q
الكذب من أبشع مصاديق الإلتواء، فإنه أُم كل شيء وجرثومة كثير من الرذائل، فالنفاق، وذو الوجهين، والتملّق، ومدح من لا يستحق المدح، وأشباه ذلك.. ولائد الكذب. ولا يكذب الإنسان إلا لخفة في نفسه، والتواء في باطنه، وانهزام في روحه وإلا فالصريح المستقيم، لا يحتاج إلى الكذب...

كل التواء في قول أو عمل، يمقته الإسلام، كما يذمه العقل.

والكذب من أبشع مصاديق الإلتواء، فإنه أُم كل شيء وجرثومة كثير من الرذائل، فالنفاق، وذو الوجهين، والتملّق، ومدح من لا يستحق المدح، وأشباه ذلك.. ولائد الكذب.

ولا يكذب الإنسان إلا لخفة في نفسه، والتواء في باطنه، وانهزام في روحه وإلا فالصريح المستقيم، لا يحتاج إلى الكذب.

ولم يكذب؟

لأنه يريد ابتزاز مال، أو إحتكار جاه، أو إبقاء خير أو تجنّب خطر.

وهل يوفّر الكذب ما ظنّه؟.

كلا! بل ـ بالعكس ـ الكذب فيه كل هلكة وانحطاط وانهيار، والصدق ـ وهو ضدّه ـ فيه كل نجاة ورفعة وسموّ وقديماً قيل:

(النجاة في الصدق، والهلاك في الكذب).

نعم.. ربما وفّر الكذب خيراً مزعوماً، ولكن الكذوب سرعان ما يزول عنه جلباب الالتواء، فينظر إليه الناس على صورته البشعة، فيقليه القريب، ويتجنب عنه البعيد، ويلفظه كل دان وقاص، ولا يقم أحد لكلامه وزناً، ولمقاله اعتباراً وقيمة.

الإسلام يحارب الكذاب

وعلى أي، فالإسلام يحارب الكذاب والكذابين حرباً شعواءً.

ففي القرآن الحكيم: (إنما يفتري الكذب الذين لا يؤمنون بآيات الله...)(1).

وقال سبحانه: (فأعقبهم نفاقاً في قلوبهم إلى يوم يلقونه بما أخلفوا الله ما وعدوه وبما كانوا يكذبون)(2).

وقال رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم): (إياكم والكذب! فإن الكذب يهدي إلى الفجور، والفجور يهدي إلى النار)(3).

وهذا شيء واضح، فإن الكذب يوجب الالتواء، ولا مانع لدى الكذوب أن يعمل إجراماً، لأنه يأمن من مغبته، أليس يقدر على الكذب؟ إذا سئل عنه؟.

وقال (صلى الله عليه وآله وسلم): (المؤمن إذا كذب من غير عذر، لعنه سبعون ألف ملك، وخرج من قلبه نتن حتى يبلغ العرش، فيلعنه حملة العرش وكتب الله عليه بتلك الكذبة سبعين زنية، أهونها كمن زنى مع أمه)(4).

وقد تقدم معنى هذه المفاضلة وأسبابها في بحث سابق.

وفي أمثال هذه المفاضلات إحتمال ثالث لم نذكره هناك، لا بأس بذكره:

وهو إنّ للأمور المندوبة أجرين، وللأشياء المبغوضة عقابين: الأصل، واللوازم.

فمثلا: لقراءة القرآن كاملاً أجر ألف دينار، وتفضّل مائة ألف دينار.. وللزنا عقوبة مائة سوط، وزيادة عشرة آلاف لما يكتنفه من انتهاك حرمة الله تعالى، وإفساد المرأة وإضاعة النسل وما أشبه.

فإذا ورد في الحديث: إنّ قارىء (قل هو الله أحد)(5) ثلاث مرات يعطي من الأجر قدر قارىء تمام القرآن، يراد به الأصل لا التفضل.

كما لو أنّ الكذب عقابه أشدّ من الزنا، كان المراد اشد من عقوبة الزنا الأصلية.

