q
الحسين عليه السلام حين خرج واهل بيته أراد إرجاع الكرامة الى المجتمع الذي افتقدها بفعل الممارسات الخاطئة من قبل الحكام المستبدين والمستعبدين للبشر، فقدم بناء تربوي فعّال لزمن طويل، يلتصق بالإنسان منذ الولادة وحتى الفناء، في الوقت الذي أصبح فيه انتهاك الكرامة من المشاكل التي تعاني منها المجتمعات...

واقعة الطف ليست كغيرها من الوقائع، فهي كانت ولا تزال وستبقى مدرسة منهجية متكاملة، تحظى بتفاعل الضمير الإنساني النير، حاملة دروس يعجز عن حملها أي فكر آخر، فهي استكمالا للرسالة السماوية التي بُعث بها الصادق الأمين صلى الله عليه وآله وسلم، وتكمّل ما شرعه الخالق للمخلوقين.

حقا انها رسالة تتناسب معطياتها مع جميع المتغيرات، وتنفع بنودها للعمل في جميع الازمان، فهي تمتلئ بدروس العزة والكرامة، ملحمة عاشوراء، ملحمة حفظ كرامة الانسان المهدورة، وصوت الحسين عليه السلام الذي دوى عاليا في كربلاء لا يزال يُحي الضمائر ويهز عروش الطغاة، حيث قال عليه السلام: "ألا وان الدعي ابن الدعي قد ركز بين‏ اثنتين‏، بين السلة والذلة، وهيهات منّا الذلة، يأبى الله لنا ذلك ورسوله والمؤمنون وحجور طابت وطهرت وأنوف حمية ونفوس أبية من أن نؤثر طاعة اللئام على مصارع الكرام"، وقوله ايضاً في مكان آخر: «إني لا أرى الموت إلا سعادة والحياة مع الظالمين إلا برماً».

سيد الشهداء عليه السلام خرج مصلحا قبل ان يكون مقاتلا للأعداء، لم يكن خروجه طلبا لمال او لمنصب، فيكفيه انه بن بنت رسول الله وسبط من الاسباط، لكنه خرج حين انحرفت رسالة جده عن مسارها الصحيح، وصار الدين محل شد وجذب بين من غرتهم الحياة الدنيا، اذ انتشر الظلم، وشاع الفساد، وعبث الحكام بالمحكومين، فصار لازما عليه ان يعد العدة وينقذ دين جده.

خرج الحسين ليحفظ للإنسان كرامته التي صانها رب العباد، حيث قال: ((وَلَقَدْ كَرَّمْنَا بَنِى آدَمَ وَحَمَلْنَاهُمْ في الْبَرِّ وَالْبَحْرِ وَرَزَقْنَاهُمْ مِنَ الطَّيِّبَاتِ وَفَضَّلْنَاهُمْ عَلَى كَثِيرٍ مِمَّنْ خَلَقْنَا تَفْضِيلاً)). (سورة الإسراء/70)، فكيف يقبل سليل النبوة بأن يُهان الانسان ولا تطبق تعاليم الشريعة السماوية؟

الانسان عند الله عز وجل له قيمة عليا وفضله على سائر المخلوقات، ومن أوجه تكريم امر الملائكة بالسجود له: ((َإِذْ قُلْنَا لِلْمَلائِكَةِ اسْجُدُوا لآدَمَ فَسَجَدُوا....)) (سورة الإسراء/61)، وكرمه أيضا حين منحه العقل الذي يميز به بين الصحيح والخطأ، وبين المفيد والضار، وبين الخير والشر، وهبه القدرة على التعلم، والأدلة على تكريم الانسان من قبل الخالق كثيرة، ولا يسع المقام لذكرها في هذا المقال.

هذه الكرامة التي حمها الله جل وعلا بجملة من التشريعات أرادوا أعداء الإنسانية انتهاكها يوم عاشوراء، حين طلبوا من سيد الشهداء عليه السلام المبايعة ليزيد، والغرق في بحر الذلة والظلم والاضطهاد، متناسين ان الحسين سلام الله عليه هو بن من كان الحق يدور معه حيث يدور، ولم يظلم أحدا في دولته، التي عاش فيها الافراد اشد درجات الانصاف والعدل، نعم انها دولة علي بن ابي طالب عليه السلام.

في ظهيرة العاشر من المحرم اعتدلت الموازين ورجع النصاب الى ماكن عليه، حيث قدم الحسين عليه السلام شرحا مفصلا لحفظ الكرامة الإنسانية، واعطى من اجل ذلك اعز ما يملك، وجاد بنفسه التي وهبها في سبيل الله وإعلاء لصوت الحق، ورسم بدمه الطاهر طريق الحرية والكرامة لمن يريد حياة حرة.

ومن فضائل الله على الانسان جعله يعبده دون غيره، وهذا الانقياد لله في جميع الظروف وأشدها صعوبة خير مجسد له هو الامام الحسين عليه السلام واصحابه في ظهيرة العاشر، عندما حان وقت الفريضة، طلب من اصاحبه إقامة الصلاة التي خرج من اجل ديمومتها، فهذه الصلاة وضعت الركيزة الأساسية في جدار صون الكرامة وحفظ المنزلة.

الحسين عليه السلام حين خرج واهل بيته أراد إرجاع الكرامة الى المجتمع الذي افتقدها بفعل الممارسات الخاطئة من قبل الحكام المستبدين والمستعبدين للبشر، فقدم بناء تربوي فعّال لزمن طويل، يلتصق بالإنسان منذ الولادة وحتى الفناء، في الوقت الذي أصبح فيه انتهاك الكرامة من المشاكل التي تعاني منها المجتمعات منذ الازل ولغاية الآن.

وعلى الرغم من ان سيد شباب اهل الجنة قطع اشواطا كبيرة بتجاه تحقيق وحفظ الكرامة الإنسانية، فلا تزال بعض التصرفات تمارس بحق الافراد وتعمل على امتهان الكرامة الفردية، اذ تستمر الحكومات بانتهاك حرية الفرد بالتعبير عن آراءه، والمطالبة بحقوقه المهدورة في التعليم والصحة والامن وغيرها من الجوانب الإنسانية.

منهج عاشوراء الذي غُيب يحتاج اليوم الى إعادة النظر اليه والتفكر فيه كثيرا، فالأنسان يعيش اليوم مظلوما مقهورا نتيجة التعامل الغليظ معه، وعدم التعاطي مع أسس التربية السليمة التي تحفظ للفرد كرامته التي ثار من اجلها أبا عبد الله في عام 61 للهجرة.

اضف تعليق