q
لا يُميز قرية "برفيج ميسيون"، الواقعة أقصى شرق ألاسكا بالولايات المتحدة الأمريكية، أيّ شيء عن القرى الأخرى سوى مقبرتها الجماعية التي يعلوها صليب أبيض صغير يكاد يختفي وسط الثلوج؛ ففي عام 1918، كان تعداد القرية نحو 80 شخصًا فقط، كلهم من السكان الأصليين الذين كانوا بالكاد يتواصلون مع العالم الخارجي...
بقلم محمد منصور

لا يُميز قرية "برفيج ميسيون"، الواقعة أقصى شرق ألاسكا بالولايات المتحدة الأمريكية، أيّ شيء عن القرى الأخرى سوى مقبرتها الجماعية التي يعلوها صليب أبيض صغير يكاد يختفي وسط الثلوج؛ ففي عام 1918، كان تعداد القرية نحو 80 شخصًا فقط، كلهم من السكان الأصليين الذين كانوا بالكاد يتواصلون مع العالم الخارجي عبر اتصالات محدودة مع عمال المناجم.

ففي خريف 1918، هجمت الإنفلونزا الإسبانية على القرية التي يعيش فيها اليوم نحو 428 شخصًا، وخلال خمسة أيام فقط، أودت بحياة 72 شخصًا (90٪) من سكان تلك القرية، لم يكن لدى السكان الأصليين مناعة ضد ذلك الفيروس، فحصدت الإنفلونزا أرواحهم بسهولة لتُسجل تلك القرية في التاريخ باعتبار خسائر أرواحها هي الأكبر -على مستوى النسبة- من جرَّاء ذلك الوباء الذي يُعد أخطر جائحة في التاريخ الحديث.

أصاب فيروس الإنفلونزا الإسبانية نحو 500 مليون شخص يُمثلون ثلث سكان العالم في ذلك الوقت، توفي منهم ما بين 50 إلى 100 مليون إنسان.

ولعقود من الزمان، فُقد فيروس 1918 في التاريخ، فالوباء جاء في وقت كان فيه فهم مسببات الأمراض المُعدية وأدوات دراستها لا يزال في مهده، إلا أن الأنظار عادت إليه من جديد بعد أن كشفت دراسة جديدة نشرتها دورية "نيتشر كوميونيكيشنز" (Nature Communications) أن الإنفلونزا الموسمية -التي تُصيب الملايين سنويًّا حتى الآن- هي سليل مباشر لإنفلونزا 1918.

اللغز

يقول "سيباستيان سبنسر"، الباحث في معهد روبرت كوخ الألماني، الباحث الرئيسي في الدراسة: "إن ذلك الاكتشاف يُلقي بالضوء على كثير من المعلومات حول جائحة الإنفلونزا الإسبانية"، مشيرًا في تصريحات لـ"للعلم" إلى أن الدراسة "تحل لغزًا دام أكثر من 100 عام".

على مدى نحو 75 عامًا، لم تنجح محاولات الإجابة عن أكثر الأسئلة بساطةً حول جائحة عام 1918: لماذا كانت تلك الجائحة مميتةً إلى هذا الحد؟ لم يتم عزل أي فيروس من عام 1918، لكن جميع "طفراته" تسببت في مرض بشري أكثر اعتدالًا، علاوةً على ذلك، يشير فحص بيانات الوفيات من عشرينيات القرن الماضي إلى أنه في غضون بضع سنوات بعد عام 1918، استقرت أوبئة الإنفلونزا في نمط الوباء السنوي الموسمي المرتبط بانخفاض معدلات الوفيات بشكل كبير، فهل أنتج حدث جيني فيروسي خطير فيروس عام 1918 بقدرة إمراضية ملحوظة ثم تسبب حدث جيني حرج آخر بعد جائحة عام 1918 في إنتاج فيروس H1N1 موهن؟

وفي عام 1995، فحص فريق علمي مجموعةً من العينات تم جمعها في خريف عام 1918، وبدأت العملية البطيئة لتسلسُل شظايا الحمض النووي الريبي الفيروسي الصغيرة لتحديد التركيب الجيني لفيروس الإنفلونزا المسبب.

حددت هذه الجهود التسلسل الجيني الكامل لنوع واحد من ذلك الفيروس، وهو النوع الذي أصاب سكان الولايات المتحدة الأمريكية، كما حددت أيضًا التسلسلات الجزئية من 4 أنواع آخرين، إلا أنها لم تستطع إطلاقًا الربط بين الفيروس الذي تسبب في حدوث موجات وباء 1918 وذلك الفيروس الذي يُسبب الإنفلونزا الموسمية في الوقت الحالي.

والآن، ميزت الدراسة الجديدة مجموعةً أخرى من عينات فيروس الإنفلونزا الذي اجتاح سكان العالم في عام 1918، وكشفت معلومات جديدة كُليًّا حول انتشار الوباء، وأبرزت أيضًا وجود صلة بين تلك السلالة الفيروسية والإنفلونزا الموسمية التي تنتشر كل شتاء.

