q
آراء وافكار - وجهات نظر

فرانسيس فوكوياما يلعب دور الدفاع عن الليبرالية

وسط روايات مختلفة عن تراجعها

آفاق فوكوياما المنكمشة، بالنظر إلى أعماله السابقة التي تتناول تاريخ العالم بأسره، تؤكد مدى تلاشي طموحات الليبراليين في القرن الحادي والعشرين. وان الفشل الذريع لمشروع بناء الأمة الليبرالية في أفغانستان، أو الجمود الدولي في دعم الديمقراطية الوليدة في أوكرانيا ضد روسيا، ليست سوى عدد قليل من عمليات التحقق...
بقلم: كريثيكا فاراغور Krithika Varagur،
نقلا عن مجلة ذي نيويوركر The New Yorker
ترجمة: د. حسين احمد السرحان/ مركز الفرات للتنمية والدراسات الاستراتيجية

إذا كان أحد المحافظين الجدد، كما قال إيرفينغ كريستول ساخرًا، هو ليبرالي تم اقصاءه في الواقع، فما الذي يجب أن نفعله بفرانسيس فوكوياما؟

في عام 1989، عندما نشر فوكوياما مقالته البارزة، "نهاية التاريخ؟"، كان طالب دكتوراه في العلوم السياسية يبلغ من العمر ستة وثلاثين عامًا. وكان تلميذ آلان بلوم في جامعة كورنيل؛ محلل في مؤسسة راند، وهي مؤسسة بحثية ذات توجه عسكري؛ ومسؤول في وزارتي خارجية كل من رونالد ريغان وجورج دبليو بوش. وصف المقال، الذي وسعه فوكوياما لاحقًا ليصبح كتابًا بعنوان "نهاية التاريخ والرجل الأخير"، الانهيار الوشيك للاتحاد السوفيتي باعتباره جزءًا من "نقطة النهاية للتطور الأيديولوجي للبشرية"، وأعلن أن الديمقراطية الليبرالية هي "الشكل النهائي للحكومة البشرية ". وبفعل هذا الكتاب، أصبح بين عشية وضحاها، كمفكر عام له شهرة غير عادية.

خلال الثلاثة وثلاثين عامًا منذ نشر كتاب "نهاية التاريخ؟"، راجع فوكوياما أطروحته قليلاً لاستيعاب التطورات الجديدة، مثل صعود الصين غير الديمقراطية، كما انه وبخ المحافظين الجدد بعد حرب العراق. وكتب أكثر من اثني عشر كتابًا، في مواضيع تتراوح من التكنولوجيا الحيوية الى أصول النظام السياسي، وحصلت على نفس التأثير الواسع. كما دعم باراك أوباما في عام 2008، وفي السنوات الأخيرة، أيد إعادة توزيع الثروة.

قد يقول المرء إن فوكوياما حاصره الواقع مرات عديدة. لكن في كل مرة، يعود سالماً قويا. كتب بمرح في صحيفة واشنطن بوست في عام 2008: " بينما لا يزال بإمكان المتنمرين إلقاء ثقلهم، لا تزال الديمقراطية والرأسمالية بلا منافسين حقيقيين". وفي عام 2018، قال لـ صحيفةThe New Statesman ان "على الناس أن يهدئوا قليلاً بشأن صعود الحكومات غير الليبرالية". على الرغم من كل التنازلات التي قدمها للأحداث الجارية والتحولات الطفيفة في الولاء، الا انه لم يتخل فوكوياما أبدًا عن فكرته الكبيرة.

كما روى لويس ميناند لمجلة ذي نيويوركر، فإن فوكوياما هو مفكر مغاير في أي مجال، سواء كان في النظرية السياسية أو السياسة الخارجية. يعتمد فيلم "نهاية التاريخ والرجل الأخير" على قراءة خاصة للفيلسوف الألماني المثالي هيجل، مع شذرات من فكر نيتشه، وهم لم يكونوا جزءًا من الفكر السياسي الأمريكي السائد. ومع ذلك، فإن رؤية فوكوياما لليبرالية -كما هو الحال في العقيدة السياسية التي تركز على حقوق الأفراد بدلاً من أي توجهات سياسية محددة في أمريكا أو أوروبا- كانت دائمًا مسلية ومغرية في كثير من الأحيان، حتى للمتشككين.

