q
فالدين سخر للبشر لكي يتعلموا منه كيف يديرون شؤون دنياهم ولينقذهم من الظلمات التي كانوا فيها قديماً ويرشدهم لما هو خير لهم ولمصلحتهم، لكن للأسف هناك من فهم الدين بطريقة خاطئة فحرفها فهمه هذا، ما تسبب في جلب الضرر لنفسه ولمن حوله وللدين، عبر تحميله مرجعية...

في خضم انتشار الفكر المتطرف والجماعات المتشددة التي تعطي انطباعا سيئا عن الدين، بدأ الحديث عن "تجديد الخطاب الديني"، وهو ما يطرح الجدل فيما إذا كان الدين يتغير وقابل للتجديد، ومن هنا نؤكد أن الدين لاشك ثابت وليس بمتغير بالجوهر، لكن التطبيق والفهم للدين هو المتغير.

فالدين سخر للبشر لكي يتعلموا منه كيف يديرون شؤون دنياهم ولينقذهم من الظلمات التي كانوا فيها قديماً ويرشدهم لما هو خير لهم ولمصلحتهم، لكن للأسف هناك من فهم الدين بطريقة خاطئة فحرفها فهمه هذا، ما تسبب في جلب الضرر لنفسه ولمن حوله وللدين، عبر تحميله مرجعية ما لا يمت له بصلة بالأصل، لهذا إن الأهم من الرجوع للأديان، هو شرحها وتفسيرها بالشكل الصحيح ونقلها بشكل سلسل مسهل ليستفيد منها الناس بما يحتاجون إليه.

ولتوضيح الفكرة نضرب مثالا على ذلك مجال الأدب الذي يتغير فيه أسلوب الكتابة بحسب الجمهور المستهدف، فإذا تغير الجمهور اقتضى الأمر تغيير الأسلوب مع الحفاظ على الفكرة الرئيسة من الرسالة التي نريد إيصالها، وعليه نتساءل كيف تغير الجمهور فيما يخص الأديان، ولماذا، وكيف يقتضي ذلك تغييرا في الخطاب الديني؟

الثورة الصناعية والتغييرات السياسية غيرت النظرة إلى الدين

ما بين الماضي والحاضر اختلفت المجتمعات وتباينت قيمها، معتقداتها، ومبادئها وخاصة بعد الثورتين الفرنسية والصناعية، اللتان أسفرتا عن تغيرات جذرية في المجتمع الأوروبي، بداية عبر فصل الدين عن الدولة وتمركز العلمانية كنهج جديد للحكم، وانتشار فكر الإلحاد الذي يعد العالم والفيلسوف الإجتماعي الفرنسي أوغست كونت الأب الروحي له، بالإضافة لرغبة المجتمعات الأوروبية بالتحرر من كل قيد يربطهم.

وعزز ذلك المجتمع الأمريكي المكون من اختلافات عرقية ودينية تمثل التحرر والانحلال من كل ما كان يسبق قيام الدولة بقوانين معاصرة لا ترتبط بدين أو قيم مجتمعية البتة، وكل هذا أدى بطبيعة الحال إلى وجود نمط جديد بالحكم، وباعتبار أن السياسة هي المتحكم الأول في مختلف وجوه الحياة فإن أي تغيير بها سينعكس حتمياً على المجتمع، فعند الانتقال من الدولة الدينية التي لا شك تعزز الاختلافات في أحكام وأساليب الحكم بين الدول تبعا لاختلاف الديانات المتواجدة، أصبح النموذج الجديد الذي يعتمد على وضع دساتير رسمية غالباً ليست مبنية على الدين، هو السائد في الدول وانتشر مفهوم دولة القانون والسيادة ليصبح الشكل الرسمي العالمي في الحكم، لينعكس هذا على المجتمعات عبر اتباعها القانون العام بدلا للقواعد الدينية كمرجعية في الكثير من البقع حول العالم وهنا لاشك خسر الدين جزءً من تأثيره على المجتمعات والأفراد فزاد الإلحاد بكثرة في أوروبا.

مع انفجار الثورة الصناعية والتطور الحاصل في أوروبا تغيرت النظرة إلى الدين، فباتت الدولة الدينية والرجوع إلى الأديان كمرجعية يعد من الماضي في ذلك الجزء من العالم، بل أصبحت الفكرة العامة بأن الدين يقودنا للتخلف، وأن التحضر يتطلب وضع الدين جانبا، فالدين بنظر الكثيرين يتعارض مع العلم والتطور، وعلى رأس هؤلاء عالم الإجتماع "أوغست كونت" الذي ذكرناه سابقاً فقد رأى بأن كلما تطور العلم وتطورت المجتمعات فإن الدين سيختفي لأن الدين كان بالأساس يحل محل العلم الذي كانت تفتقده المجتمعات، فتلجأ له لتفسر الأمور التي استعصى عليها تفسيرها وهذا كان منبع التفسيرات الدينية التي تمثل "خرافة" عند مقارنتها بالعلم.

الدين في جوهره ثابت وفي معالجته للتطورات متجدد

تسارعت ما بعد الثورة الصناعية التغيرات العلمية والتكنولوجية في العالم إلى حد وصولنا للعولمة التي كما نعلم ربطت العالم ببعضه وجعلته قرية صغيرة وذلك بتقصير المسافات عبر تطوير وسائل النقل وابتكار التكنولوجيا التي ساهمت في تسهيل التواصل وإمكانيته في أي زمان ومكان حول العالم، مما يعني تسهيل وتسريع انتقال المعلومات ومعها العادات والتقاليد والقيم.

فاليوم نحن لدينا مجتمعات كاملة تتخالط وتتعارض وأحياناً تتلاقى يوميا على هذه المواقع مما جعل تغيير المجتمعات وبنيتها الداخلية أمراً لا مفر منه فبتغير الأفراد تتغير المجتمعات، ولعل النظرة الدونية للدين في الغرب انتقلت كالعدوى لتصيب الجميع، والنقطة هنا أن مثل هذا التغيير لا يشكل خطراً على الأديان بأن تتلاشى خاصة إذا كنا نتكلم عن دين واسع الانتشار مثل الإسلام، ولكن بطبيعة الحال فإن تغير المجتمعات يستلزم حدوث تغيير في الدين، ليس في القواعد الجوهرية منه كما يدعي البعض.

ذلك لأن الإسلام في الأساس لم يوضع ليطبق في زمان أو مكان معين إنما وضع لينظم حياة الإنسان على مدى العصور وذلك لأنه يعلم جيداً ماهية الإنسان ومتطلباته والتغيرات المحتملة التي ستشهدها المجتمعات، وهذا ما نحتاج إلى التركيز عليه في الخطاب الديني الذي يحتاج للتجديد، فإن الإنسان اليوم يعود للعلم والمنطق قبل كل شيء وهذا ما أمر به الإسلام وهذه هي الحاجة اليوم أن تعتمد الحوارات والخطابات الدينية على المنطق والدلالة والبيان وطرح المواضيع التي يحتاجها ويتطلبها المجتمع اليوم لترشده وتساعده لأنه بالنهاية "الدين يسر وليس عسر".

اضف تعليق