q
مخالفة اللافتة المكتوبة على الباب هو المفتاح لفهم مخالفات أعمق في العراق، ولدت ظاهرة التمييز بين المواطنين والتعاطي معهم بعيداً عن القواعد الدستورية والقانونية، بل على أسس بدائية تعود إلى العلاقات الشخصية ودفع الرشوة والمال مقابل القيام بعمل هو من صميم مهام الموظفين الحكوميين...

ذهبت إلى المستشفى الحكومي ثلاث مرات متتالية هذا الشهر، انهالت عليّ النصائح والعروض قبل الموعد، لا تذهب في هذا الوقت فقد يكون زحاماً، لا تذهب إلى ذلك الموظف فهو لا يتعامل مع أي أحد، خذ رقم هاتف فلان وهو سوف يتعهد بكل الإجراءات.

فلان الموظف لا يلتزم بالسياقات القانونية، ولا يجعلك تقف في الطابور خلف الشباك مثل المواطنين الآخرين، لديه علاقة شخصية مع الموظف المختص، يدخل من الباب ويكمل الإجراءات خلال دقائق معدودة.

أما الأشخاص الذين يقفون بالطابور خلف الشباك لمدة طويلة وتحت الظروف الجوية الصعبة فهم لا يملكون شخصاً مثلما أملك أنا، أو ربما يرفضون الدخول بشكل غير قانوني، ولهذه الأسباب تتأخر معاملاتهم حتى آخر النهار، وقد تضاف لها تعقيدات لا داعي لها، من بينها التأجيل ليوم آخر لأن الموظف المختص لا يريد القيام بالمهام الموكلة إليه.

في حالة ثانية ذهبت قبل شهرين إلى دائرة المرور من أجل تجديد إجازة السوق، قُدّمَتْ لي الكثير من العروض لتسهيل الإجراءات لكنني رفضت، وقلت لهم سوف أذهب بنفسي مثل أي مواطن عراقي، في رحلة تجديد الأجازة شاهدت موطنين من فئات مختلفة:

الفئة الأولى: مواطن الصديق، يتميز بأن يعرف موظفين داخل المجمع المروري، صاحب هذه الرتبة الوطنية سوف يجلس في القاعات المكيفة بينما يقوم صديقه الموظف بتسهيل غالبية الإجراءات وبأسرع وقت.

الفئة الثانية: مواطن المعقب، يتميز بدفعه المال لأحد معقبي المعاملات الذين يسهلون الإجراءات، يجلس هذا المواطن أيضاً في قاعات مكيفة كما هو حال المواطن الصديق، ويقوم المعقب بدور الصديق في الفئة الأول عبر تسهيل الإجراءات، حيث لا تأخذ الكثير من الوقت بحكم علاقات المعقب مع الموظفين.

الفئة الثالثة: مواطن الشباك، هذا المواطن بلا صديق ولا معقب، يقف في طوابير فوضوية على شباك صغير وتحت الظروف الجوية الصعبة، ما إن يكمل خطوته الأولى في الشباك حتى يذهب إلى شباك آخر وبنفس الصعوبة والتعقيدات والفوضى، وهو واقف في كل طابور أمام الشباب، يقرأ عبارة توجيهية مكتوبة على ورقة ممزقة من أطرافها وملصقة على باب مصبوغ بشكل سيء "ممنوع دخول المراجعين (المواطنين) من الباب، المراجعة من الشباك حصراً".

لكنه يشاهد كيف تنتهك هذه العبارة في كل لحظة يدفع فيها المعقب الباب حاملاً عدداً من الملفات الخاصة بموكليه، لا يعترض الموظف بل العكس يرحب بالمعقب مع ابتسامة عريضة وسؤاله عن أحواله ثم يجري له اللازم بأسرع ما يمكن.

مخالفة اللافتة المكتوبة على الباب هو المفتاح لفهم مخالفات أعمق في العراق، ولدت ظاهرة التمييز بين المواطنين والتعاطي معهم بعيداً عن القواعد الدستورية والقانونية، بل على أسس بدائية تعود إلى العلاقات الشخصية ودفع الرشوة والمال مقابل القيام بعمل هو من صميم مهام الموظفين الحكوميين.

المادة 14 من الدستور العراقي عالجت مسألة التمييز بين المواطنين ونصت على على الآتي: "العراقيون متساوون أمام القانون دون تمييز بسبب الجنس أو العرق أو القومية أو الأصل أو اللون أو الدين أو المذهب أو المعتقد أو الراي أو الوضع الاقتصادي أو الاجتماعي".

عندما ألتزم بالنص الدستوري، هل اعتبر مواطناً عراقياً حسب تعريف أسمى قانون في البلاد؟ بمعنى هل يمكنني القول إنني مواطن عراقي متساوٍ بالحقوق والواجبات مع إخوتي الآخرين؟

وماذا يمكن تصنيف الأشخاص الذين لا يلتزمون بالدستور؟

ماذا لو سيطر غير الملتزمين بالدستور على مقاليد السلطة، هل يبقى النص مفيداً لتفسير معنى المواطنة؟

الدستور عقلية البلد، وغيابه يعني بلاد مجنونة تمارس حياتها بالفوضى، وهنا ينتفي معنى المواطنة ويظهر مفهوم المغالبة وسيادة الأقوى والأكثر قدرة على خرق القواعد.

استطيع هنا جرد عدد كبير من المواد القانونية التي تؤكد على ضرورة عدم التمييز بين المواطنين، وأن يكون التعامل مواحداً لا على أساس فئات الأقارب والأصدقاء والمعقبين وغيرها من وسائل التمييز المتبعة والمعروفة في مؤسسات الدولة العراقية، لكن هذه المواد لا تجد طريقها للتطبيق.

هذه الفجوة بين الصيغة القانونية وتطبيقاتها تمثل أحد أكبر التحديات التي واجهت الحكومات السابقة، وأسهمت في إضعاف مفهوم المواطنة وتطبيقاتها التي تعزز قوة مؤسسات الدولة.

لم يعد مصطلح المواطنة له معنى في مؤسسات الدولة، أفرغ من محتواه، ليس من السهل ممارسة حياتك كمواطن في العراق، بل تحياها كصديق لمسؤول كبير أو شيخ عشيرة، أو عضو في جماعة سياسية، أما صفتك كمواطن لا فائدة منها إلا للإجراءات الروتينية، ونتيجة لذلك ولدت فجوة الثقة بين الحكومة والشعب وهي في اتساع مستمر.

سوف تكون مسألة استعادة قيمة المواطنة التحدي الأكبر بالنسبة لرئيس الوزراء الجديد محمد شياع السوداني، ولن تستطيع أي حكومة بما فيها حكومة السوداني تحقيق منجز فعلي على أرض الواقع بدون تقليص أو سد الفجوة بين التشريعات القانونية والقرارات من جهة وتنفيذها من جهة أخرى، وبما يصب في تعزيز مفهوم المواطنة.

اضف تعليق