراداً، تؤدي هذه الاتجاهات الديموغرافية غير المواتية مجتمعة إلى خلق رياح معاكسة شديدة في وجه الاقتصاد الصيني. وما زاد الطين بلة هو أن الصين تواجه عوامل ديموغرافية معاكسة إضافية. ومثلاً، ففي ظل "سياسة الطفل الواحد" فضلت الأسر الصينية الإجهاض غالباً على أن يرزقوا بمولودة أنثى، ما خلق واحدة من النسب الأقل توازناً بين عدد الذكور والإناث في صفوف الأطفال والرضع في العالم الحديث.

وفي السنوات المقبلة، سيتعين على الصين التعامل مع مشكلة زيادة عدد الذكور بعشرات الملايين. وسيكون معظمهم من خلفيات ريفية محرومة، مع عدم وجود أي احتمالات للزواج، أو الإنجاب، أو استمرارية نسلهم.

ستواجه الصين أيضاً مشكلة ذات صلة في الجيل القادم بالترافق مع تلاشي الهياكل الأسرية الصينية التقليدية أو تبخرها. منذ فجر التاريخ، اعتمد المجتمع الصيني على علاقات القرابة الممتدة للتعامل مع المخاطر الاقتصادية. ورغم ذلك، فإن الجيل الصاعد من الشباب الصينيين في المناطق الحضرية لا يتكون سوى من أطفال وحيدين لآباء وحيدين، أي إنهم رجال ونساء من دون أشقاء أو أنسباء أو عمات [أو خالات] أو أعمام [أو أخوال]. وسيشكل ذلك نهاية 2500 عام من التقاليد العائلية في الحضارة الصينية، ما يعتبر بمثابة خروج إلى المجهول. ومن الواضح أن بكين غير مستعدة لهذه القفزة الكبيرة الوشيكة.

المفارقة الروسية

بالنسبة إلى روسيا، قد تكون التوقعات الديموغرافية أسوأ. يرى الكرملين نفسه على أنه يقود قوة عالمية، بيد أن هذه النظرة المبالغ فيها تجاه الذات لا تتطابق إلى حد كبير مع الموارد البشرية المتاحة له. ومن ناحية السكان ورأس المال البشري، تبدو روسيا قوة حكم عليها بتراجع يستحيل تداركه.

من بعض الجوانب، تعد روسيا دولة أوروبية نموذجية، إذ تواجه شيخوخة سكانية وتقلصاً في عدد السكان وصعوبات في استيعاب القوى العاملة المهاجرة صاحبة المهارات المتدنية التي يعتمد عليها اقتصادها بشكل متزايد، لكن فيما يتعلق الأمر برأس المال البشري، تواجه روسيا أزمة حادة.

بعد نصف قرن كامل من الركود أو التراجع، شهدت روسيا أخيراً تحسناً على مدار العقد الماضي في صحة شعبها العامة، وفق ما يتضح من المعايير والمؤشرات كمتوسط العمر المتوقع عند الولادة، بيد أن الوضع لا يزال مزرياً. ففي عام 2016، بحسب "منظمة الصحة العالمية"، كان ممكناً توقع أن الذكور الروس ممن هم في الـ15 من العمر، سيعيشون تقريباً 52.3 عاماً أخرى، أي أقل بقليل من نظرائهم في هايتي.

في المقابل، سجلت الإناث الروس البالغات من العمر 15 سنة، رغم أنهن أفضل حالاً من الذكور، ارتفاعاً ضئيلاً في العمر المتوقع لديهن بالمقارنة مع ما ورد في قائمة الأمم المتحدة عن المعدل نفسه في البلدان الأقل نمواً.

وإضافة إلى المشكلات الصحية في روسيا، تواجه البلاد فشلاً في إنتاج المعرفة. يمكن أن نطلق على ذلك اسم "المفارقة الروسية" المتمثلة في مستويات عالية من التعليم مقابل مستويات منخفضة من رأس المال البشري. رغم وجود مواطنين متعلمين ظاهرياً، فإن روسيا (التي يبلغ عدد سكانها 145 مليون نسمة) تحصل سنوياً على براءات اختراع من "مكتب الولايات المتحدة لبراءات الاختراع والعلامات التجارية" U.S. Patent and Trademark Office يقل عما تسجله ولاية ألاباما (التي يبلغ عدد سكانها خمسة ملايين).

