q
تحرص الحكومات المتعاقبة على الاهتمام بالبعد الإنساني في المدن، اذ صبّت جل اهتمامها على انشاء المباني الصماء الخالية من أي مساحة خضراء، هذا في حال تم تشييد البنايات الحكومية، وبالتالي عاش المواطن في بيئة غير صالحة للحياة الصحية القائمة على احترام الفرد وسعادته...

خُطت لافتات وعلقت على اغلب المتنزهات العامة وتحديدا الحكومية، تمنع الشباب من الدخول، وان التنزه حكرا على العوائل فقط، ولا نعلم من هو صاحب براءة الاختراع الذي اكتشف السر العلمي الخطير والذي يفيد بالتقييد واتخاذ هذه الإجراءات الاحترازية؛ حرصا على جمالية الأماكن العامة واستتباب الهدوء فيها.

يصعب على الشباب في جميع المدن العراقية التنزه وقضاء أوقات جميلة مع الرفقاء بأيام العطل او المناسبات العامة كالأعياد وغيرها، والسبب يعود الى السبب الرئيسي الذي ذكرناه قبل قليل والفضل يرجع بالدرجة الأولى الى صاحب الاكتشاف العظيم.

طيب بمثل هذه الأجواء والقرارات غير المدروسة نهائيا، اين يذهب الشباب الراغبين في قضاء أوقات جميلة؟

في جميع البلدان التي تضطلع بنهضة عمرانية وتنموية جديدة، يتم مراعاة الطبقات الاجتماعية على اختلافها، أي تُوفر للشباب أجواء لطيفة وجميلة مثلما توفر للأسر أجواء خاصة تستطيع ان تقضي أوقات ممتعة بمعية الأقارب.

فتجد متنزهات خاصة لشريحة عمرية معينة تمكنهم من التمتع بأوقات فراغهم، بعيدا عن مضايقة الاسر في بعض الأحيان، اما في العراق وتحديدا في السنوات الأخيرة، وقع الشباب ضحية عدم التخطيط السليم، وإهمال الاحتياجات الإنسانية، فلا يمكن ان يشعر الفرد وعلى وجه الخصوص الشاب بالرعاية والاهتمام وهو يعرف جيدا انه ممنوع من الدخول الى ابسط المتنزهات الحكومية.

الاجراء المتعمد او الحكم ضد الكم الهائل من الشباب يقابله تشتت وضياع كبير لهذه الشريحة، فمن يُمنع من الدخول الى أماكن التنزه بالتأكيد سيبحث عن البدائل المسلية، وبالتالي نجد الكافيهات والأماكن الأخرى غير المرغوب التواجد فيها، تعج بالشباب الفاقدين لمثل هذه الوسائل البسيطة من الناحية الشكلية، بينما تأخذ حيز من الأهمية في النفوس واراحتها معنويا.

وفي الانتقال الى التقييم العام لما يوجد في المدن العراقية بصورة عامة من تخبط في التخطيط والتنفيذ، نجدها لا ترتقي للعيش الإنساني، وعند السير في إحدى الطرقات العامة، لم تر أي اهتمام في توفير أماكن الراحة او الوقوف المؤقت والاضطراري، في اغلب الأحيان الطرقات ضيقة لا تتحمل ركون العجلات في الجوانب، ومن يضطر للوقوف قد يعرض نفسه للخطر الوشيك.

هذا الخلل وغيره من الأخطاء الحاصلة في التصاميم الأساسية للمدن، تتحمله الحكومات المحلية بالدرجة الأساسية، والحكومات المركزية بصورة غير مباشرة، ولم تضع الأركان الأساسية التي تقوم عليها العملية البنيوية في حساباتها العمرانية هذه الجوانب المهمة والتي تؤصل لمفهوم الحداثة في المدن، والذي يجب ان يتماشى مع الواقع المتطور بالتدريج.

ولم تحرص الحكومات المتعاقبة على الاهتمام بالبعد الإنساني في المدن، اذ صبّت جل اهتمامها على انشاء المباني الصماء الخالية من أي مساحة خضراء، هذا في حال تم تشييد البنايات الحكومية، وبالتالي عاش المواطن في بيئة غير صالحة للحياة الصحية القائمة على احترام الفرد وسعادته.

في الوقت الحاضر لا يوجد أي عذر للمسؤولين عن تطوير المدن والنهوض بواقعها المرير، اذ يجب ان تضع الحكومات المحلية مهمة أنسنة المدن من اولويتها، أي جعلها بيئة مناسبة تمكن المرء من الاستمتاع بحياته وتطوير إمكاناته ومزاولة هواياته الفكرية والعملية والاجتماعية، وليس مجرد مكان يقيم فيه ويقضي يومه بشكل تقليدي.

وقت يكون الوقت الحالي من أكثر الأوقات ملائمة لمراعاة البعد الإنساني في تصميم الطرق والحدائق العامة، فكم جميل ان يسير الفرد في مساحات خضراء بمراكز المدن، وكم هو لائق ان تشهد حركة العجلات في الطرقات انسيابية كبيرة وغير مسبوقة، الى جانب إبراز الجوانب الجمالية والفنون التي تمارس في الأماكن العامة، ولا يوجد مانع من توفير كل ما ذكر سوى التعمد في عدم التقديم.

إن كان من الصعوبة بإمكان تحقيق الخطوات او المواصفات التي يجب ان تكون عليها المدن، وقد يوجد من يرى افكرانا دخلت حيز المثالية والاستحالة، فمن الممكن والقابل للتطبيق بالنسبة للحكومة، هو تقليل التمايز والتفريق بالتعامل بين شرائح المجتمع الواحد، فليس من الصواب ان تهمل الجوانب الترفيهية وتجعلها محصورة بشريحة على حساب الشرائح الأخرى.

خلاصة القول ان التوجه القائم في الوقت الحالي للنهوض بواقع المدن العمراني والتصميم الهندسي، لابد ان يركز على البعد الإنساني، بما يعزز ويراعي الإنسان في المقام الأول ويكون محور اهتمامه، سواء قبل إنشاء المدن أو في محاولة التعديل على الموجود حاليا والذي تم بناؤه وفقا لطرازات قديمة.

اضف تعليق