q
منذ مدة أطلق أحد سياسيي ما بعد الاحتلال البارزين وصفاً تم تداوله بين كثير من العراقيين، كونه يعبر بدقة عن حال هذه الطبقة السياسية التي وصفها بمقاولي (التفليش) الذين لا يمكن أن يجيدوا البناء. كان أحد أهم أسباب أنتشار هذا الوصف أن نظام ما بعد الاحتلال قد أجاد الهدم لكنه لم يعرف البناء...

منذ مدة أطلق أحد (سياسيي) ما بعد الاحتلال البارزين وصفاً تم تداوله بين كثير من العراقيين، كونه يعبر بدقة عن حال هذه الطبقة السياسية التي وصفها بمقاولي (التفليش) الذين لا يمكن أن يجيدوا البناء. كان أحد أهم أسباب أنتشار هذا الوصف أن نظام ما بعد الاحتلال قد أجاد الهدم لكنه لم يعرف البناء.

وهذا الواقع قاد الى ما بتنا نشهده اليوم من دمار وتخلف في كل ميادين الحياة (اجتماعياً وثقافياً واقتصادياً وسياسياً). لقد وصلنا اليوم الى مرحلة التنفس من تحت الماء وبتنا نغرق مع هذا النظام الهادم للحياة. أن أي نظام بما فيه النظام السياسي، يقوم على آليتين رئيستين تحددان مصيره هما البناء والهدم. فكلما زادت معدلات البناء على الهدم كلما نمى النظام وتطور، وكلما زادت عمليات الهدم على البناء كلما تآكل النظام وصولاً الى مرحلة الفناء. وتزداد أهمية البناء لدى الشعوب الشابة كالشعب العراقي الذي 75% منه لم يعي فترة النظام السابق لذا فهم يهتمون بالمستقبل أكثر من الماضي، وبالبناء أكثر من الهدم.

وقبل المضي في شرح سبب تفوق الهدم على البناء في العراق، لا بد أولاً من اعلان عدم أتفاقي مع وصف سبب هذا الفشل بأن سياسييه هم مقاولو هدم وليس بناء. أنا أعتقد أن أصل المشكلة يكمن في أصل المهنة التي يجيدها هؤلاء السياسيين. فالمشكلة تكمن في (المقاول) وليس في نوع المقاولة سواء كانت بناء أم هدم. فمع كل الاحترام لها كمهنة، الا أن المقاولات في أساسها تبنى على رؤية ومخطط يضعه المهندس وينفذه المقاول، وهنا تحديداً تكمن مشكلتنا.

فلم يكن ممن جاؤوا مع الاحتلال مهندسين لهم رؤية لما يريدونه للعراق. لقد كانت لديهم رؤية لما لا يريدونه في العراق دون أتفاق على ما يريدونه. أتفقوا جميعاً مع الأمريكان على أسقاط النظام، لكنهم لم يتفقوا (برغم ما يقال عن وجود خطط آنذاك)على نوع العراق الذي يريدونه! فالعلمانيون منهم كانوا يريدون عراقاً يتفق مع ما يؤمنون به، والإسلامويون منهم كانوا يريدون عراقاً مختلفاً بل أن إسلاميو الشيعة والسنة اختلفوا على ما يريدونه للمستقبل.

في حين أن الكورد كانت لديهم مخططات أخرى للمستقبل. لقد كان واضحاً منذ تشكيل ما سمي بمجلس الحكم أنه لم يكن سوى خلطة عطار غير متجانسة أراد منها المحتل أن يبرر بها غزوه للعراق ويبشر(إعلامياً لا فعلياً) بديموقراطية السلاح المنتشر والفساد المستعر. كانوا متفقين مع الاحتلال على أسقاط النظام لكنهم لم يكونوا متفقين لا بينهم ولا مع المحتل عما يريدونه للمستقبل!