وهذا موجود في العرف، فإن سب رئيس السلطة، وان كان بما هو سب لا يستحق أكثر من غرامة أو عقوبة ضئيلة، ولكنه بما هو سبّ الرئيس الملازم لهنات وانتهاك حرمات، يستحق مرتكبه عقوبة كبيرة وغرامة ثقيلة.

كما إن إهداء ضئيلاً إلى كريمٍ، إن كان بما هو هو، لا يقابل إلا بقدره أو أكثر من قدره بقليل إلا ان الإهداء بما هو إلى كريم يكون مقابله أضعاف أضعاف ذلك.

إذاً فما ورد في الأحاديث من بعض المفاضلات، محمول على هذا المعنى.

ونعود ثانياً إلى الكذب وعقابه وذمّه.

سئل رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم): (يكون المؤمن جباناً؟ قال (صلى الله عليه وآله وسلم): نعم.. قيل: ويكون بخيلاً؟ قال: نعم، قيل: ويكون كذّاباً؟ قال (صلى الله عليه وآله وسلم): لا)(6).

وقال (صلى الله عليه وآله وسلم): (كبرت خيانة أن تحدّث أخاك حديثاً هو لك به مصدّق، وأنت له به كاذب)(7).

وقال (صلى الله عليه وآله وسلم): (الكذب ينقص الرزق)(8).

وكيف؟ إنّ الكاذب يجنب، وتجنب الناس ـ بدوره ـ يوجب قلة الكسب وهي تنقص الرزق. وهذه القضايا قضايا حقيقية (في اصطلاح المنطقيين) ككون الدواء الفلاني يوجب الصحة من المرض الكذائي، فلا ينافي ذلك عدم الاطراد والانعكاس.

وقال (صلى الله عليه وآله وسلم): (ويل للذي يحدث فيكذب، ليضحك به القوم ويل له، ويل له!!!) (9).

وقال (صلى الله عليه وآله وسلم): (رأيت (من الرؤيا في النوم) كأنّ رجلاً جاءني، فقال لي: قم. فقمت منه، فإذا أنا برجلين أحدهما قائم والآخر جالس وبيد القائم كلوب من حديد يلقمه في شدق الجالس، فيجذبه حتى يبلغ به كاهله! ثم يجذبه فيلقمه الجانب الآخر فيمدّه. فإذا مدّه رجع الآخر كما كان!

فقلت للذي أقامني: ما هذا؟ !

فقال: هذا رجل كذّاب يعذّب في قبره إلى يوم القيامة!)(10).

وقال (صلى الله عليه وآله وسلم): (ألا أخبركم بأكبر الكبائر؟

الإشراك بالله، وعقوق الوالدين... وقول الزور...)(11) أي الكذب.

وقال (صلى الله عليه وآله وسلم): (إنّ العبد ليكذب الكذبة، فيتباعد الملك منه مسيرة ميل من نتن ما جاء به)(12).

وقال (صلى الله عليه وآله وسلم): (إنّ للشيطان كحلاً، ولعوقاً، ونشوقاً. فأمّا لعوقه فالكذب، وأما نشوقه فالغضب، وأما كحله النوم)(13).

إنّ الحديث تشبيه.. أو حقيقة، وكم من حقائق لا ندركها!.

ثم إنّ الإنسان قد يكذب في الهزل، زاعماً إنه هزل فأي ضرر يتولد منه؟ لكن الهزل كثيراً ما صار ملكة، ثم بقي بعده دور الجد.. ثم أي دافع يدفع الإنسان للكذب ولو في الهزل، أليس يمكن المزاح بغير الكذب؟

يقول الامام أمير المؤمنين (عليه السلام): (لا يجد العبد طعم الإيمان حتى يترك الكذب هزله وجدّه)(14).

وقال (عليه السلام) ـ لعبد ذم الكذب ـ: (أعظم الخطايا عند الله: اللسان والكذب، وشرّ الندامة: ندامة يوم القيامة)(15).