قبل مئة عام من اندلاع جائحة كورونا المستجد، كان لوباءٍ آخر تأثيرٌ أكبر بكثير على سكان العالم، وبينما حقق الباحثون الآن قفزاتٍ كبيرةً نحو فهم فيروس "كورونا المستجد" كان الباحثون في عام 1918 لا يعرفون تمامًا طبيعة المرض الذي يجتاح العالم؛ إذ لم يُكتشف فيروس الإنفلونزا البشرية "A" إلا بعد 15 عامًا فقط من انتشار الوباء.

وعلى الرغم من أن الباحثين في عام 1918 قالوا إن الوباء كان سببه فيروس، إلا أنه بمجرد أن قفزت تقنيات التحليل الجزيئي إلى الأمام في نهاية القرن العشرين، تم تحديد الجاني الدقيق لوباء عام 1918 في الأجسام المحفوظة في التربة الصقيعية والأنسجة المحفوظة بعناية في تربة العديد من المدن -من ضمنها قرية بريفاج- وقد كان المذنب دون شك هو فيروس الإنفلونزا A من النوع الفرعي H1N1.

ثلاثة أنواع

تُوجد ثلاثة أنواع من فيروس الإنفلونزا (A-B-C)، تُحدد تلك الأنواع بناءً على الأشكال التي يتخذها بروتينان أساسيان موجودان على سطح الفيروس، إلا أن جميعها يُسبب مرضًا مماثلًا إلى حدٍّ ما، وينجم عن الإصابة بالنوع A أكثر من 70٪ من الحالات.

ومنذ عام 1889 وحتى الآن، حدثت 6 جائحات رئيسية بسبب ذلك الفيروس، من ضمنها جائحة الإنفلونزا الإسبانية القاتلة التي بدأت موجتها الأولى عام 1918.

وتشير السجلات التاريخية منذ القرن السادس عشر إلى أن جائحات الإنفلونزا الجديدة قد تظهر في أي وقت من العام، وليس بالضرورة في أنماط الشتاء السنوية المألوفة في سنوات ما بين الوباء، ربما لأن فيروسات الإنفلونزا المتغيرة حديثًا تتصرف بشكل مختلف عندما تجد مجموعة بشرية عامة أو شديدة التأثر، وفي مواجهة ضغوط مناعة السكان، تبدأ هذه الفيروسات الوبائية في الانجراف وراثيًّا وتستقر في نهاية المطاف في نمط تكرار الأوبئة السنوية التي تسببها المتغيرات الفيروسية المنجرفة.

في جائحة 1918-1919، بدأت الموجة الأولى أو الموجة الربيعية في مارس 1918، وانتشرت انتشارًا غير متساوٍ عبر الولايات المتحدة وأوروبا وربما آسيا خلال الأشهر الستة التالية، وكانت معدلات المرض مرتفعة، لكن معدلات الوفيات في معظم المناطق لم تكن أعلى من المعدل الطبيعي على نحوٍ ملحوظ، وانتشرت الموجة الثانية أو الموجة الخريفية على مستوى العالم من سبتمبر إلى نوفمبر 1918 وكانت قاتلةً للغاية، في العديد من الدول، حدثت موجة ثالثة في أوائل عام 1919.

وأدت أوجه التشابه السريرية إلى استنتاج العلماء في ذلك الوقت أنهم كانوا يراقبون المرض نفسه في الموجات المتتالية، وكانت الأشكال الأكثر اعتدالًا من المرض في جميع الموجات الثلاث متطابقة ونموذجية للإنفلونزا التي شوهدت في جائحة 1889 وفي سنوات الوباء السابقة.

كما لوحظت التطورات السريعة من عدوى الإنفلونزا غير المعقدة إلى الالتهاب الرئوي القاتل، وهي سمة مميزة لموجات الخريف والشتاء 1918-1919، في حالات موجات الربيع الشديدة القليلة نسبيًّا، وهكذا يبدو أن الاختلافات بين الموجتين ترجع أساسًا إلى التكرار الأعلى للحالات المعقدة والشديدة والقاتلة في الموجتين الأخيرتين.

التسلسل الجيني

في ذلك الوقت، غابت التقنيات الدقيقة التي من شأنها أن تكشف أسرار الفيروس وتكوينه، لكن بعد قرن من الزمان، وعلى الرغم من أن العمل مع عينات محفوظة من الفيروس مهمة صعبة، فقد سلط البحث الجديد الضوء على المعلومات الوبائية.

يتوافر عدد قليل جدًّا من عينات الأنسجة أو الجثث التي تحتوي على فيروس جائحة عام 1918، لكن الباحثين وجدوا العينات التي يحتاجون إليها؛ إذ وجدوا 13 عينة رئة مؤرخة بين عامي 1900 و1930، منها 11 عينة من المتحف الطبي في مستشفى شاريتيه التابع لجامعة برلين الألمانية، وعينتان من متحف التاريخ الطبيعي في فيينا، ووجدوا أن ثلاثًا من هذه العينات الـ13 تحتوي على مادة وراثية لفيروس الإنفلونزا.