لقد كتب عن الحرية والمساواة، بشجاعة مميزة في كتابه "نهاية التاريخ والرجل الأخير"، " ليستا حوادث أو نتاج تحيز عرقي، لكنهما في الحقيقة اكتشافات حول طبيعة الأنسان كإنسان". مثل هذه الملاحظات الكاسحة والعاطفية هي مفتاح أسلوب فوكوياما، الذي يرفض اقتصاديات البيانات الثقيلة لصالح الحجج الدامغة على مستوى الأفكار.

يتمثل مشروعه الأخير في الدفاع عن قضية الليبرالية نفسها وسط روايات مختلفة عن تدهورها. في الآونة الاخيرة، يتسم أنصار الليبرالية الأمريكية بالاستبطان بشكل خاص، اذ أن أغنى وأقوى ديمقراطية في العالم قد تراجعت بسبب الضربات غير الليبرالية المتتالية، من القوانين ذات الدوافع الدينية الى الانتخابات المتنازع عليها بالعنف. وبالكاد يمكن لليبرالية أن تحصل على مشجعًا أفضل من فوكوياما في هذا المشهد الكئيب، الذي يتمتع بمهارة فريدة في إضفاء دفعة سردية على أيديولوجية ثقيلة في بعض الأحيان.

في كتابه "الليبرالية وسخطها" المنشور مؤخرا، يدافع فوكوياما عن نفسه. لماذا الآن؟ ليس فقط لأن الديمقراطيات الليبرالية، كما يزعم منتقدوها، قد فشلت في الوفاء بمُثِلها العليا، بل أيضًا لأن "العديد من نشطاء الجيل الجديد في أمريكا وأوروبا يعتبرون الليبرالية منظورًا عفا عليه الزمن". (يبدو أن فوكوياما صاحب العقلية العالية ليس محصنًا من الخطابات الفظة للإنترنت.) هذا ليس تاريخه الكلي المعتاد الا انه في أقل من مائتي صفحة، يحدد كل من الفضائل والنقد الرئيسي لليبرالية، كما انه اقترح مبادئ للحفاظ عليها.

ومع ذلك، يبدو أن فوكوياما مهزوم. يبدأ بتأكيد دفاعي بأن الليبرالية ليست عقيدة "عفا عليها الزمن"، بل لا تزال ضرورية في عالمنا الحالي المتنوع والمترابط ". في الفصول اللاحقة من الكتاب، قدم مجموعة شاقة من الحجج ضد الليبرالية. وذكر عشرة انتقادات في تتابع سريع، من بينها أنها "استهلاكية"، و"تفتقر الى حد كبير لتحقيق العدالة الاجتماعية الحقيقية"، و "تهيمن عليها النخب المتلاعبة". بعد هذا التنقيب الشامل، تبدو رؤية فوكوياما لإحياء الليبرالية شاقة وغير ملهمة. ويقترح أن يستعيد الليبراليون "الإطار المعياري للأيديولوجيا، بما في ذلك مقاربته للعقلانية والإدراك"، وان "يأخذوا الفيدرالية على محمل الجد"، و"يحترموا منطقة الخصوصية المحيطة بكل فرد" من أجل تعزيز "التداول الديمقراطي والتسوية". ويؤكد في توصيته الأخيرة على الاعتدال، موضحا ان "الاعتدال ليس مبدأ سياسيًا سيئًا بشكل عام، وخاصة بالنسبة للنظام الليبرالي الذي كان يهدف الى تهدئة المشاعر السياسية منذ البداية".

يعترف فوكوياما نفسه بأن معظم هذا ليس "تأييدًا مثيرًا". وهو أقل من ذلك. في الواقع، قد يكون السرد الأكثر إثارة للاهتمام الذي ظهر من هذا الكتاب هو تطور نبرة مؤلفه، من التبشير بالليبرالية الى السيطرة على الضرر.

