q
المتتبع لفلسفة الدستور يعرف جيدا إن الوثيقة الدستورية إنما توضع لتؤسس للهيئات العامة في الدولة وشريطة إن تتفق طريقة تأسيس هذه المؤسسات وطريقة عملها مع الإرادة العامة للشعب، فالأخير مصدر السلطة وشرعيتها فمثلما أسبغ المشروعية على الهيئات العامة من حيث تشكيلها وممارسة أعمالها، فهو قادر على نزع ما تقدم...

ينصرف المعنى الذهني للثورة إلى حالة الهياج الشعبي التي تعارض الحكم والنظام السياسي القائم وتحاول أن تغيره ولو بالقوة، وهذا المعنى يعبر عنه بالتمرد أو التذمر الشعبي أو العصيان وكلها تعبيرات تندرج ضمن الحق في مقاومة طغيان السلطة وإعادتها إلى رشدها.

وتتمايز الثورة عن الانقلاب العسكري في إن الأخير بالغالب الغاية منه السيطرة على مقاليد السلطة في البلاد بالقوة والقسر والإكراه، بينما الثورة تهدف إلى إحداث تغييرات جذرية عميقة تطال الجوانب السياسية والإدارية والاقتصادية والاجتماعية وبالغالب تتفجر الثورة نتيجة تغير في طريقة التفكير الشعبي وتكوين رأي عام مناهض للطبقة الحاكمة لتصاعد مشاعر الحنق على سوء الأوضاع العامة في البلد.

مما تقدم يمكن القول إن الثورة هدفها تحقيق المصلحة العامة وينهض بها الشعب ممثلاً بجميع مكوناته أو الأعم الأغلب منهم بينما الانقلاب يهدف إلى تحقيق مصالح فئة صغيرة بالغالب تتمثل ببعض القادة العسكريين، ولذا عرفت الثورة بأنها حركة شعبية واسعة النطاق يقوم بها الشعب هادفاً إلى تغيير جذري في طريقة إدارة الدولة، فمن الثابت ان فكر الإنسان في حالة من التغيير المستمر والتطور التدريجي لذا على السلطة السياسية ان تواكب هذا التغيير وإلا سيكون الزوال مصيرها.

ولما كان الدستور هو تكريس للواقع المعاش في البلد وهو إما إن يكون واقعي حين يعبر عما تقدم بصدق وأمانة أو يكون بعيداً عن ذلك حين يصاغ بطريقة لا تتفق مع البيئة المطبق بها وقد يكون إقرارياً بمعنى يقر الحالة الموجودة أو برنامجياً هادفاً إلى إحداث تغييرات مستقبلية، فهو القانون الأسمى والقادر على منح الشرعية للسلطة الحاكمة بوصفه الوثيقة القانونية الأهم في البلد والتي تصدر طبقاً لإجراءات قانونية مغايرة لتلك المتبعة حين تصدر القوانين العادية فتتضمن قواعد قانونية تتعلق بنظام الحكم في الدولة وببيان تشكيل واختصاصات الهيئات العامة وعلاقتها بعضها بالبعض الآخر وبالأفراد، فان صلح الدستور استقام أمر السلطة العامة وان فسد الدستور ساءت الأمور.

ومن نافلة القول ان هنالك من يميز بين الثورة الاجتماعية والسياسية فالأخيرة تكون هادفة إلى تغيير النظام السياسي فحسب لذا تسمى بالثورة الجزئية، كون القائمين بها لا يملكون برنامجاً إصلاحياً أو تغيرياً للأوضاع العامة، ويمكن تمثيل هذا الأمر بالثورات التي هدفت إلى تحرير بعض البلدان من الاستعمار الأجنبي فقد تصدت الكثير من الحركات السياسية والاجتماعية إلى الجيوش الأجنبية الجاثمة على أراضي دول معينة بغية التحرير والتأسيس لحكم وطني دون ان يملك القائمين عليها رؤية إصلاحية شاملة للأوضاع السياسية والإدارية والاقتصادية والاجتماعية، بل بالغالب هم يتعاملون مع الأوضاع المصاحبة بقرارات مرحلية ارتجالية لا تمت إلى التخطيط المسبق أو الرؤية الإصلاحية الشاملة.

أما الثورات الاجتماعية فهي بالغالب تنطلق من رحم المعاناة الشعبية من النظام الحاكم وتحاول أن تنقل البلد من المعاناة إلى حالة إيجابية فتكون لدى الثوار رؤية بالانتقال من نظام اقتصادي مغلق إلى نظام حر ومن نظام سياسي مستبد إلى نظام ديمقراطي وكذا الأمر بالنسبة للمقومات الأخرى لذا لابد من مراعاة التالي لضمان النجاح:

1- أن تتحصل حالة الهياج على الشرعية الشعبية.

2- وضوح الرؤية والهدف عند قادة التحرك الشعبي.

