q
ان المعلم ومن وراءه المدرسة فقدوا جزء كبير من سلطتهم وقدرتهم على ممارسة الضبط الاجتماعي نتيجة الإزاحة المعلوماتية التي وفرتها الثورة الرقمية، أن اليوم الذي سيتم فيه استبدال المعلمين بالروبوتات لن يكون بعيد ابداً. حينذاك ستكون عصا الكومبيوتر وليست عصا المعلم هي صاحب السلطة الحقيقية...

في الحلقة السابقة تحدثت عن ما يسمى بالتغيير التكنولوجي لدور الأسرة التي بات الآباء فيها يرون سلطاتهم التقليدية على أبناءهم تتسرب من بين أيديهم كما يتسرب الماء. وقد أجابني أحد المتابعين بالقول أن الصرامة هي الحل لهذه المشكلة، فقلت كلما ضغطت على يدك بشكل أشد ظناً منك أنك تمنع الماء من التسرب كلما زدتَ من تسرب الماء.

في عصر التكنولوجيا باتت سلطة الأقناع والمعلومة تتفوق على سلطة الاجبار والملومة. أتحدث اليوم عن التغيير الذي سببته التكنولوجيا الرقمية لسلطة المعلمين والمدرسة عموماً. لطالما تناقلنا بيت الشعر القائل “قم للمعلم وفه التبجيلا كاد المعلم أن يكون رسولا”. في سنين سابقة، سمعنا من آبائنا أو أجدادنا أن الملالي كانوا هم المعلمين في الحارات والمناطق القديمة حين لم يكن لدينا مدارس.

وكان ل”الملّه” بما يمتلك من قدرة على تعليم قراءة القرآن، وبما يمتلك من عصا و”فلقة” سلطة مطلقة على تلاميذه . ومع دخول المدارس للعراق في نهايات الأحتلال العثماني، بدأت أهمية الملالي بالتلاشي حتى اختفت تماماً فاسحةً المجال لسلطة المدرسة بما توفره للأولاد (والبنات بعد ذلك) من علوم تتجاوز قراءة القرآن فقط الى الرياضيات والعلوم وسواها من المعارف والمعلومات التي غيرت من حياتنا عموماً، وليس حياة أبناءنا حسب. لا بل أن المدارس وسعت من دورها تدريجياً ليشمل “تربية” النشأ على سلوكيات ومعارف اجتماعية جعلت الدولة تغير أسم التعليم الى التربية أو المعارف.

ضبط اجتماعي

لذا باتت المدارس أذن تمثل ثاني أهم مؤسسة من مؤسسات التنشئة والضبط الاجتماعي، وتنافس دور الأسرة وصار المعلم في منزلة الاب لطلابه. وربما يغفل الكثيرون عن حقيقة تشارك الأبوين مع المدرسة في مصدر قوة التأثير والتي أسميها “قوة المعلومة” The Power pf data. أن المدرسة كانت تمثل للصغار المصدر الثاني للمعلومة. أن الحكمة الشائعة التي تعلمناها جميعا وبقينا نرددها ونعلمها لأبنائنا هي”من علمني حرفاً صرت له عبداً”.

هذه الحكمة تعكس بوضوح قوة المعلومة كمصدر للسلطة. فنحن نقبل أن نكون عبيداً، بأراداتنا لمن يزودنا بالمعلومات التي لا نستطيع ان نتعامل مع هذه الحياة ونتقدم فيها بدونها. تذكروا حبكم ودرجة تأثركم بمعلميكم الذين كانوا ينجحون في كسب قلوبكم وعقولكم بما يزودوه لكم من تربية وتعليم في مختلف مراحلكم الدراسية. أن الكثيرين كانوا يتخذون من معلميهم قدوةً لهم يتشبهون بها طوال حياتهم. في مقابل ذلك تذكروا مدى تأثير معلميكم الذين كانوا يفشلون في أيصال المعلومة لكم. هل كان لهم أي تأثير سلطوي عدا الرسمي بالطبع) عليكم؟ هل يمكن ان يمثلوا لكم يوماً قدوةً تقتدون بها؟

مرة أخرى تأتي التكنولوجيا لعنها -أم رحمها- الله لتتحدى المدرسة ومعلميها في صلب اختصاصهم وهو المعلومات. لقد كان الطالب سابقاً بحاجة للحضور والاستماع بكل جوارحه لما يقوله الاستاذ لأن تفويته لأية معلومة قالها سيؤدي الى عدم أجابته عنها في الامتحان، أن لم يؤدِ ذلك الى عقوبة جسدية من المعلم أو ربما الأبوين بسبب عدم انتباهه لما يقوله الأستاذ. أما اليوم فعلينا أولاً الإجابة عن السؤال الكبير الذي طُرح من سنوات وأزداد طرحه بعد الجائحة(كورونا): هل ما زلنا بحاجة للتعليم الوجاهي؟

فشل ذريع

قد تكون الإجابة في العراق وكثير من البلدان الأخرى أن التعليم الإلكتروني الذي جربناه أثناء جائحة كورونا فشل فشلاً ذريعاً. وهذا قد يكون صحيح بخاصة في الدول التي لا تمتلك بنية تحتية للتعليم الالكتروني، لكن السؤال ماذا أذا تقدم العلم أكثر وتوفرت إمكانات أفضل للتعليم الإلكتروني؟ هل ستبقى مؤسسة المدرسة التي عرفناها سابقاً ومارست سلطتها وتأثيرها علينا؟ لا نريد أن نستبق الأحداث ولنركز على ما هو كائن حالياً رغم ان المستقبل بات شديد الوضوح والقرب منا. أن كثير من الطلبة باتوا قادرين اليوم على تحضير واجباتهم الدراسية بل والتهيؤ للامتحان من خلال الولوج للشبكة العنكبوتية التي توفر بدل المحاضرة الواحدة عشرات المحاضرات عن نفس الموضوع ومن خلال وسائل سمعية وبصرية متعددة تغني تماماً عن المعلم في المدرسة او الكلية أو المعهد. لم يعد الطلاب بحاجة للاستماع للمدرس وكتابة الملاحظات والاستفسار منه عما هو غير واضح لهم.

لا بل أن الطلاب باتوا قادرين وبسهولة على تحدي أساتذتهم (بمعونة العارف كوكل أو الحكيمة أليكسا) سواء من خلال فحص مدى صحة المعلومات التي قالها الأستاذ أومن خلال المجيء بآراء ومعلومات إضافية عن الدرس أغفلها الأستاذ أو لا يعرفها أساساً. أن الإزاحة التي نشهدها اليوم لدور المعلم بسبب التكنولوجيا شبيهة جداً بالإزاحة التي سببتها المدرسة لدور الملً في حياة آبائنا وأجدادنا.

باختصار فأن المعلم ومن وراءه المدرسة فقدوا جزء كبير من سلطتهم وقدرتهم على ممارسة الضبط الاجتماعي نتيجة الإزاحة المعلوماتية التي وفرتها الثورة الرقمية.

أن اليوم الذي سيتم فيه استبدال المعلمين بالروبوتات لن يكون بعيد ابداً. حينذاك ستكون عصا الكومبيوتر وليست عصا المعلم هي صاحب السلطة الحقيقية، وسيحل صوت نقرة الماوس محل صوت جرس المدرسة.

.............................................................................................
* الآراء الواردة في المقال لا تعبر بالضرورة عن رأي شبكة النبأ المعلوماتية.

اضف تعليق