q
ظلت الانتخابات كمصطلح يمر على العديد من بلدان «العالم الثالث» مرور الزائر الحزين، لكن مثل هذا المرور أخذ «يستوطن» في بلدان عديدة منذ انهيار الأنظمة الشمولية في أوروبا الشرقية، وانتهاء الحرب الباردة، وتحوّل الصراع الأيديولوجي من شكل إلى شكل آخر، خصوصاً مع ارتفاع رصيد الفكرة الديمقراطية...

ظلت الانتخابات كمصطلح يمر على العديد من بلدان «العالم الثالث» مرور الزائر الحزين، لكن مثل هذا المرور أخذ «يستوطن» في بلدان عديدة منذ انهيار الأنظمة الشمولية في أوروبا الشرقية، وانتهاء الحرب الباردة، وتحوّل الصراع الأيديولوجي من شكل إلى شكل آخر، خصوصاً مع ارتفاع رصيد الفكرة الديمقراطية، وزيادة تأثير منظمات المجتمع المدني ودورها على الصعيدين الوطني والعالمي.

ولم يحدث ذلك التطور بصورة مفاجئة، بقدر ما كان تعبيراً عن مخاضات فلسفية وتشريعات قانونية، وحركات ثقافية ونشاطات مدنية وصراعات مجتمعية، حتى أضحت القاطرة الانتخابية إحدى الوسائل الأساسية للتغيير بعد أن كان الحذر وعدم اليقين؛ بل والشك مصاحباً للدعوات التي تنادي بالتطور السلمي واللاعنفي.

هكذا أخذ الخيار الديمقراطي يتقدم وإن كان ببطء ودون يسر أحياناً، لكنه أصبح ممكناً له بعد عدد من التجارب الدولية، أولها نجاح التغيير في أوروبا الشرقية، وثانيها تململات وحركات احتجاج ونجاحات في بعض دول أمريكا اللاتينية، وثالثها نجاح نيلسون مانديلا في جنوب إفريقيا في انتخابات ديمقراطية وانتهاء نظام الفصل العنصري.

من هذه الزاوية يمكن النظر إلى نجاح لولا دي سيلفا اليساري في الانتخابات البرازيلية الأخيرة (30 من أكتوبر/تشرين الأول 2022)، الذي حكم البلاد لدورتين انتخابيتين الأولى في عام 2002، والثانية في عام 2006، وخلال فترة رئاسته تبنّى برامج اجتماعية وعمل على مكافحة الفقر واهتم بشؤون الكادحين.

وقال في أول تصريح له بعد أن فاز على منافسه اليميني جايير بولسونارو، إن «الشعب البرازيلي يريد أن يعيش بشكل جيد، ويأكل بشكل جيد.. ويريد الحصول على تعليم وصحة، ويريد الحرية الدينية ويريد الكتب بدلاً من البنادق.. الشعب البرازيلي يريد استعادة الأمل».

وأشار لولا سيلفا أن البرازيل تحتاج إلى «السلام والوحدة»، وآن الأوان لإلقاء الأسلحة وإعادة بناء البلد سياسياً واقتصادياً وإدارياً، وإصلاح الأوضاع التي ساءت، مشدداً على السلام والمحبة وتحويل الحلم إلى واقع، ومن حق الشعب البرازيلي أن يحلم مرة أخرى.

وتأتي هذه الإشارة من رجل خَبِر الحكم وتحدّياته، وذاق حلوه ومرّه، فبعد أن حكم لدورتين فشلت خليفته ديلما روسيف التي أسهم في إيصالها إلى منصة الحكم، لكن أداءها كان مخيباً للآمال، وما زاد الوضع سوءاً هو هيمنة اليمين على مقاليد الحكم، خصوصاً في ظروف تردي الأوضاع المعيشية والاقتصادية وتراجع معدلات التنمية.

وكانت تهمة «غسل الأموال» و«الفساد» قد لاحقت لولا سيلفا، وقُدّم إلى المحاكمة وصدر بحقه حكم بالسجن 9 أعوام ونصف العام، قضى منها في السجن نحو عام وثلثي عام، لكن المحكمة الاتحادية العليا ألغت جميع الإدانات بحقه وبرّأته.

لم يكن بإمكان ماسح الأحذية والعامل البسيط في مصنع لقطع غيار السيارات الوصول إلى سدة الحكم، إلا عبر الانتخابات كوسيلة من وسائل الانتقال الديمقراطي التي يستطيع فيها الشعب استبدال حكّامه بطريقة دورية وتداولية وتناوبية، انسجاماً مع إرادة الناس وقناعاتهم، خصوصاً حين تكون الانتخابات حرة ونزيهة وفي ظل تبلور وعي عام وبمشاركة واسعة؛ لأنها أداة سلمية للتغيير، وكنت قد عنونت كتابي ﺑ«الانتخابات والتغيير.. الثورة في صندوق الاقتراع» (2014)؛ لأن من يسعى إلى التغيير اليوم عليه أن يختار وسيلته السلمية. فالوسيلة من شرف الغاية، بعدما وصلت الوسائل الأخرى إلى طريق مسدود، وقد تراه اليوم حاكماً وغداً معارضاً، وذلك وفقاً لمواصفات الصندوق.

فاز سيلفا بأغلبية بسيطة، حيث صوّت له 50.9%، مقابل 49.1% لمنافسه، وعليه لحكم البلاد التي يتجاوز سكانها 215 مليون، عدم التمييز بين من صوّت له ومن صوت لخصمه، وتلك فضيلة الحاكم الناجح، وليس هناك سبيل للنجاح إلا بالاستماع إلى نبض الناس، فرضاهم يمثل «الشرعية السياسية» مع المنجز الذي يقدّم لهم، و«حكم القانون» يمثل «المشروعية» التي ينبغي أن تسير بخط متواز مع الشرعية.

جدير بالذكر أن لولا سيلفا يقف بالضد من خصمه بولسونارو، بشأن دعم قضايا الشعوب العادلة، وخصوصاً الشعب العربي الفلسطيني، وقد سبق له ارتداء الكوفية الفلسطينية كرمزية للتعبير عن دعم العدالة، في حين ارتدت زوجة خصمه علم إسرائيل، حين توجهت للإدلاء بصوتها في الانتخابات في دعم لا تخفيه هي وزوجها، المعيار في النصر هو الناس، فهل نقول إن البرازيل انتصرت «عبر صندوق الاقتراع؟»، الجواب سيكون بعد انقضاء الدورة الحالية؛ أي في عام 2026.

.............................................................................................
* الآراء الواردة في المقال لا تعبر بالضرورة عن رأي شبكة النبأ المعلوماتية.

اضف تعليق