3- السلوك السلمي والمدني البحت.

4- البواعث الإنسانية والإصلاحية.

5- القيادة الحكيمة والواعية والأمينة.

وينبغي التذكير إن الثورة لا يشترط فيها نمط أو شكل معين فالتحركات الاحتجاجية الشعبية المنظمة أو العفوية ترقى إلى مصاف الثورة متى ما كانت معبرة عن إرادة ورأي عام رافض للواقع ويمكن بهذا الخصوص التمييز بين التحركات المجتمعية:

- في الأنظمة الديمقراطية: ويكون الغاية والغرض منها إعادة ترتيب صفوف المعارضة السياسية والحزبية لجعلها في موطن أقوى من ذي قبل لتمارس مهام المراقبة الحثيثة للحكومة القائمة والتصحيح للمنهج والسياسة المتبعة فتستعين بالقواعد الشعبية لتنظيم حركة معبرة عما تقدم، وتتوقف هذه الثورة عند تحقيق المطالب الإصلاحية وإلزام الحكومة أو السلطة التشريعية أو كلاهما بالتزام سياسة واضحة من شأنها إن تحقيق المصلحة العامة.

- في الأنظمة المستبدة: ويهدف القائمون بالتحرك الاجتماعي إلى إحداث تغيرات جذرية وعميقة ليس على صعيد الطبقة الحاكمة فحسب بل على صعيد تغيير فلسفة النظام بشكل شامل على مستوى كل الصعد.

وفي الحالة العراقية يمكن التمثيل للتحركات التي ناوأت الحكم الاستبدادي في أكثر من منطقة في العراق بالوسط والجنوب أو في الشمال بأنها بوادر لثورة شعبية اجتماعية إلا أنها لم تفلح بالنجاح بالوصول إلى سدة الحكم وتحقيق الأهداف البعيدة والمتوسطة بإحداث انتقالة نوعية في نظام الحكم، كما شهدنا قبل فترة وجيزة تحرك اجتماعي واسع في غالب المحافظات العراقية تمثل بسلسلة من الحركات الاحتجاجية الشعبية الهادفة إلى إسقاط الشرعية عن نظام الحكم بعد العام 2003 القائم على المحاصصة الطائفية والحزبية والتي أورثت البلد آفة الفساد، ونتج عما سبق ظهور شخصيات حزبية مستبدة ارتكبت سلسة من الأخطاء الإستراتيجية قادت البلد إلى حافة الهاوية.

ومن هنا كان لزاماً علينا التساؤل بما إن الشعب العراقي حانق على الوضع القائم فما أثر ذلك على القواعد الدستورية التي تضمنها دستور جمهورية العراق لسنة 2005؟ لا سيما إن علمنا إن جل النصوص الدستورية معطلة فعليا أو بسبب قرارات وقوانين صدرت من البرلمان العراقي والحكومة العراقية على سبيل المثال المادة (122) المتضمنة تنظيم مجالس المحافظات معطلة منذ شهر كانون الأول 2019 ولغاية الآن بسبب صدور قانون رقم (27) الذي علق العمل بالنصوص القانونية المتعلقة بمجالس المحافظات والأقضية، والمادة (65) المتعلقة بمجلس الاتحاد والتي لم ترى النور بعد منذ العام 2005، وكذا الأمر ببعض بنود المادة (93) ومنها مساءلة رئيس الجمهورية ورئيس الوزراء والوزراء من المحكمة الاتحادية التي لم يصدر بها قانون بعد، فلا يمكن مع ما تقدم مساءلتهم، وغيرها كثير.

وللإجابة نقول إننا ينبغي ان نميز بين النص الدستوري ومصالح الشعب فالأول مجرد وسيلة لتحقيق الثاني فإن عجز عن النهوض بالوظيفة المسندة إليه كان التغيير واجباً وليس مجرد مطلب، أضف لما تقدم أن الإيمان بالشعب كمصدر وحيد لشرعية السلطة يكمله الإيمان إن القواعد القانونية أياً كانت تهرم وتشيخ بعد فترة من الزمن وتصبح غير ملائمة للتطبيق فتحتاج إلى إعادة النظر بها بما يتلاءم مع الواقع الجديد والإصرار عليها لا يزيد الرأي الرافض لها أو لنتائجها إلا إصراراً.