وقال الامام السجاد (عليه السلام): (إتقوا الكذب الصغير منه والكبير، في كل جد وهزل، فإن الرجل اذا كذب في الصغير، اجترأ على الكبير)(16).

وقال الإمام الباقر (عليه السلام): (إن الله عز وجل جعل للشرّ أقفالاً، وجعل مفاتيح تلك الأقفال الشراب، والكذب شرّ من الشراب)(17).

إن من شرب الخمر، فلعبت برأسه، لا مانع لديه من انتهاك أي حرمة، واقتراف أي جريمة، وارتكاب أي منكر. أليس المانع كان هو العقل؟ إذاً: ذهب بذهابه.

ثم.. كلما يأتي من الشرب ليس مثل ما يأتي من الكذب، أليس بالكذب يقتل الألوف وتهتك أعراض؟ إنّ القائد الذي يكذب ـ تحفّظاً على كيان نفسه ـ فيرسل العساكر باسم إنهم أعداء، أليس يفعل كل ذلك لكِذب كَذبه؟. وهكذا...

وقال (عليه السلام): (إنّ أوّل من يكذّب الكذّاب: الله عز وجل، ثمّ: الملكان اللذان معه، ثمّ: هو يعلم إنه كاذب)(18).

وقال الإمام العسكري (عليه السلام): (جعلت الخبائث كلها في بيت، وجعل مفتاحها الكذب)(19).

هذا شأن الكذب بصورة عامة.

أشدّ أنواع الكذب

أما الكذب على الله والرسول والأئمة (عليهم السلام) فهو أشدّ أنواع الكذب وسببه واضح، فإنّ قولهم وفعل النبي والأئمة (عليه السلام) وتقريرهم حجة يلزم أن يؤخذ بها فالكذب عليهم ذو أثر كبير.

قال الامام الصادق (عليه السلام): (إن الكذبة لتفطر الصائم.

قال الراوي: وأيّنا لا يكون ذلك منه؟.

قال (عليه السلام): ليس حيث ذهبت، إنما الكذب على الله تعالى، وعلى رسوله، وعلى الأئمة عليهم السلام)(29).

قال (عليه السلام): (الكذب على الله، وعلى رسوله من الكبائر)(21).

وذكر عند الامام الصادق (عليه السلام) الحائك، وكونه ملعوناً...

فقال (عليه السلام): (إنما ذلك الذي يحوك الكذب على الله وعلى رسوله)(22).

وقال الإمام الباقر (عليه السلام): (لا تكذب علينا كذبة فتسلب الحنفيّة)(23) أي الإسلام.

ومن الكذب الذي يتساهل بشأنه: الكذب في حكاية المنام مع أنه لا يفرق عن سائر أقسام الكذب، فإن الكذب قول خلاف الواقع سواء كان حكاية عن يقظة أو منام أو عن أمر ماض أو مستقبل.

قال رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم): (إن من أعظم الفرية فرية: أن يدعى الرجل إلى غير أبيه، أو يري عينيه في المنام ما لم ير، أو يقول علي ما لم أقل)(24).

ولعل جعله من أعظم الفرية ما كانوا يرتبون على المنام من شحناء وقطيعة، وما أشبه كما هو مذكور في محله.

وقال (صلى الله عليه وآله وسلم): (من كذب في حلم كلّف يوم القيامة: أن يعقد بين شعيرتين)(25).

وليس الكذب خاصّاً بالقول، بل الإشارة والكتابة والمرض، كلها من أقسام الكذب.

كما أن من أقسام الكذب:

شهادة الزور، بل هذا الكذب من أشدّ المحرمات، لأنه ليس كذباً فحسب، بل سبب لنقل الحقوق من مكانها، وإلحاق الأولاد بغير آبائهم. وهكذا.. وهكذا.

يقول القرآن الحكيم في مدح المؤمنين:

(والذين لا يشهدون الزور وإذا مروا باللغو مروا كراماً)(26).

وقال رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم): (شاهد الزور كعابد الوثن)(27).

ومن أقسام الكذب: اليمين الكاذبة:

قال رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم): (التجار هم الفجار.