واستطراداً، تكسب روسيا من صادراتها الخدمية أقل مما تكسبه الدنمارك التي يبلغ عدد سكانها ستة ملايين. وكذلك تسجل روسيا ثروات خاصة أقل من تلك الموجودة في السويد التي يصل عدد سكانها إلى عشرة ملايين. وبما أنه من المتوقع أن السكان الروس الذين هم في سن العمل، سيتقدمون في السن ويتقلص عددهم بين عامي 2015 و2040، فإن إمكانات روسيا الاقتصادية النسبية ستتضاءل أيضاً.

ويمكن للدول الرجعية الطموحة على غرار روسيا، أن تتخذ لبعض الوقت إجراءات تفوق قدرتها في الشؤون الدولية. وفي المقابل، فبسبب التدخلات الخارجية والمغامرات العسكرية التي يمارسها الرئيس الروسي فلاديمير بوتين، تواجه بلاده قيوداً ديموغرافية تجعل من الصعب للغاية بالنسبة إليه، ومن سيأتي بعده، الحفاظ على الموقف الجيوسياسي الروسي على حاله حاضراً، فيما يبدو تحسين ذلك الموقف أمراً بعيد المنال.

الميزة الأميركية

بالمقارنة مع منافستيها الرئيستين، فإن الولايات المتحدة في موقف تحسد عليه. وينبغي ألا يشكل هذا الأمر مفاجأة. لقد اعتبرت الولايات المتحدة أقوى دولة في العالم منذ الحرب العالمية الثانية. وأدت مزاياها الديموغرافية المتمثلة في عدد سكانها الكبير ونسبة المتعلمين المرتفعة، ومعدلات الخصوبة العالية نسبياً، والسياسات المرحبة بالهجرة، دوراً بالغ الأهمية في هذا النجاح.

وتتمثل الميزة الديموغرافية الأكبر التي تتمتع بها الولايات المتحدة بحجم سكانها. إنها ثالث أكبر دولة في العالم من حيث عدد السكان. ومن المرجح أن تظل كذلك حتى عام 2040. ولا يوجد أي بلد متقدم آخر يقترب منها لجهة عدد سكانه. ومثلاً، تحتل اليابان وألمانيا المرتبتين الثانية والثالثة ديموغرافياً بين البلدان المتقدمة [أي بعد الولايات المتحدة بحسب الترتيب الديموغرافي]، يبلغ عدد سكانهما على التوالي خمسي [40 في المئة لليابان] وربع عدد سكان [لألمانيا] الولايات المتحدة.

بين عامي 1990 و2015، سجلت الولايات المتحدة إجمالي النمو السكاني الذي تحققق ضمن "المناطق الأكثر تطوراً" في الأمم المتحدة. وتشير توقعات الأمم المتحدة و"مكتب الإحصاء الأميركي" إلى أنها ستشكل مصدر غالبية النمو السكاني المسجل في هذه المناطق بين عامي 2015 و2040.

في الواقع، باستثناء أفريقيا جنوب الصحراء الكبرى، وهي المنطقة الوحيدة التي لا يزال فيها معدل النمو السكاني في ازدياد، يتجه سكان الولايات المتحدة إلى النمو بوتيرة أسرع قليلاً من بقية سكان العالم من الآن وحتى عام 2040.

