q
لقد أدى فتح الحدود امام المحاصيل الزراعية الوافدة من بعض دول الجوار الى تدمير الزراعة في عموم البلاد، وأصبح الاستيراد هو المعول الذي هدم أسس الزراعة في العراق وجعل الفلاح يهجر مهنته ويبحث عن بديل مهما كلف الامر من نتائج سلبية عليه واسرته...

بعد ان تحول العراق الى الاقتصاد الريعي الأحادي بالاعتماد على النفط ومخرجاته برزت العديد من المشاكل، واُهملت بقية القطاعات مثل الصناعة والزراعة، فالقطاع الأخير هو المتضرر الأكثر وبات من الحلم ان يعود مثلما كان في الفترات السابقة قبل عقدين من الآن.

العراق ينفرد عن البلدان الأخرى بوجود مقومات كثيرة تساعده على التميز والتفرد بإنتاج المحاصيل الزراعية، اذ يعد وجود النهرين الى جانب الأراضي الخصبة من العوامل الضرورية لنمو القطاع الزراعي، وعلى مدار الفترات السابقة انتعشت الزراعة واعتمد الفرد العراقي عليها في تأمين حاجاته الضرورية وتحقيق الامن الغذائي.

كان المزارع يحظى بالدعم والاهتمام الحكومي النسبي، ويأتي ذلك الاهتمام نتيجة ما يعانيه البلد من حصار اقتصادي، جعله يعتمد على الإمكانات الداخلية لتوفير السلة الغذائية للمواطنين، وبالفعل تم الوقوف مع المزارعين وتزويدهم بالبذور وغيرها من مستلزمات الزراعة بما يُمكن الافراد من مواصلة الاستثمار في الحقل الزراعي دون خوف من الخسائر بالمقارنة مع الوقت الحالي.

ولولا اتخاذ الحكومة آنذاك هذا الاجراء لعاشت ملايين الافراد تحت خط الفقر ولمُلئت الطرقات بالمتسولين والباحثين عن العمل، وهذه الإجراءات في وقتها مكنت الشعب من تجاوز وعبور الازمة، التي استمرت لمدة سنوات بالتزامن مع الحروب القائمة مع البلدان المجاورة والعقوبات الدولية المفروضة على ذلك.

بعد تغيير النظام اختلف المعادلة بالكامل في عموم البلاد واخذت الافراد بالابتعاد تدريجيا عن مهنة الزراعة والبحث عن وظائف مدنية تؤمن قوتها بأقل جهد، وبالفعل حصل الإقلاع الكامل عن القطاع الزراعي وقد تجد من بين الموظفين اليوم من لم يذهب الى ارضه الزراعية منذ سنوات، ولا غرابة في هذا كونه واقع معاش ونتيجة حتمية لما يعانينه القطاع الزراعي من عدم اهتمام كامل.

فالمزارع اليوم يقاتل على أكثر من جبهة ليصل الى بر الأمان، اذ يتوجب عليه البحث عن طرق تساعده على زراعة المحاصيل دون المرور بمحطة من محطات الخسارة، نتيجة ارتفاع التكاليف الزراعية مقارنة مع المردودات المالية، فهي لا تؤمن جزء بسيط من النفقات، وبالنتيجة أصيب المزارع بخيبة وانتكاسة نفسية من تكرار العملية مع كل موسم زراعي.

فالفارق لا يزال كبير بين النفقات والايرادات، والسبب يعود ببساطة الى قلة الدعم الحكومي والاعتماد على القطاع النفطي في تأمين احتياجات الدولة المالية، ويبقى المواطن هو الضحية والحلقة الأضعف من بين الحلقات، فهو يصارع من اجل توفير لقمة عيش، في الوقت الذي تشهد فيه الأسعار ارتفاع فاحش، أضف الى هذا الغلاء المخيف الذي وصلت اليه المستلزمات الزراعية من حبوب ومتطلبات أخرى.

قبل سنوات من هذه اللحظة لم يصدق أحد ان يصل القطاع الزراعي في البلاد الى هذه الحالة من التراجع والترهل، اذ تحولت الآلاف من الدوانم والمساحات الخضراء الى مناطق سكنية، وتجريف نخيلها دون تحريك الجهات المعنية أي ساكن، في سبيل الحفاظ على الموروث الزراعي الذي كان يحمل تصنيف متقدم الى جانب البلدان المنتجة زراعيا.

وهذا التوسع الكبير بالمناطق السكنية قلص المساحات الزراعية وعرض القطاع الى زلزال فتت أراضيه وجعلها غير صالحة لتكون ارض منتجة، وتحولت الطاقة الإنتاجية فيها الى الصفر، بسبب الهجرة الكبيرة المقصودة وغير المقصودة من قبل المزارعين.

يقابل ذلك صب الجهات الحكومية جل اهتمامها على الإنتاج النفطي، اذ يعد الامر من شواهد التحول الى الاقتصاد الأحادي، وقاد بالنتيجة الى ضعف وتراجع معدل النمو الزراعي، وتقليل التخصيصات المالية لدعم المشروعات الزراعية في البلد، وكل هذه العوامل أدت الى تقليل نسبة الإنتاج والاعتماد على الاستيراد من عبر الحدود.

لقد أدى فتح الحدود امام المحاصيل الزراعية الوافدة من بعض دول الجوار الى تدمير الزراعة في عموم البلاد، وأصبح الاستيراد هو المعول الذي هدم أسس الزراعة في العراق وجعل الفلاح يهجر مهنته ويبحث عن بديل مهما كلف الامر من نتائج سلبية عليه واسرته، ولا يمكن لاحد ان يلومه على ما فعله، فهو من يتعب ويجتهد لمدة شهور ولا يجد من يحمي مزروعاته من المنافسة الخارجية.

وفي كثير من الأحيان تجد المحاصيل المستوردة أرخص بكثير من المحلية، وبالتأكيد يفضل المواطنون من عامة الشعب المستورد لضعف حالتهم الاقتصادية، وانخفاض قدرتهم الشرائية للظروف الراهنة التي يمر بها البلد من فوضى سياسية وفارق سعر صرف الدينار بالدولار.

من الأخطاء التي وقعت بها الحكومات العراقية الحديثة بعد تغيير النظام هي إطلاق مبادرة دعم وإقامة المشروعات الزراعية على شكل قروض ميسرة للمواطنين، دون المراقبة الفعلية والحقيقية لمراحل إقامة هذه المشروعات، وبالتالي ذهبت الأموال المسلمة للمواطنين لشراء السيارات وبناء المنازل وغيرها من الأمور البعيدة عن تطوير القطاع الزراعي، وبذلك تبقى الاحلام معلقة قد تتحقق في السنوات القادمة او تتحول الى رفوف النسيان.

اضف تعليق