يرى فوكوياما، ان المفاجأة الكبرى لمسار الليبرالية بعد الحرب الباردة هي نطاق وتأثير الليبرالية الجديدة -إصلاحات السوق الحرة لإلغاء الضوابط والخصخصة والتقشف التي بدأت بشكل جدي في السبعينيات من القرن الماضي. وهو يعتقد أن الليبرالية الجديدة، على عكس الليبرالية الكلاسيكية، قد أضرّت بسمعة الليبرالية بين الشباب اليوم. وعلى الرغم من أن العديد من السياسات النيوليبرالية بدأت منذ نصف قرن، إلا أن آثارها، مثل عدم المساواة المفرطة وعدم الاستقرار المالي، أصبحت أكثر وضوحًا الآن.

النيوليبرالية ليست نظرية كاملة للعدالة أو الأخلاق أو الحياة الجيدة، لكنها مجموعة أضيق من الأفكار حول المؤسسات السياسية والاقتصادية، وكيف ينبغي أن تعمل في خدمة الأسواق الحرة. على الصعيد الدولي، سعت مؤسسات مثل صندوق النقد الدولي والبنك الدولي الى إلغاء الضوابط المفروضة على رأس المال في العديد من البلدان الأخرى، مما أدى الى حدوث أزمات مالية "بانتظام ينذر بالخطر". قام بعض الإصلاحيين النيوليبراليين في الولايات المتحدة وخارجها أيضًا بمراجعة سياسات الرعاية الاجتماعية التي حسنت نوعية حياة مواطنيهم. ويكتب فوكوياما كل هذا باعتباره اختطافًا شاذًا لمبادئ الليبرالية: "الليبرالية المفهومة بشكل صحيح متوافقة مع مجموعة واسعة من سياسات الحماية الاجتماعية التي توفرها الدولة".

ولكن هل يمكن فصل النيوليبرالية حقًا عما يسميه فوكوياما الليبرالية الكلاسيكية؟ لطالما كان التمييز غامضًا؛ اذ كان الاقتصادي النمساوي فريدريش هايك في القرن العشرين مدافعًا صريحًا عن الليبرالية الكلاسيكية ومؤسسًا مشاركًا لجمعية مونت بيليرين (المنتدى النيوليبرالي الدولي)، في عام 1947. وتعثر فوكوياما في وصف الليبرالية الجديدة على أنها ليبرالية فردية دفعت الى التطرف اليميني. كما أكد المؤرخ كوين سلوبوديان، لم يركز رواد الليبرالية الجديدة على حقوق الأفراد؛ كانوا معنيين، في المقام الأول، بمؤسسات الأسواق.

لم تكن الليبرالية الجديدة تهدف فقط الى هدم اللوائح حتى يتمكن الناس من شراء الأشياء بحرية أكبر، بل كانت تدور حول بناء وتعزيز المؤسسات بنشاط، مثل منظمة التجارة العالمية، التي تعزل الأسواق في جميع أنحاء العالم عن تقلبات الدول القومية والديمقراطيات.

بعد خمسة عقود من الخصخصة والتقشف حول العالم، يكاد يكون من المستحيل تصور أي ديمقراطية ليبرالية اليوم بدون مؤسساتها النيوليبرالية. ويقدم فوكوياما اقتراحًا فاترًا لإعادة توزيع بعض الثروة من أجل تعويض عدم المساواة "على مستوى مستدام، اذ ان الحماية الاجتماعية لا تقوض الحوافز ويمكن دعمها من خلال التمويل العام على أساس طويل الأجل". (انتقد زميل لكريستول أن الليبرالي الجديد هو ليبرالي سرقه الواقع، لكنه رفض توجيه اتهامات). وبدلاً من ذلك، ابُتكرت طرق عملية لكبح اللوائح والهيئات التي تدفع الديمقراطيات لخدمة الأسواق بدلاً من مواطنيها.

