q
الإنسان الفرد أو الجماعة الذي يتمسك بأصالته، لا يطلب الماضي لذاته، وإنما من أجل إعادة الأصول والقواعد والمبادئ التي صنعت الماضي المجيد إلى الحاضر والانطلاق بها إلى المستقبل. فالماضي الإسلامي يشكل خريطة ثقافية سياسية اجتماعية متكاملة، ونظرة الإسلام إليه تحوله إلى قوة دافعة لتحقيق المزيد من الأمجاد...

إن العصرنة الحقيقية والواعية، هي التي تأتي عبر الأصالة التي تحرك فينا كل العوامل والعناصر التي تخلق الأمة الفاعلة والمؤثرة والشاهدة. والأصالة هنا لا تعني العودة (بالمعنى الزمني) وإنما تعني الأخذ بنمط حضاري يمدنا بالقوة والمعرفة، وقادر على تحقيق الطموحات الحضارية للأمة.

على المستوى التاريخي بدأت المجتمعات العربية والإسلامية، الانفتاح على الغرب وهي تعيش حالة الانفصام والشيزوفرينيا بين المعرفة والمنهج السلوكي، الذي تتبعه وتلتزم بمقتضياته ومتطلباته. لذلك لم تكن هذه المجتمعات تمتلك القدرة والإمكانية للوقوف على أرض صلبة من أجل التقييم الدقيق للثقافات الوافدة. مما جعل هذا الانفتاح يخلق فوضى شاملة في جسم المجتمعات العربية والإسلامية. وهذه أهم آثاره (أزمة هوية - فوضى في المصطلحات والبنية النظرية - التغيير المفاجئ في البنية الاجتماعية والاقتصادية والبنى الثقافية وهجرة الأدمغة والعقول).

لذلك من الضروري أن نعيد صياغة رؤيتنا لمفهوم الانفتاح على الغرب بكل علومه ومعارفه ومنجزاته، بعيداً عن تلك التجربة القاصرة والمليئة بالالتباسات والهواجس. لأنه لا يمكننا أن نعيش منعزلين عن حركة العالم والحضارة الحديثة، كما أن تواصلنا وتفاعلنا معها بعيداً عن الرؤية الواضحة، لا يؤهلنا للاستفادة منها. لذلك نحن نشعر بأهمية تعميق خيار الانفتاح في الوطن والأمة على أسس واضحة، تجعل مجتمعاتنا قادرة على استيعاب كل المكونات الحقيقية لهذه التجربة الحضارية الفريدة.

لذلك فإن مفهوم الانفتاح، لا ينفصل عن مفهوم المحافظة على الذات الحضارية والانتماء المتميز لهذه الذات، بما يتضمن من تاريخ وقيم ورجال تمكنوا في الأرض.

وانطلاقا من هذه الذاتية الواعية، نحن نتعامل مع الآخر الحضاري. وإن محاولة تجاوز الفارق الحضاري الذي نعيشه مع الغرب، لا يمكن أن يكون بإلغاء الذات الحضارية للعالمين العربي والإسلامي.

بل يمكن القول أن طي المسافة الطويلة التي تفصلنا عن الحضارة الحديثة، لا يمكن إلا بالحفاظ على هويتنا الحضارية وتميزنا الأيدلوجي. وهنا لا تعني عملية الحفاظ الجمود واليباس الفكري والمعرفي أو غياب الفاعلية الاجتماعية والثقافية، بل تعني معرفة الذات، المعرفة الواعية التي تحفزها لتفجير طاقاتها ومواهبها، وتعمل وفق هذه الرؤية لتجاوز كل ما يعرقل عملية التقدم ومتطلباتها في الراهن. والانطلاق من خلال هذا الوعي والمعرفة بالثروة الهائلة التي نمتلكها والعمل على تفعيلها سياسيا واجتماعيا واقتصاديا.

إن هذه العملية التاريخية والمركبة، هي التي ستؤهلنا لطي هذه المسافة الحضارية. ولنا في التجربة اليابانية خير مثال على ذلك. إذ لم تتخل في نهضتها الصناعية والحضارية عن ثقافتها وعاداتها وتقاليدها، وإنما قامت بتركيز هذه الثقافة والتقاليد من أجل استيعاب التطورات والتكنولوجيا الحديثة.

والأصالة الإسلامية الواعية، من ميزاتها الأساسية الانفتاح على الواقع في سبيل تفعيله وتحريكه. لذلك فهي تلتصق التصاقا كبيرا بالمجتمع (العصر) من أجل توجيهه حسب أوضاعه التاريخية والثقافية. لذلك فإن الأصالة هي نمط متكامل للتفاعل المستمر مع الواقع والعصر. ومن الخطأ الافتراض أنه من أجل العصرنة لا بد من الاغتراب ومقايضة تاريخنا وثقافتنا بالاندماج في الغرب.

ويكفينا دليلا على ذلك أنه لم يرو لنا التاريخ أن أمة من الأمم استطاعت أن تتقدم وتتطور أو تدخل عالم المعاصرة بدون الاعتماد على تاريخها وقيمها وأصالتها. فالحضارة الغربية الحديثة لم تحقق كل إنجازاتها ومكاسبها إلا بالاعتماد على قيمها وإرثها التاريخي.

حتى الولايات المتحدة الأمريكية لم تحقق كل ذلك إلا بالأصالة الأوروبية التي حملها معهم المهاجرون إليها من أوروبا.

فطريق العصرنة ليس محاكاة الغرب، إذ أن محاكاته تؤدي إلى الاستلاب الحضاري الذي يحولنا إلى أمة ميتة - جامدة - مقلدة. فلا يمكن أن نقابل بين الأصالة والمعاصرة أو التقليد والتجديد، ونجعل تحقيق أحدهما على حساب الآخر.