تم استخراج الجينوم الجزئي من عينتين، لشخصين عاشا في برلين في أثناء جائحة الإنفلونزا الإسبانية، والعينة الثالثة لشخص من ميونيخ، وبعمل التسلسل الجيني لتلك العينات، أنتجت جينومًا كاملًا تمت مقارنته بتسلسل جينومي لعينة من مريض توفي في سبتمبر 1918 في نيويورك وآخر من نوفمبر 1918 من قرية "برفيج ميسيون" بألاسكا.

بلغت جائحة عام 1918 ذروتها في خريف عام 1918 وشتائه، ثم مرةً أخرى في عام 1919، لذلك سمحت عينات برلين للمؤلفين بمقارنة الفيروس قبل وبعد وصوله إلى ذروة انتقاله، وقد أظهر التسلسل وجود طفرتين رئيسيتين في جين البروتين النووي للفيروس، يرتبطان بمدى قدرة الفيروس على مقاومة أنظمة المضيف المضادة للفيروسات، إلى أن خضع الفيروس لبعض التكيُّف في أثناء الوباء لإصابة المضيفين البشريين بشكل أقل ضراوة.

وتمكَّن الباحثون في تلك الدراسة من تحديد 51 طفرةً مختلفةً في جينوم فيروس الإنفلونزا الإسبانية و17 تغييرًا في الأحماض الأمينية في بروتينات فيروسية مختلفة بين الفيروس الألماني الجديد والعينات الأمريكية التي تم تحديد تسلسلها سابقًا.

تشير النتائج إلى أن الفيروس ينتشر في الغالب عن طريق الانتقال محليًّا مع قدرته على الانتشار المتكرر لمسافات طويلة، كما ارتبط وجود أنواع معينة من الأحماض الأمينية بقدرة الفيروس على إحداث عدوى مميتة، ولحسن الحظ انخفضت مستويات تلك الأحماض في فترات نهاية الجائحة، وهو ما قلَّل من عدد الوفيات، وفق ما قاله "سبنسر" في مؤتمر صحفي عقدته "نيتشر" وحضرته "للعلم".

بعد ذلك، عمل الباحثون على مقارنة جينوم الإنفلونزا الموسمية بجينوم ذلك الفيروس المُسبب لجائحة الإنفلونزا الإسبانية، ليجدوا أن الفيروس الحالي هو سليل مباشر لفيروس الإنفلونزا الإسبانية.

الاستعداد للمستقبل

يقول عالِم التطور الجزيئي بجامعة "إدنبرة" الأسكتلندية "أندور رامباوت": إن الدراسة "تُعطي لمحة شديدة الخصوصية عن التاريخ الدامي لفيروس الإنفلونزا"، مؤكدًا في تصريحات لـ"للعلم" أن الكشف عن معلومات تتعلق بأوبئة الماضي "سيمكِّننا من حماية أنفسنا في المستقبل بشكل أفضل".

ومن جهته، يقول "سبنسر": نرى في تلك الدراسة وجودًا لأصل وبائي لفيروسات الإنفلونزا الموسمية، والنتائج تحتاج إلى مزيد من التأكيدات؛ إذ إن عينة الدراسة كانت صغيرة جدًّا بسبب صعوبة الحصول على عينات بيولوجية عمرها مئة عام.

ويرى "سبنسر" أن الدراسة تؤكد أيضًا قيمة استخدام التكنولوجيا الجديدة لفهم التطور الفيروسي للأوبئة القديمة، مضيفًا: فتلك الأدوات تسمح لنا بإعادة بناء كيفية ظهور الفيروسات وانتشارها وتكييفها في أثناء الجائحة، كما تتحدد على وجه الدقة العوامل التي تؤثر على الجائحة، ما سيساعد على الاستعداد بشكل أفضل للأحداث الكارثية المحتملة القادمة.

لكن، وبعد 100 عام من الآن، هل يُمكن أن يكون لـ"كورونا المستجد" حفيدٌ يُسبب مرضًا موسميًّا؟ يجيب الباحث المشارك في الدراسة "ثورستين وولف" في تصريحات لـ"للعلم" بأن "الأمر لن يحتاج إلى مئة عام ليُصبح كورونا مرضًا موسميًّا؛ فمع وتيرة التطعيمات الحالية يُمكن أن نشاهد طفرات كورونا المستجد تُسبب مرضًا موسميًّا".

يضيف "وولف": أحد أهداف تلك الدراسة هو إلقاء الضوء على إمكانية استخدام التكنولوجيات الحديثة لبناء "سيناريوهات عديدة" للأوبئة المختلفة، ليس في الماضي فحسب، بل في الحاضر والمستقبل أيضًا.

اضف تعليق