كان فوكوياما يتوقع بعض المشكلات الأخرى مع الليبرالية منذ عقود. في كتابه "نهاية التاريخ والرجل الأخير"، تساءل فوكوياما عما إذا كانت الليبرالية، كما انهارت الأيديولوجيات المنافسة مثل الشيوعية، قد تحتوي على بذور انحدارها". في عام 1992، تساءل فوكوياما هل يمكننا أن نفترض أن المجتمعات الديمقراطية الناجحة يمكن أن تبقى على هذا النحو الى أجل غير مسمى؟ أم أن الديمقراطية الليبرالية فريسة للتناقضات الداخلية الخطيرة، والتناقضات من الخطورة لدرجة أنها ستقوضها في نهاية المطاف كنظام سياسي؟" في ذلك الوقت، خلص الى أنها لم تفعل -لكنه حدد بدقة العديد من النقاط المؤلمة، ومنها: ان المجتمعات الليبرالية تميل الى "تفتيت الناس وفصلهم"، وكانت ضارة بحياة المجتمع، وستستمر فيها مظاهر عدم المساواة. ما قلل فوكوياما من تقديره هو المدى الذي يمكن أن توّلد فيه المجتمعات الليبرالية مستهلكين بإفراط، ومهووسين بـ "تحقيق الذات" والهوية على حساب السياسة والروح العامة.

من الواضح أن فوكوياما مندهش من الحجم الذي تصاعدت به هذه المخاطر. وهو يحاول فهم كيف تحول مايكل ساندل Michael Sandel, وآلاسدير ماكنتاير Alasdair MacIntyre، ومايكل والزر Michael Walzer خلال مدة وجيزة الى منتقدين لليبرالية، وحاول ايضا فهم كيف أدرك مثل هؤلاء هذه القضايا في وقت قصير. ومن خلال القيام بذلك، أعاد تتبع اراء خلال الثمانينيات والتسعينيات، اي المدة التي أعقبت أطروحة جون راولز الليبرالية الأساسية، "نظرية العدالة"، عام 1971 التي تفترض أن البشر يتمتعون بالاستقلال الذاتي بشكل أساس.

وبينما تحمي الليبرالية حقوق الأفراد في اختيار نسختهم الخاصة من الحياة الجيدة، رد هؤلاء بأن الدول أو المجتمعات الأخرى يجب أن تلعب دورًا نشطًا في تشكيل الصالح العام. عادت مثل هذه الحجج مؤخرًا الى المجال العام، من اليسار واليمين، وتلامس وتراً حساساً بالنسبة للكثيرين في الولايات المتحدة، الذين، على الرغم من أنهم يعيشون في أغنى دولة في العالم، الا انهم لا يزالون يشعرون بأنهم يفتقرون الى القيم المشتركة أو المستقبل المأمول.

يتسلى فوكوياما بالعديد من الانتقادات المجتمعية، بل أنه يتنصل من راولز بسبب "السقف العالي في الاختيار على جميع السلع البشرية الأخرى". لكن فوكوياما لم يقدم تفسيرًا مقنعًا للفراغات الاجتماعية والأخلاقية التي ابتليت بها المجتمعات الليبرالية اليوم. كتب فوكوياما بأن: "المجتمعات الليبرالية الناجحة لها ثقافتها الخاصة وفهمها للحياة الجيدة، حتى لو كانت هذه الرؤية أرق من تلك التي تقدمها المجتمعات الملتزمة بمذهب ديني واحد. لقد وجد النقد المحافظ بأن المجتمعات الليبرالية "لا توفر أفقًا أخلاقيًا مشتركًا قويًا يمكن بناء المجتمع حوله" ليكون "حقيقيًا بما فيه الكفاية"، لكنه يكافح من أجل التوصل إلى طرق "لإعادة فرض نظام أخلاقي أكثر متانة". وبضجر، يستنتج فوكوياما أن عدم الرصانة في النظام الاخلاقي هي "ميزة وليست خللًا" في الحياة في ظل الليبرالية.