،، من غير المحتمل أن يتفوق أي منافس على الولايات المتحدة من حيث الإمكانات البشرية الخام في أي وقت قريب ،،

في الواقع، تستفيد الولايات المتحدة مما يمكن تسميته "الاستثناء الديموغرافي الأميركي". ولدى مقارنتها مع الدول المتقدمة الأخرى، تمتعت الولايات المتحدة دوماً بمستويات عالية من الهجرة الوافدة ومعدلات ولادات مرتفعة. بين عامي 1950 و2015، هاجر نحو 50 مليون شخص إلى الولايات المتحدة، ما يمثل تقريباً نصف معدل الهجرة الصافي في العالم المتقدم خلال تلك الفترة الزمنية. وقد شكل هؤلاء المهاجرون وأحفادهم معظم معدل النمو السكاني المسجل في الولايات المتحدة خلال تلك العقود.

والجدير بالذكر أن الخصوبة في الولايات المتحدة مرتفعة أيضاً بشكل استثنائي بالنسبة إلى مجتمع ثري. وبصرف النظر عن التراجع الموقت أثناء حرب فيتنام وبعدها مباشرة، لطالما تجاوزت معدلات الولادات في الولايات المتحدة بعد الحرب العالمية الثانية تلك المسجلة في الدول المتقدمة.

وبين منتصف ثمانينيات القرن العشرين والأزمة المالية لعام 2008، مثلت الولايات المتحدة الدولة الغنية الوحيدة التي تتمتع بالخصوبة في معدل الإحلال [يعني ذلك أن معدل الخصوبة الكلي سجل 2.1 طفل لكل امرأة، مع ملاحظة أن الأسرة تتكون من شخصين، مما يعني زيادة بـ0.1 لكل أسرة].

وبافتراض استمرار المستويات المعتادة من الهجرة، ومستوى الخصوبة القريب من معدل الإحلال، يتوقع معظم علماء الديموغرافيا أنه بحلول عام 2040، سيبلغ عدد سكان الولايات المتحدة نحو 380 مليون نسمة، بالتالي سيكون سكانها أصغر سناً من أي ديمقراطية غنية أخرى تقريباً، وسيستمر ازدياد عدد سكانها ممن هم في سن العمل. وخلافاً لبقية دول العالم المتقدم في عام 2040، ستظل الولايات المتحدة تشهد ولادات أكثر من الوفيات.

ورغم ذلك، فإن الميزة الديموغرافية للولايات المتحدة لا تتعلق بالأعداد فحسب. لأكثر من قرن، استفادت الولايات المتحدة من كادر كبير ومتزايد من العمال ذوي المهارات العالية. وتشير البحوث التي أجراها الخبيران الاقتصاديان روبرت بارو وجونغ وا لي حول التحصيل العلمي إلى أنه بين عامي 1870 و2010، كان الأميركيون أكثر الناس تعلماً في العالم لجهة معدل السنوات الدراسية التي تلقاها من هم في سن العمل.

في عام 2015، وفقاً لتقديراتهما، حصل 56 مليون رجل وامرأة في الولايات المتحدة تتراوح أعمارهم بين 25 و64 سنة، على درجات البكالوريوس أو شهادات عليا [مراحل ما قبل البكالوريوس أو في مسارات أخرى غير جامعة كالتعليم المهني]، أي ضعفي العدد المسجل في الصين ونحو سدس العدد الإجمالي المسجل عالمياً.

ووفقاً لطلبات براءات الاختراع الدولية والمنشورات العلمية، تحتل الولايات المتحدة مركز الصدارة عالمياً في مجال البحث والتطوير. وينطبق وصف مماثل على مجال تحقيق الثروات، إذ جمع الأميركيون ثروات خاصة منذ عام 2000 تتخطى تلك التي جمعها الصينيون على مر التاريخ المدون.

المهمة المقبلة

رغم هذه المزايا، ليست الأمور كلها على ما يرام بالنسبة إلى الولايات المتحدة، إذ تحذر بعض المؤشرات الديموغرافية الرئيسة من وقوع مشكلات خطرة. في عام 2014، بدأ متوسط العمر المتوقع في الولايات المتحدة ينخفض ببطء، لكن بشكل مطرد، للمرة الأولى منذ قرن.

