q
اللجوء إلى الخيار الجماهيري في كل مشكلة سياسية يشبه اللجوء إلى القنبلة النووية مع كل أزمة دولية، الأفضل للقوى السياسية التي تستطيع تحريك الجماهير أن لا تستخدمها بافراط، حتى يبقى استخدام الجماهير مفيداً لها سياسياً، بل أن تجعلها قوة ردع وحماية لها تمنع القوى الأخرى من اللعب بالنار...

في السياسة كما في المجال العسكري، هناك أوراق لا تستخدم إطلاقاً، بل تضعها القوى التي تملكها كخيار تهديد لا خيار استخدام فعلي، ومن أشهرها الأسلحة النووية التي تم اللجوء إليها مرتين فقط منذ عام 1945 وحتى هذه اللحظة، ومن دولة واحدة هي الولايات المتحدة الأميركية، وقد تعرضت لأكثر من هزيمة لاحقة، وكانت قادرة على الهجوم بقنبلة ثالثة لكنها فضلت الهزيمة على النووي، لأن التبعات ستكون كارثية.

الاتحاد السوفيتي الذي امتلك أكبر عدد من الرؤوس النووي تعرض لهزيمة عسكرية في أفغانستان في ثمانينيات القرن الماضي، وكان باستطاعته محو البلاد والتسبب بانقراض سكانها، لكنه لم يفعل، فالسلاح النووي يصنع لكي يتم التهديد به، لا أن يستخدم على أرض الواقع.

القنبلتان الوحيدتان اللتان تم استخدامهما من قبل الولايات المتحدة الأميركية ضد اليابان عام 1945، قد يستحيل استخدام أي قنبلة شبيهة بهما مجدداً، ففي تلك السنة لم تكن أي دولة تملك قنبلة نووية، والولايات المتحدة هي الوحيدة التي تملكها، كما أن العالم عرف حجم الكارثة التي قد يتسبب بها السلاح النووي، ليس على البلاد المعتدى عليها فقط، بل على جميع أنحاء الكوكب.

والخطر الأكبر يأتي من امتلاك دول أخرى أسلحة نووية مضادة، فإذا ما استخدمت الدولة (أ) السلاح النووي ضد الدولة (ب) فقد تستخدمه هذه الأخيرة ضد الأولى، وندخل في دوامة تهدد الكوكب بالفناء.

ويمكن اعتبار أزمة الصواريخ الكوبية عام 1962 التي جعلت العالم على حافة الحرب النووية بين الاتحاد السوفيتي وأميركا بأنها نقطة التحول بتغيير وظيفة السلاح النووي من سلاح فتك وتدمير إلى سلاح تهديد وردع فقط، أي سلاح يتم التلويح به، لكن لا يمكن استخدامه.

ومهما يكن حجم السلاح النووي هائلاً فهو غير قادر على حماية الدولة من الانهيار، أو التعرض إلى الكوارث الاقتصادية والاجتماعية، فالقوة لا تبنى على الأسلحة فقط، بل بأشياء أخرى قد تكون أكثر أهمية من القوة النووية.

وفي بلدان الشرق الأوسط تتمتع الأسلحة النووية ببريق هائل، يجعل الشعوب ترى أن الدولة التي تملك سلاح نووياً بأنها دولة عظمي، "نحن شعوب تبهرنا الأشياء التي لا نملكها" فالشائع لدى الشعوب العربية أن كوريا الشمالية دولة متقدمة لأنها تملك قنابل نووية، وإيران دولة على الطريق نحو التقدم، "لقد صنعوا برنامجهم النووي ويكادون يصنعون القنبلة".

إننا شعوب تهتم بالمظاهر، لا نقرأ، ولا نفهم تعقيدات الحياة، دائماً ما نبحث عن منقذ، وقد نصور المنقذ على شكل وصفة سماوية جاهزة، أو قنبلة نووية ندمر بها أعداءنا، أو فتوى دينية تنقلنا من عالم الضياع والفشل إلى التقدم والازدهار.

وقد يكون المنقذ ثورة نتغنى بها، وننتظرها على أحر من الجمر، نتساءل في مجالسنا عن موعد حدوث تلك الثورة لتنقذنا، الجماهير المتعطشة للتغيير سوف تقلب الطاولة على المنظومة الحاكمة البغيضة.

تأتي الثورة كالقنبلة النووية، فالجماهير تدمر ولا تعمر، تهتف ولا تفعل، تنادي بالتغيير ويدها غارقة في الفكر المحافظ المتطرف، تطلق الوعود الرومانسية فتطير إلى السماء لتسقط بسرعة وترتطم بالواقع، فتنقلب على من كان قبل أيام مقدساً، وتعود لتثور عليه لأنه صار ديكتاتوراً في نظرها.

نعم، لا غرابة في الفعل الجماهيري، أو لنطلق عليه "الانشطار الجماهيري".

لا يهم ما تهتف به الجماهير، إن كانت خارجة للتغيير نحو الأفضل، أو للحفاظ على هيكل الدولة، في الحالتين سوف تدمر الراهن، ليس على اولئك الذين تسببوا بالفشل الوطني طوال السنوات السابقة، بل على من أطلقوا الجماهير إلى الساحات، تنهار هيبتهم، وتنتهي فعالية تهديداتهم، ففي بعض المواقف يكون التهديد بالفعل أفضل من استخدامه.

اللجوء إلى الخيار الجماهيري في كل مشكلة سياسية يشبه اللجوء إلى القنبلة النووية مع كل أزمة دولية.

الأفضل للقوى السياسية التي تستطيع تحريك الجماهير أن لا تستخدمها بافراط، حتى يبقى استخدام الجماهير مفيداً لها سياسياً، بل أن تجعلها قوة ردع وحماية لها تمنع القوى الأخرى من اللعب بالنار.

وبما إننا دولة ديمقراطية تعتمد الانتخابات كل أربع سنوات، يمكن رعاية هذه الجماهير وتوفير كل ما تحتاجه من خدمات، والاستجابة الفعلية لمطالبها، وبالتأكيد ستكون أفضل سند انتخابي يمكن من خلالها تحقيق نجاحات سياسية مفيدة للجميع.

اضف تعليق