q
إسلاميات - الإمام الشيرازي

في رحاب الأخلاق الكاظمية

رؤى من أفكار الإمام الشيرازي

ومع حث الناس وتدريبهم نفسيا، وزرع بذور الأخلاق العظيمة في نفوسهم، ورسم سبل الهداية أمام بصائرهم، ومدّهم بقيم العدل والانصاف ومناصرة الحق، كان الإمام الكاظم (عليه السلام)، لا يترك فرصة هداية للناس إلا ويقرنها بأولوية وأهمية محاسبة النفس، لغلق الأبواب والثغرات أمام الانحرافات بكل أشكالها...

(كان الإمام موسى بن جعفر كأجداده الطاهرين (عليهم السلام) في قمة الأخلاق الحسنة)

الإمام الشيرازي

غصّتْ العتبة الكاظمية بملايين الزائرين المعزين باستشهاد الإمام الكاظم (عليه السلام)، فيما غطّى السواد شوارع وساحات وبنايات مدينة الكاظمية، مواساة لأهل البيت (عليهم السلام) بهذه الذكرى التي يستذكر فيها المسلمون وشيعة أمير المؤمنين (عليه السلام)، تلك السيرة الكاظمية المعطرة بالمواقف الخالدة، حيث الكفاح الذي استمر عقودا طويلة ضد الطغاة المستبدين العباسيين، وهم يعلنون عن الطغيان والجور والظلم منهجا لهم في إدارة البلاد.

الإمام الكاظم كان الرمز الأعظم للناس المظلومين، وقد التفّ حوله الناس، واستمعوا له، وأخذوا عنه الأخلاق الإسلامية المباركة، ونهلوا من فكره النيِّر، ومن سلوكياته التي وقفت إلى جانب الفقراء والمساكين، وهم يواجهون الطغيان والاستبداد وصنوف الظلم والجور.

فكانت الأخلاق المتفردة هي المنهج الأعظم للإمام الكاظم كما في سيَر أئمة أهل البيت (عليهم السلام)، وفي ضوء ذلك، كانت الهداية تُقدَّم للناس على طبق من إيمان وتقوى واطمئنان، فاهتدى الضالون والكافرون، من أولئك الذين ضلوا سبيل الحق والخير والحرية والسلام، وتحولوا في رحاب الأخلاق الإسلامية إلى قلوب خاشعة وعقول مؤمنة ونفوس ملؤها المحبة والتعاون والتكافل والسداد.

الإمام الراحل، آية الله العظمى، السيد محمد الحسيني الشيرازي (رحمه الله)، يقول في كتابه القيم (من حياة الإمام الكاظم عليه السلام):

(كان الإمام الكاظم (عليه السلام) كآبائه وأجداده الطاهرين (عليهم السلام)ـ سبباً لهداية الناس إلى الإسلام، ومذهب أهل البيت (سلام الله عليهم)، فكم من كافر أسلم على يديه، وكم من مخالف استبصر ببركته).

الأخلاق الكاظمية كانت الطريق الذي سلكهُ محبو أهل البيت (عليهم السلام)، وتمسكوا به، وهم يسيرون في خطى الإمام الكاظم (عليه السلام) ويهتدون بأفعاله وأقواله، فهو الذي كان يكرم عدوّه حين يعرف أن فلانا من أعدائه يريد أن يلحق به الضرر، وبدلا من معاداته، يقوم الإمام (ع) بإرسال الهدايا والأموال له.

عدم تفويت فرص الهداية

وكان (عليه السلام) يرسل المعونات المادية والعينية في صررٍ تحوي مبالغ مالية، يرسلها للمحتاجين والمعوزين من دون أن يعلموا من هو مصدر هذه المساعدات الكريمة، وهذا بحد ذاته درس بليغ في عمل الخير لوجه الله تعالى، بعيدا عن الإعلان أو المجاهرة، أما فرص الهداية فكانت كبيرة وكثيرة على يديّ الإمام الكاظم (عليه السلام)، حيث اهتدى بسببه الكثير من غير المسلمين، ومن غير المتدينين.

وقد شاع صيت الإمام (عليه السلام) في أرجاء بعيدة وواسعة، ووصلت صرَرِه التي تحمل المساعدات المالية إلى أماكن قصية، وكانت أعمال الهداية والتبليغ عبارة عن فرص لا يمكن تفويتها، فسمع بها القاصي والداني، من ذوي الإيمان الضعيف، وسرعان ما كانوا يسيرون في طريق الحق والهداية والإيمان، وإن كانوا من مللٍ أخرى، أو محسوبين على الكفار.

وكان منهم أناس يبحثون عن الإمام الكاظم (عليه السلام)، طيلة عقود وسنوات مستمرة لكي يظفروا بلقائه ويفوزوا بالهداية الكاظمية.

وكل هذا كان مصدره الأخلاق التي تتصدر سيرة الإمام الكاظم (عليه السلام)، فحتى سجّانه المأمور بأوامر الطغاة كان قد اهتدى على يديه، وانتقل من المعصية والانحراف، إلى الهداية والاستقامة، وهناك من استبصروا على يديّ الإمام الكاظم (عليه السلام)، فانخرطوا في صفوف الإسلام والمسلمين بعد القناعة والهداية والاستبصار.