ويرجع هذا الانخفاض في جزء منه إلى الارتفاع المفاجئ في ما يسمى الموت يأساً (أي الوفيات الناجمة عن الانتحار، أو أخذ جرعة زائدة من المخدرات، أو مضاعفات إدمان الكحول)، خصوصاً في المناطق التي تعاني كساداً اقتصادياً في البلاد.

ورغم ذلك، حتى قبل أن يبدأ التراجع، جاء التقدم الذي أحرزته الولايات المتحدة في مؤشرات الصحة العامة بطيئاً للغاية ومكلفاً جداً. وبطريقة موازية، توقف التحسن في التحصيل التعليمي لعقود من الزمن. واعتباراً من عام 2010، بلغ معدل سنوات الدراسة لدى البالغين الأميركيين المولودين في أوائل ثمانينيات القرن الماضي 13.7 عاماً، أي أعلى بكسور قليلة من معدل سنوات التعليم البالغ 13.5 عاماً التي تلقاها جيل آبائهم، المولودين في أوائل خمسينيات القرن العشرين.

وفي الوقت نفسه فإن معدلات التوظيف لدى الرجال الأميركيين ممن هم في السن المثالية للعمل (بين عمري الـ25 والـ54) وصلت إلى مستويات لم نشهدها منذ مرحلة "الكساد الكبير" The Great Depression. [حدث الكساد الكبير في ثلاثينيات القرن العشرين. واتسم ببطالة هائلة وتضخم اقتصادي مفرط وهبوط كبير في الاستثمار والقدرة الشرائية. وشهدت أوروبا أمراً مماثلاً. ودأب محللون كثيرون على اعتبار ذلك من مقدمات الحرب العالمية الثانية].

علاوة على ذلك، من الممكن أن تكون التوقعات المتوافق عليها للنمو السكاني في الولايات المتحدة متفائلة للغاية، إذ تفترض عموماً أن الخصوبة في الولايات المتحدة ستصل مجدداً إلى معدل الإحلال، لكن في الواقع، إن معدل الخصوبة في الولايات المتحدة انخفض بنحو عشرة في المئة بعد عام 2008 ولا تظهر أي بوادر للتعافي.

ووفقاً لـ"مراكز السيطرة على الأمراض والوقاية منها" في عام 2017، بلغ معدل الخصوبة الإجمالي في الولايات المتحدة 1.77، وذلك أدنى مستوى منذ سبعينيات القرن العشرين وأقل من المعدلات المسجلة في الدول الأوروبية كفرنسا والسويد.

كذلك تفترض معظم التوقعات الديموغرافية أيضاً أن الولايات المتحدة ستحافظ على معدل صافي الهجرة عند مستواه الحالي البالغ نحو مليون شخص سنوياً، لكن الهجرة هي ظاهرة سياسية في جوهرها. في الماضي، قررت الولايات المتحدة إيقاف الهجرة تصدياً لبعض الاضطرابات المحلية، وقد تفعل ذلك مرة أخرى.

وحتى مع ظهور علامات التراجع المقلقة هذه، من غير المرجح أن يتفوق أي منافس على الولايات المتحدة من حيث الإمكانات البشرية الخام في أي وقت قريب. في الصين والهند مثلاً، قد يكون عدد العاملين الذين حصلوا تعليمهم الجامعي أكبر من العدد الموجود في الولايات المتحدة بحلول عام 2040، لكن الجودة الفائقة للتعليم العالي الأميركي ستصب بشكل كبير في مصلحة الولايات المتحدة، ومن شبه المؤكد أنها ستظل تمتلك أكبر عدد من العمال الحاصلين على شهادات عليا في العالم.

وفي المقابل، إذا استمرت مؤشرات الديموغرافيا والموارد البشرية الأميركية في الركود أو التراجع، فقد يفقد الأميركيون رغبتهم في لعب دور رائد في الشؤون الدولية. وكذلك قد تتزايد النزعة الانعزالية والشعبوية، ويصبح الناخبون الأميركيون غير راغبين في تحمل الكلفة الباهظة للحفاظ على النظام الدولي. وهناك أيضاً خطر كبير بأن تؤثر الاتجاهات المخيبة للآمال نسبياً في مجالي الصحة والتعليم في الولايات المتحدة، بصورة سلبية على أدائها الاقتصادي على المدى الطويل.