لو كان فوكوياما يأمل حقًا في إقناع المشككين، كان بإمكانه الوصول بسهولة في تاريخ الليبرالية الى أمثلة على كيفية إثراء النسيج الاجتماعي بدلاً من تآكله. في إنجلترا في أواخر القرن التاسع عشر وأوائل القرن العشرين، ساعدت الليبرالية التي شرحها الاقتصاديون الإصلاحيون مثل ويليام بيفريدج وجي إيه هوبسون في تأسيس دولة الرفاهية الحديثة، كما أوضح ذلك الباحث في جامعة أكسفورد مايكل فريدن Michael Freeden. بالنسبة لهم، لم تكن الليبرالية تتعلق فقط بحماية الاختيار الحر، بل كانت تتعلق أيضًا بتهيئة الظروف للأفراد لكي يزدهروا. في الولايات المتحدة، كان الليبراليون في العصر التقدمي مثل هربرت كرولي Herbert Croly، الذي شارك في تأسيس The New Republic في عام 1914، يرون الليبرالية على أنها أكثر من مجرد حقوق متساوية مجردة. كان الأمر يتعلق أيضًا بأشياء ملموسة مثل الأجور المرتفعة وشبكة الأمان الاجتماعي.

وبدلاً من إظهار كيف أن مثل هذه الرؤى للرفاهية كانت جزءًا لا يتجزأ من الديمقراطيات الليبرالية، فإن فوكوياما يؤكد فقط أن الديمقراطيات الليبرالية " تظل متفوقة على البدائل غير الليبرالية". تم اختزال البدائل من اليسار الى حد كبير في الرسوم الكاريكاتيرية؛ وتخوف فوكوياما في "مجتمع ما بعد ليبرالي تقدمي" يكمن في تبخر الحدود الوطنية، والمواطنة "التي لا معنى لها أساسًا"، والحكم "الفوضوي" على غرار مناطق الحكم الذاتي قصيرة العمر التي نشأت في سياتل وبورتلاند في صيف عام 2020 بعد أن استدعى مثل هذه المواقف لليسار من جهة، والشبح غير المرغوب فيه بشكل أكثر وضوحًا من عدم الليبرالية اليمينية من جهة أخرى، يعفي فوكوياما نفسه من الاضطرار الى مواجهة الحرمان الاجتماعي والمادي لموضوعات الليبرالية.

إنه عرض محدود الجهد بشكل غريب من مُنظِّر أنيق بشكل خاص. قد يحتوي كتاب فوكوياما الأول على دليل للسبب. وكما كتب فوكوياما في كتابه نهاية التاريخ والرجل الأخير "نحن الذين نعيش في ديمقراطيات ليبرالية مستقرة طويلة الأمد ... لا نستطيع أن نتخيل لأنفسنا عالمًا يختلف جوهريًا عن العالم الحالي، وفي نفس الوقت أفضل"، كتب فوكوياما هذا ببعض الوعي الذاتي المرح، لكنه مع ذلك يحتوي على شيء من الحقيقة حول ارتباط المؤلف الذاتي والعاطفي والجاد بالليبرالية. وفي حين أنه يستطيع استيعاب أي عدد من الانتقادات الهامشية، فإن عوامل الجذب الأيديولوجية والتفوق النهائي بالنسبة له، على حد تعبيره، لاقتباس ذلك النص الرئيسي لليبرالية الأمريكية، تكون بديهية.

بالنسبة لمعظم المدة ما بعد الحرب، كان أفضل إعلان للديمقراطية الليبرالية هو أمريكا نفسها: بدا أنها تمتلك أفضل السيارات، والأفلام الأكثر إمتاعًا، وأغنى الناس. كانت هيبة الليبرالية مرتبطة ارتباطًا وثيقًا بالنموذج الأمريكي، ولم يكن فوكوياما وحده هو الذي ركزت أفكاره على ازدهار البلاد وقوتها العالمية. في "نظرية العدالة" لراولز، انتهى الأمر بالنظام السياسي المثالي، الذي تم ابتكاره تحت "حجاب الجهل" وفقا لراولز، وكأنه يشبه تمامًا نظام الولايات المتحدة. تمامًا مثل أعمال فوكوياما المبكرة، تعززت ثروات الولايات المتحدة بأفكار راولز النبيلة والعالمية وكان من الممكن أن تكون الولايات المتحدة أضعف بدونها.