يقول الإمام الشيرازي:

(كان الإمام الكاظم (عليه السلام) يستفيد من كل فرصة للهداية، وتبليغ معالم الدين، وقد اهتدى على يديه الكثيرون، كان منهم ذاك الرجل النصراني الذي التقى بالإمام (عليه السلام) في العريض، وكان قد جاء من بلد بعيد وسفر شاق، وكان منذ ثلاثين سنة يسأل عن خير الأديان، وخير العباد وأعلمهم. ومنهم: رجل من قيس بن ثعلبة كان نصرانياً، فأسلم على يد الإمام الكاظم عليه السلام).

الحلم ملًكة من ملَكات الإمام (ع)، فكان الغضب غير وارد في قاموسه النفسي، وكان البِشْر والسماحة والأخلاق الرفيعة ديدن الإمام الكاظم (عليه السلام)، وكثير من الملَكات التي انطوت عليها شخصيته، وهي التي جعلت منه نموذجا حيّا للناس، يقتدون بعلمه وكلامه ونصائحه وأفعاله أيضا، ومنها ملَكة الكرم والسخاء التي أخذها عن جده رسول الله (صلى الله عليه وآله)، وعن أجداده من أئمة أهل البيت الأطهار (عليهم السلام).

أما حُسْن الجوار فقد قدم الإمام (ع) درسا للجميع في الإحسان للجار، ومراعاة مشاعره، والحفاظ على حقوقه، ومساندته في الملمات، ومن أشهر خواصه وسماته وملَكاته، الإنصات لذوي الحاجة، أيا كان نوعها أو حجمها والعمل على قضائها، فكان الإمام الكاظم (عليه السلام) من أعظم المبادرين لمساعدة الآخرين وقضاء حوائجهم.

دروس في مكافحة الاستبداد

ولا يدّخر جهدا في حل المشاكل التي يعاني منها الآخرون، بل يسعى بكل الإمكانيات المتوافرة المادية أو المعنوية لتذليل مصاعب وعُقَد الناس، لاسيما أن الطغيان والظلم والاستبداد كان في أوج درجاته، ومع كل هذه المشاركات الكبيرة، في الهداية، والكرم والسخاء وقضاء الحوائج ومعالجة المشكلات، كانت يده وصرره تصل إلى كل ذي حاجة من دون أن يعلم أن مصدرها هو الإمام الكاظم (عليه السلام).

يقول الإمام الشيرازي:

(كان الإمام موسى بن جعفر كأجداده الطاهرين (عليهم السلام) في قمة الأخلاق الحسنة، حليماً كريماً سخياً، يحسن الجوار، ويقضي حوائج الناس، ويسعى في حل مشاكلهم).

ومن أقصر طرق الهداية التي كان يبثّها الإمام (عليه السلام) في القلوب والعقول والنفوس، تركيزه (ع) على محاسبة النفس، والتأكيد على التمرين والتدريب اليومي المنتظم على هذا العمل الصعب والكبير، فليس كل الناس يواظبون على محاسبة أنفسهم بشكل يومي ودوري منتظم، لأن هذا الأمر يحتاج إلى روح كبيرة وقلب خاشع وإيمان حقيقي.

لذلك كان الإمام الكاظم (عليه السلام) يؤكد كثيرا على (محاسبة النفس) ويحث الناس عليها، ويطالبهم أن لا يترددوا في الانخراط بهذه المهمة، واتخاذ هذه الخطوة على الرغم من ثقلها وصعوبتها، إلا أنها هي خطوة الإنقاذ الأهم لتدريب النفس على نبذ المعاصي وتجنّبها.

وقد ذكر الإمام الشيرازي هذه المساعي العظيمة للإمام الكاظم (عليه السلام) حين قال:

(من أهم طرق إصلاح النفس محاسبتها، وقد ورد التأكيد عليها كثيراً، وكان الإمام الكاظم كآبائه الطاهرين (عليهم السلام) يؤكد على هذه المسألة).

ومع حث الناس وتدريبهم نفسيا، وزرع بذور الأخلاق العظيمة في نفوسهم، ورسم سبل الهداية أمام بصائرهم، ومدّهم بقيم العدل والانصاف ومناصرة الحق، كان الإمام الكاظم (عليه السلام)، لا يترك فرصة هداية للناس إلا ويقرنها بأولوية وأهمية محاسبة النفس، لغلق الأبواب والثغرات أمام الانحرافات بكل أشكالها.

لذلك يذكرنا الإمام الشيرازي بقول الإمام موسى بن جعفر (عليه السلام): (ليس منا من لم يحاسب نفسه في كل يوم، فإن عمل حسناً استزاد الله، وحمد الله عليه، وإن عمل سيئاً استغفر الله منه وتاب إليه).

ومع مرور هذه الذكرى بتفاصيلها المحزنة والمؤلمة، إلا أن الدروس العظيمة التي تحملها للمسلمين وشيعة أهل البيت (عليهم السلام)، تبقى الأكثر توهجا في القلوب والضمائر والنفوس، وستبقى سيرة الإمام الكاظم (عليه السلام) في مكافحة الظلم والصمود ضد الطغاة والاستبداد، ساطعة بدروسها ومآثرها، مع حمله لراية الهداية التي تُدخل الأمان والإيمان في قلوب اللائذين المحتمين بالإمام الكاظم (عليه السلام).

اضف تعليق