ومن أجل تجنب هذه النتائج، ستحتاج الولايات المتحدة إلى تنشيط قاعدة مواردها البشرية واستعادة ديناميكيتها في مجالات الأعمال والصحة والتعليم. وسيكون ذلك أمراً صعباً للغاية، باعتباره مهمة بعيدة المدى تتجاوز سلطات الحكومة الفيدرالية وحدها. ورغم ذلك، فإن الخطوة الأولى تتجسد في أن يدرك الأميركيون من مختلف الانتماءات السياسية مدى إلحاح هذه المهمة.

حلفاء مسنون

حتى أثناء محاولتهم إعادة الاتجاهات الديموغرافية في الولايات المتحدة إلى مسارها الصحيح، يجب على صانعي السياسة الأميركيين أيضاً البدء في تصور الشكل الذي يجب أن تتخذه استراتيجية الولايات المتحدة ضمن عالم لم تعد فيه المزايا الديموغرافية تضمن الهيمنة الأميركية. ويتمثل أحد الحلول الجذابة في الاعتماد أكثر على شركاء الولايات المتحدة التقليديين.

في الواقع، يبلغ الناتج المحلي الإجمالي لليابان أربعة أضعاف حجم الناتج الروسي على أساس سعر الصرف. ورغم أن إجمالي عدد سكانها أقل بقليل من عدد سكان روسيا، فإن اليابان تملك كادراً أكبر من العمال ذوي المهارات العالية. في المقابل، يبلغ عدد سكان الاتحاد الأوروبي الحالي نحو 512 مليون نسمة، أي أكثر بـ200 مليون تقريباً من سكان الولايات المتحدة، ولا يزال اقتصاده أكبر بكثير من اقتصاد الصين على أساس سعر الصرف.

واستطراداً، تكمن المشكلة في أن عدداً كبيراً من حلفاء واشنطن التقليديين يواجهون تحديات ديموغرافية أكثر صعوبة مما تواجهه الولايات المتحدة. ومثلاً، رغم أن شعوب الدول الأعضاء في الاتحاد الأوروبي واليابان تتمتع بصحة جيدة، وتعليم جيد، وإنتاجية عالية، إلا أنها سجلت معدلات خصوبة أقل بقليل من معدل الإحلال منذ سبعينيات القرن العشرين، ثم بدأت تلك المعدلات في الهبوط إلى مستويات جديدة في ثمانينيات القرن نفسه.

وتشهد هذه الدول الآن عدد وفيات يفوق عدد المواليد، وانخفاضاً على المدى البعيد في عدد السكان ممن هم في سن العمل. وبطريقة موازية، تشيخ شعوبها [أوروبا واليابان] بشكل عام بمعدلات كانت ستبدو منذ وقت ليس ببعيد أقرب إلى الخيال العلمي. والجدير بالذكر يتمثل الاختلاف الديموغرافي الرئيس بين الاتحاد الأوروبي واليابان في أن أوروبا تبنت الهجرة فيما لم تفعل اليابان ذلك.

وفي مسار موازٍ، يملك النهجان عيوبهما الخاصة بهما. بالنسبة إلى الدول الأعضاء في الاتحاد الأوروبي، أدت الهجرة إلى تأجيل تقلص القوى العاملة لديها وإبطاء شيخوخة سكانها. على رغم ذلك، فإن سجل الاتحاد الأوروبي في إدماج الوافدين الجدد، خصوصاً المسلمين من البلدان الفقيرة، غير متكافئ في أحسن الأحوال.

وكذلك تعكر الصراعات الثقافية حول الهجرة صفو السياسات في جميع أنحاء القارة. وقد تجنبت اليابان هذه الاضطرابات، لكن على حساب انخفاض سريع لا رجعة فيه في عدد السكان. وعلى غرار ما حدث في الصين، أدى ذلك الأمر نفسه إلى انهيار الأسرة اليابانية التقليدية.