اليوم، يثير مثال الديمقراطية الليبرالية الأمريكية، مشاكل أمريكية واضحة (مع الرعاية الصحية، والسلاح، وديون الطلبة) ومناقشات أمريكية مميزة (حول ثقافة الإلغاء، وارتداء الأقنعة، والإجهاض)، والتي أسست حق للمرأة في اختيار الإجهاض من خلال تفسير مثير للجدل للحق في الخصوصية.

لم تعد الولايات المتحدة النموذج الواضح لنظرية فوكوياما، والأكثر من ذلك، أن الولايات المتحدة تقدم مثالا معقد لها. نتيجة لذلك، ضاقت عدسة الكاميرا الخاصة به في هذا الكتاب، من العالم كله الى الولايات المتحدة -أو بالأحرى إلى ما يتحدث عنه جزء من الأمريكيين عبر الإنترنت. العديد من الأمثلة على تجاوزات الليبرالية في هذا الكتاب هي قطع عميقة مثل إقالة مراسل صحيفة نيويورك تايمز دونالد ماكنيل.

ان آفاق فوكوياما المنكمشة، بالنظر إلى أعماله السابقة التي تتناول تاريخ العالم بأسره، تؤكد مدى تلاشي طموحات الليبراليين في القرن الحادي والعشرين. وان الفشل الذريع لمشروع بناء الأمة الليبرالية في أفغانستان، أو الجمود الدولي في دعم الديمقراطية الوليدة في أوكرانيا ضد روسيا، ليست سوى عدد قليل من عمليات التحقق في العالم الواقعي الأخيرة للعالمية الليبرالية.

لم يعد بإمكان أي شخص أن يقول بوجه صريح إن الديمقراطية الليبرالية الأنجلو-أمريكية جيدة. ربما يكون تطور فكرة فوكوياما إشارة الى إضفاء الطابع التاريخي على الليبرالية كإيديولوجية إقليمية شكلت عددًا قليلاً من البلدان الكبيرة على مدى بضعة قرون أخيرة.

كان فوكوياما منفتحًا بشكل مثير للإعجاب طوال حياته المهنية، اذ عايش اغلب عقود القرن الحادي والعشرين حيث كان متأكدًا من إفراغ جيوبه من الأحداث الجارية. لكن ثلاثة عقود هي مدة طويلة بالنسبة لأي شخص يعمل على التنظير. وكما توقع هو نفسه ذات مرة، فأن أولئك الذين يقضون وقتًا طويلاً في المناخ المعتدل للديمقراطية الليبرالية يخاطرون بأن يصبحوا ما أطلق عليه نيتشه "رجال بلا صدور": مناهضون، راضون عن "المستوى المتواضع من الاعتراف" الذي توفره المساواة الليبرالية. كتب أنه حتى المواطنين الموهوبين في الديمقراطيات الليبرالية، في عام 1992، يمكن أن ينتهي بهم الأمر بمطاردة طموحاتهم الآمنة، دون أي أثر "للشوق غير المحقق أو العواطف غير العقلانية الكامنة تحت السطح". من الصعب فهم فوكوياما الذي كتب هذه السطور، والذي كان مستعدًا لطرح أسئلة شنيعة واقتراح حلول مبتكرة. ومن الصعب أيضًا معرفة ما إذا كان موقفه الانهزامي هو اعتراف بعيد الاهتمام عن تراجع الليبرالية؟

* باحث في مركز الفرات للتنمية والدراسات الإستراتيجية/2004-Ⓒ2022
www.fcdrs.com

..............................................
رابط المقال الاصلي:
https://www.newyorker.com/books/under-review/francis-fukuyama-plays-defense?utm_campaign=falcon&mbid=social_twitter&utm_brand=tny&utm_medium=social&utm_social-type=owned&utm_source=twitter

اضف تعليق