ويتساءل البعض عن شرعية الاحتجاجات الشعبية التي تأتي خارج سياق التنظيم القانوني لحرية التعبير عن الرأي بيد ان المتتبع لفلسفة الدستور يعرف جيدا إن الوثيقة الدستورية إنما توضع لتؤسس للهيئات العامة في الدولة وشريطة إن تتفق طريقة تأسيس هذه المؤسسات وطريقة عملها مع الإرادة العامة للشعب، فالأخير مصدر السلطة وشرعيتها فمثلما أسبغ المشروعية على الهيئات العامة من حيث تشكيلها وممارسة أعمالها، فهو قادر على نزع ما تقدم عنها فتغدو سلطة واقعية وأعمالها لا قيمة لها، طالما هي لا تعدو ان تكون اغتصاباً لسلطة الشعب، فالمادة الخامسة على سبيل المثال من دستور العراق تؤكد إن الشعب مصدر السلطة وشرعيتها، ما يرجح مع ما تقدم سؤالنا عن مصير القواعد الدستورية في ضوء الرفض الشعبي لطريقة تأسيس المؤسسات أو ما ينتج عنها من قرارات؟

ولذا سنستعرض بعض الآراء الفقهية التي بحثت أثر الثورة الاجتماعية على القواعد الدستورية:

الاتجاه الأول: والذي يرجح السقوط التلقائي للدستور دون حاجة لصدور تشريع بذلك يقرر هذه النتيجة فالهدف من التحرك الشعبي ليس الإعلام أو الدعاية والتحرك الظاهري إنما الهدف منه دائما الإصلاح والقضاء على آفات الحكم السياسي وتقويم الاعوجاج.

يؤيد الرأي المتقدم إن الدستور والقواعد الدستورية الهادف منها التأسيس لنظام الحكم السياسي وترسيخ الفلسفة الاجتماعية والاقتصادية والثقافية للفئة القابضة على السلطة، وحين يتحرك الشعب بالضد مما تقدم فمن المؤكد انه يزيل ستار المشروعية ويمسي نظام الحكم والقابض على السلطة بلا شرعية شعبية له أو لنظام حكمه، فلابد من الانتقال الفوري إلى العلاج الناجع بتغيير الوثيقة الدستورية واستفتاء الشعب على نظام حكم أكثر تمثيلاً للتطلعات الشعبية.

الاتجاه الثاني: ويرى عدم سقوط الوثيقة الدستورية أو القواعد الدستورية التي تؤسس لنظام الحكم بشكل تلقائي، ويثير أنصار هذا الاتجاه احتمالية ان يكون الهدف من التحرك الشعبي هو حماية الدستور وإعادته إلى الحياة وتخليصه من عبث الطبقة الحاكمة التي تلاعبت بتنفيذ النصوص وانحرفت عن المعنى الحقيقي لها في محاولة منهم إلى تكريس سلطتهم الفردية، فتكون الثورة تصحيحية هادفة إلى إعادة الدستور إلى الحياة السياسية في البلد.

نعم الحكم على شرعية الثورة من عدمه يتوقف على عوامل عدة من أهمها القبول الشعبي لأهداف الثورة والدعم الجماهيري لها، وان الحكم على نجاعتها يتوقف على نجاحها من عدمه فقد تفشل الثورة بسبب بطش نظام الحكم وقد يقاد قادتها إلى المحاكمة أو وتنطفئ جذوة نيرانها، إلا أنها تكشف وبما لا يدع مجالاً للشك إن تغييراً قد حصل في طبيعة التعاطي الشعبي مع الرأي العام فيكون من صالح الجميع إعادة النظر بالنصوص الدستورية والمضي نحو الإصلاح الحقيقي.

ولابد من التذكير ان الاتجاهين السابقين متفقان على أن الدستور سواء بقى على حاله أم جرى إلغائه كلياً وجزئياً فان النصوص القانونية المنظمة للحقوق والحريات لا يمكن إن تمس، نعم قد تفقد مرتبتها الدستورية التي تضعها فوق القواعد القانونية في البلد لكنها أبداً لن تفقد قيمتها القانونية والأخلاقية فهذه النصوص لا تمت إلى النظام السياسي الحاكم بصلة بل هي واجبة الاحترام، لكونها تمثل خلاصة ما وصلت اليه الحياة الحضرية واستقرت بالضمير الإنساني العالمي وأضحت أسمى حتى من النصوص الدستورية ذاتها، وأيما قانون أو دستور يحاول النيل منها فسينعت بعدم الشرعية حتماً.

...........................................

** مركز آدم للدفاع عن الحقوق والحريات/2009-Ⓒ2022
هو أحد منظمات المجتمع المدني المستقلة غير الربحية مهمته الدفاع عن الحقوق والحريات في مختلف دول العالم، تحت شعار (ولقد كرمنا بني آدم) بغض النظر عن اللون أو الجنس أو الدين أو المذهب. ويسعى من أجل تحقيق هدفه الى نشر الوعي والثقافة الحقوقية في المجتمع وتقديم المشورة والدعم القانوني، والتشجيع على استعمال الحقوق والحريات بواسطة الطرق السلمية، كما يقوم برصد الانتهاكات والخروقات التي يتعرض لها الأشخاص والجماعات، ويدعو الحكومات ذات العلاقة إلى تطبيق معايير حقوق الإنسان في مختلف الاتجاهات...
http://ademrights.org
[email protected]
https://twitter.com/ademrights

اضف تعليق