ويتوقع علماء الديموغرافيا اليابانيون أن المرأة التي ولدت في اليابان في عام 1990 لديها فرصة تقارب 40 في المئة بأن لا تنجب أطفالاً، و50 في المئة بأنها لن تحظى بأي أحفاد. إذاً، تتجه اليابان نحو شيخوخة سكانية، بالترافق مع تحولها دولة تتألف من وحدات اجتماعية مسنة ومعزولة، تتزايد حاجاتها وينخفض الدعم الأسري فيها.

واستطراداً، يذكر أن انخفاض عدد السكان لا يمنع التحسينات في مستويات المعيشة، إلا أنه يشكل عبئاً على القوة الاقتصادية والعسكرية النسبية. وفقاً لـ"مكتب الإحصاء الأميركي"، من المتوقع أن ينمو عدد السكان الأميركيين ممن هم في سن العمل بنحو عشرة في المئة بين عامي 2015 و2040. وخلال الفترة نفسها، من المتوقع أن يتقلص عدد السكان ممن هم في سن العمل داخل ألمانيا وكوريا الجنوبية بـ20 في المئة، وفي اليابان بـ22 في المئة.

وبطريقة موازية، من المتوقع خلال تلك الفترة أن يزداد عدد الشباب ممن تتراوح أعمارهم بين 15 و24 عاماً بـ3 في المئة في الولايات المتحدة، علماً أنها الفئة التي يجري تجنيد القوى العاملة العسكرية منها عادة. وفي المقابل، سينخفض ذلك العدد بـ23 في المئة في ألمانيا، و25 في المئة في اليابان، ونحو 40 في المئة في كوريا الجنوبية.

وكخلاصة، إن هذا التراجع المقترن بسياسات ميزانية دولة الرفاهية الحديثة، المتمثلة في اقتراض الأموال من الأجيال القادمة لتغطية التقديمات الحالية للناخبين الأكبر سناً، يعني أن معظم حلفاء الولايات المتحدة سيصبحون أقل استعداداً وقدرة على توفير سبل الدفاع عن ذاتهم خلال العقود القادمة.

بعبارة أخرى، ستصبح الولايات المتحدة أكثر قيمة لشركائها الأمنيين المسنين في الوقت نفسه الذي تتضاءل فيه قيمتهم بالنسبة إلى واشنطن. ويجري ذلك كله في الوقت الذي تبدأ فيه الميزة الديموغرافية للولايات المتحدة في الانهيار.

تكوين صداقات جديدة

في منحى مغاير، فحتى في الوقت الذي تستنزف الاتجاهات السكانية قوة القوى التقليدية في أوروبا وشرق آسيا، فإنها تدفع بمجموعة جديدة كاملة من البلدان لنيل مكانة القوة العظمى، ومن بينها حلفاء وشركاء محتملون للولايات المتحدة. ومن خلال التقرب من تلك القوى الصاعدة، يمكن لصانعي السياسة الأميركيين تعزيز النظام الدولي على مدار عقود قادمة.

وكذلك يجب أن تبدأ واشنطن بتحويل انتباهها إلى جنوب آسيا وجنوب شرقها. وبينما يتناقص عدد السكان في اليابان وكوريا الجنوبية مثلاً، سيستمر نمو الديمقراطيات الناشئة في دول كإندونيسيا والفيليبين. وبحلول عام 2040، يمكن أن يرتفع عدد سكان إندونيسيا البالغ 260 مليوناً حالياً، إلى أكثر من 300 مليوناً، وقد يصل عدد سكان الفيليبين إلى 140 مليوناً، وسيكون على الأرجح أكبر من عدد سكان روسيا.