نحن نقول إن العصرنة الحقيقية والواعية، هي التي تأتي عبر الأصالة التي تحرك فينا كل العوامل والعناصر التي تخلق الأمة الفاعلة والمؤثرة والشاهدة. والأصالة هنا لا تعني العودة (بالمعنى الزمني) وإنما تعني الأخذ بنمط حضاري يمدنا بالقوة والمعرفة، وقادر على تحقيق الطموحات الحضارية للأمة.

فالإنسان الفرد أو الجماعة الذي يتمسك بأصالته، لا يطلب الماضي لذاته، وإنما من أجل إعادة الأصول والقواعد والمبادئ التي صنعت الماضي المجيد إلى الحاضر والانطلاق بها إلى المستقبل.

فالماضي الإسلامي يشكل خريطة ثقافية - سياسية - اجتماعية متكاملة، ونظرة الإسلام إليه تحوله إلى قوة دافعة لتحقيق المزيد من الأمجاد والازدهار والتقدم. أي أن الإنسان المتمسك بأصالته، لا يتغنى بأمجاد الماضي فقط، وإنما يعمل للإضافة إليها استلهاماً من الروح والمنطلقات والقيم التي صنعت ذلك الماضي المجيد.

فالماضي أو التاريخ ليس موضوعا للهروب من الحاضر ومسؤولياته وتحدياته (كما يزعم البعض) وإنما هو عملية واعية لتحقيق الوجود. لأن التاريخ في الرؤية الإسلامية هو الذي يمتشق صهوة الحاضر وعدته. وإن المجموعة البشرية التي تنفصل عن تاريخها أو ماضيها فإنها تقوم بعملية بتر قسري لشعورها النفسي والثقافي والاجتماعي، وسيفضي هذا البتر إلى الاستلاب والاغتراب الحضاري.

فعلاقتنا بالآخر الحضاري، ينبغي أن لا تذوب ذاتيتنا وهويتنا الحضارية، وإنما ننطلق من أصالتنا وهويتنا المتميزة في تكوين صلات واعية ومتكافئة مع الآخر الحضاري.

وهذا يعني أن الانفتاح على الغرب أو الآخر الحضاري، لا يعني التقليد له. لأن المقصود بالانفتاح الواعي هو أن ننطلق من قيمنا ومبادئنا وأصالتنا للأخذ بالمعرفة والتطورات العلمية التي تحدث في الغرب. كما حصل للغرب نفسه حيث أنه انطلق من مفاهيمه وسياقه الثقافي والفكري للأخذ بجميع التطورات التي تحدث في العالم. ويشير إلى هذه الحقيقة (جبران خليل جبران) قائلا: كان الغربيون في الماضي يتناولون ما نطبخه فيمضغونه محولين الصالح منه إلى كيانهم الغربي. أما الشرقيون في الوقت الحاضر فيتناولون ما يطبخه الغربيون ويبتلعونه، ولكنه لا يتحول إلى كيانهم بل يحولهم إلى شبه غربيين، وهي حالة تبين لي الشرق تارة كعجوز فقد أضراسه وطور كطفل بدون أضراس.

وقضية الاستقلال عن الغرب أو التبعية له تبدأ بالفكر والثقافة قبل الاقتصاد والسياسة. إذ أن الفكر المستقل سيصنع اقتصادا مستقلا يعتمد على واقعه الموضوعي وخصوصياته الذاتية. كما أن الفكر التابع أو الثقافة المهزومة مهما أوتيت من امكانات مادية هائلة لن تخرج عن إطار التبعية الاقتصادية ونقل النظريات الجاهزة وتطبيقها في تربة ليست تربتها.

فمربط الفرس مثلاً لتشكيل سياسة اقتصادية سليمة تبدأ بالفكر والثقافة قبل السياسة والاقتصاد. وبتعبير أكثر وضوحاً إن العملية الاقتصادية ليست منفصلة عن النهضة الحضارية الشاملة للوطن والأمة. إذ أن العناصر متداخلة مع بعضها، والمكونات واحدة، والأرضية التي تنطلق منها مشتركة.

من هنا فإننا ندعو إلى الانفتاح على الغرب، والاستفادة من معارفه وعلومه لا التقليد له والأخذ بنمط الحياة لديهم.

والفرق الجوهري بين الانفتاح والتقليد أن الأول ينطلق من أرضية ثابتة واضحة تجاه قيمه ومبادئه، وينظر إلى الآخر الحضاري بمنظار القيم والمبادئ التي يعتقد بها. عكس التقليد الذي يعني الانتقال من البيئة (بالمعنى العام) المحلية والانطلاق من ذات التربة المغايرة. مما يفقد المرء هويته الحضارية.

والأنكى من ذلك أنه لن يتمكن أن يكون غربيا (بالمعنى الحضاري) ولن يكون بمقدوره أيضا أن يرجع إلى أصالته، ويكون بالتالي كالديك الذي حاول أن يقلد الغراب فلم يستطع، وحينما أراد الرجوع إلى مشيته الأولى نسيها.

وجماع القول: إننا مع خيار الانفتاح والتواصل مع كل الحضارات الإنسانية. وإن عملية الانفتاح والتفاعل، تغاير في منطلقاتها وخصائصها عملية التقليد الأبله للآخر الحضاري.

لهذا كله فإن المهمة الملقاة علينا جميع، هي العمل على بلورة خيار الانفتاح والتفاعل الخلاق مع الحضارة الحديثة والقطيعة التامة مع كل أشكال الاستلاب ومنطلقات الاستنساخ الحضاري.

اضف تعليق