ولكي لا أكون مثل من جاؤوا مع المحتل، ثم صاروا مقاومين، بعد أن كانوا (مقاولين) له، وأغرق في التاريخ سأستعين ببعض الأمثلة لكي أثبت أنهم أتفقوا على ما يرفضوه واختلفوا على ما يريدوه. ففي أول وأهم مشروع سياسي لهم (الدستور) تجد في مقدمته (الجنجلوتيه) ما نصه “نحن شعب العراق… بكل مكوناته وأطيافه يقرر (بحريته واختياره الاتحاد) بنفسه… هذا الدستور يحفظ للعراق(أتحاده الحر شعباً وأرضاً وسيادة)” انتهى الاقتباس. لاحظوا هنا عقلية المقاول (التوفيقية) التي نصت على أن شعب العراق هو شعب مكونات وأطياف قررت الاتحاد من خلال هذا الدستور. وكأننا لم نكن شعباً متحداً قبل ذلك ،وبالتالي يحق لكل (مكون) أن يطالب بالانفصال ما دام أن الدستور قرر أنه قد أنضم لهذا الشعب وأتحد معه بحريته! فهل هذا دستور بناء أم تفليش؟

حينما أصدرت المحكمة الاتحادية تفسيرها الشهير باعتبار الأغلبية البرلمانية هي التي تتشكل بعد الانتخابات وليس قبلها فماذا يعني ذلك؟ أنه ببساطة يعني أن الأغلبية تتشكل بعقلية المقاول لا المهندس. فالمهندس لديه رؤية يريد تحقيقها لذا فحين يقرر الدخول للانتخاب وبناء ائتلاف فأنه يضع مخططاً لما يريد أن يبنيه قبل الانتخاب، كي يضمن عند الفوز تحقيقه.

أما المقاول فليس لديه خطة أو رؤية للمستقبل بل تحقيق ربح آني وسريع من خلال (التوفيق بين الرؤوس). لذا فليست لديه مشكلة متى يتحقق الائتلاف الأكبر حتى وأن جرى بعد الانتخابات. لأن من يأتلف بعد الانتخاب لتشكيل الحكومة أنما ائتلف (توفيقياً) لتقاسم وتغانم السلطة وليس لتحقيق رؤية قرر عليها قبل الانتخابات! فلو كانت لدى المؤتلفين(بعد) الانتخابات رؤية أو منهج بناء موحد فلماذا لم يتفقوا قبل الأنتخابات.

وتأتي أزمة الانسداد السياسي الحالية لتثبت مرة أخرى أن سياسيينا لا يعدون كونهم مقاولين وليسوا مهندسين. لاحظوا أبتداءً عقلية (التفليش) في مبدأ الثلث المعطل الذي دارت كل رؤيته وسرديته حول حق المكون (وليس شعب العراق). ثم حين نجحوا في(هدم) تحالف منافسيهم وهو ما كانوا متفقين عليه، وجدوا أنفسهم في مشكلة كيفية الاتفاق على ما يريدونه للمستقبل.

ومرة أخرى وقعوا في مشكلة الاتفاق على ما يرفضون والاختلاف على ما يريدون! أنهم أتفقوا على من يرفضونه في الحكم لكنهم غير قادرين على الاتفاق على من وماذا يريدون للحكم. كل تكتيكاتهم (لان المقاول ليست لديه استراتيجيات) تقوم على بوس عمك بوس خالك، ورضّي هذا ورضّي ذاك كي تمشي السفينة، لكن الى أين؟ هذا ليس مهماً عند المقاول فما يهمه أن تمضي الصفقة كي يأخذ عمولته. ولأنهم ليسوا مهندسين فهم غير قادرين على رؤية ما يمكن أن يراه أي (خلفة) مبتدأ، فالبناء الأعوج لا بد أن ينهدم، والسفينة المبنية خطئاً لا بد أن تغرق عند أول عاصفة.

.............................................................................................
* الآراء الواردة في المقال لا تعبر بالضرورة عن رأي شبكة النبأ المعلوماتية.

اضف تعليق