فقيل: يا رسول الله، أليس الله قد أحلّ البيع؟

فقال: نعم.. ولكنهم يحلفون فيأثمون، ويحدّثون فيكذبون)(28).

وقال (صلى الله عليه وآله وسلم): (ثلاث نفر لا يكلمهم الله يوم القيامة، ولا ينظر اليهم، ولا يزكّيهم: المنان بعطيته، والمنفق سلعته بالحلف، والفاجر المسبل إزاره)(98).

وإسبال الأزار كبرياءً محرّم في الشريعة ـ كما لا يخفى ـ.

وقال (صلى الله عليه وآله وسلم): (ما حلف حالف بالله، فأدخل فيها مثل جناح بعوضة، إلا كانت نكتة في قلبه إلى يوم القيامة)(30).

وقال (صلى الله عليه وآله وسلم): (ثلاث يشنأهم الله: التاجر أو البائع الحلاّف، والفقير المختال، والبخيل المنان)(31).

ومن أقسام الكذب خلف الوعد.

قال رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم): (من كان يؤمن بالله واليوم الآخر فليف إذا وعد)(32).

وقال (صلى الله عليه وآله وسلم): (أربع من كن فيه كان منافقاً، ومن كانت فيه خلة منهن، كانت فيه خلة من النفاق حتى يدعها: إذا حدث كذب وإذا وعد أخلف، وإذا عاهد غدر، وإذا خاصم فجر)(33).

وقال الامام الصادق (عليه السلام): (عِدة المؤمن أخاه نذر لا كفّارة له فمن أخلف فبخلف الله تعالى بدر، ولمقته تعرّض. وذلك قوله تعالى: (يا أيها الذين آمنوا لم تقولون ما لا تفعلون كبر مقتاً عند الله أن تقولوا ما لا تفعلون)(34) (35).

* فصل من كتاب: الفضيلة الاسلامية

....................................
1 ـ سورة النحل: آية 105.
2 ـ سورة التوبة: آية 77.
3 ـ جامع السعادات: 2/322.
4 ـ جامع السعادات: 2/322.
5 ـ سورة الإخلاص: آية 1.
6 ـ جامع السعادات: 2/322.
7 ـ جامع السعادات: 2/322.
8 ـ جامع السعادات: 2/322.
9 ـ جامع السعادات: 2/322.
10 ـ جامع السعادات: 2/322.
11 ـ جامع السعادات: 2/322.
12 ـ جامع السعادات: 2/322.
13 ـ جامع السعادات: 2/323.
14 ـ جامع السعادات: 2/323.
15 ـ جامع السعادات: 2/323.
16 ـ جامع السعادات: 2/323.
17 ـ جامع السعادات: 2/323.
18 ـ أصول الكافي: 2/339 ـ جامع السعادات: 2/323.
19 ـ جامع السعادات: 2/323.
20 ـ أصول الكافي: 2/339 ـ جامع السعادات: 2/323.
21 ـ أصول الكافي: 2/339 ـ جامع السعادات: 2/323.
22 ـ أصول الكافي: 2/340 ـ جامع السعادات: 2/324.
23 ـ جامع السعادات: 2/324.
24 ـ جامع السعادات: 2/331.
25 ـ جامع السعادات: 2/331، البحار: 76/359، ب: جوامع نواهي النبي (ص).
26 ـ سورة الفرقان: آية 72.
27 ـ جامع السعادات: 2/331.
28 ـ جامع السعادات: 2/331.
29 ـ جامع السعادات: 2/331.
30 ـ جامع السعادات: 2/331.
31 ـ جامع السعادات: 2/331.
32 ـ أصول الكافي: 2/364 ـ جامع السعادات: 2/331.
33 ـ بحار الأنوار: 75/94، ب47 ـ جامع السعادات: 2/332.
34 ـ سورة الصف: آية 2 ـ 3.
35 ـ بحار الأنوار: 75/96، ب47 ـ جامع السعادات: 2/331.

اضف تعليق