علاوة على ذلك، إن شعوب كلا البلدين فتية وتتلقى تعليماً جيداً بشكل متزايد. في عام 2015، بلغ عدد الأشخاص الذين تتراوح أعمارهم بين 20 و39 عاماً في الصين نحو أربعة أضعاف العدد نفسه في إندونيسيا والفيليبين مجتمعتين. ومع حلول عام 2040، من المتوقع أن ينخفض من أربعة أضعاف إلى الضعف فحسب. وكذلك من المرجح أن تدخل إندونيسيا والفيليبين في مواجهة متزايدة مع الصين التوسعية، بالتالي، فقد تكتشفان أهمية تعميق التعاون الأمني مع الولايات المتحدة.

في ملمح مختلف، يعد النمو السكاني في إندونيسيا والفيليبين ضعيفاً بالمقارنة مع ذاك المسجل في الهند، إذ تسير هذه الأخيرة في طريقها لتجاوز الصين كأكبر دولة في العالم من حيث عدد السكان خلال العقد المقبل. ومع حلول عام 2040، فإن عدد الأشخاص الذين هم في سن العمل في الهند سيتخطى عدد السكان المنتمين إلى هذه الفئة العمرية نفسها في الصين بمقدار 200 مليون. وسيظل عدد سكان الهند في تزايد في عام 2040، في الوقت الذي سيشهد فيه عدد سكان الصين انخفاضاً سريعاً.

ومع حلول ذلك الوقت، سيكون نحو 24 في المئة من سكان الصين قد تجاوزوا سن الـ65 سنة، مقابل 12 في المئة تقريباً من سكان الهند. من ناحية أخرى، تواجه الهند مشكلاتها الخاصة في ما يتعلق بالديموغرافيا والموارد البشرية.

وبالمقارنة مع الصين، لا تزال الهند تسجل مؤشرات ضعيفة في مجال الصحة العامة، مع متوسط تحصيل علمي منخفضاً، ومستويات عالية جداً من الأمية. ورغم سنوات من محاولات الإصلاح، لا تزال الهند تحتل المرتبة 130 من بين 186 دولة وفق "مؤشر الحرية الاقتصادية" الذي أصدرته "مؤسسة التراث" الأميركية [هيريتدج فاونديشن].

ومع حلول عام 2040، قد تمتلك الهند مجموعة أكبر من العمال المتمتعين بمستويات عالية من التعليم والذين تتراوح أعمارهم بين 20 و49 عاماً، بالمقارنة مع الصين، وستزداد ميزتها الديموغرافية سنة تلو الأخرى. وفي الواقع، سبق أن بدأت الولايات المتحدة والهند في التعاون في مجال الدفاع من أجل مواجهة الصين. وعلى القادة الأميركيين أن يجعلوا تعميق هذه الشراكة في السنوات المقبلة على قائمة أولوياتهم.

تتمتع الولايات المتحدة اليوم بكثير من المزايا مقارنة مع منافسيها الدوليين، ويرجع الفضل في ذلك إلى حد كبير إلى التركيبة السكانية المواتية. ورغم ذلك، لا يمكن اعتبار قوة الولايات المتحدة أمراً مسلماً به. وسنشهد على مأساة جيوسياسية إذا تلاشى النظام الاقتصادي والأمني الذي بنته الولايات المتحدة في فترة ما بعد الحرب، إذ لا يوجد أي ترتيب بديل يعد بتوفير درجة من الحرية والازدهار لهذا العدد الكبير من الناس توازي تلك التي يوفرها النظام الدولي بقيادة الولايات المتحدة اليوم.

ولحسن الحظ، من المستطاع تفادي تلك المأساة. إذا تمكنت الولايات المتحدة من البدء في إصلاح قاعدة رأس المال البشري فيها، وعقد تحالفات جديدة للقرن الحادي والعشرين، فستتمكن من تعزيز السلام العالمي تحت قيادة أميركا، "باكس أميركانا"، لأجيال قادمة، وذلك بمساعدة الديموغرافيا.

* نيكولاس إبرستادت، أستاذ كرسي هنري وندت في الاقتصاد السياسي في "معهد أميركان إنتربرايز"
المقال مترجم من فورين أفيرز، يوليو (تموز)/ أغسطس 2019
https://www.independentarabia.com/

اضف تعليق