q
ملفات - شهر رمضان

التقييم على أساس الانجاز

أَسْحارٌ رَمَضانِيَّةٌ السّنةُ الثّانيَةِ (١٠)

{مَن جَاءَ بِالْحَسَنَةِ فَلَهُ خَيْرٌ مِّنْهَا وَمَن جَاءَ بِالسَّيِّئَةِ فَلَا يُجْزَى الَّذِينَ عَمِلُوا السَّيِّئَاتِ إِلَّا مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ}.

لقد انتهجَ القران الكريم طريقة التّحريض على فِعل الخير بالترغيب، اكثر من الترهيب، وانّ واحدة من اكثر الطّرق تأثيراً في التربية والتعليم هو مضاعفة الأجر على الخير ومحاسبة الشر بمقدارهِ فقط.

والآية الكريمة التي صدّرنا بها المقال، هي واحدة من الآيات التي تُثبّت هذا المعنى في الذّهنيّة، لتتركّب عقليّتنا على الثّواب والتكريم اكثر منها على العقاب.

فليس الهدف هو التربّص بالمُذنب لمعاقبته، وانما الحثّ على تجنّب الذنب في المجتمع، من خلال تكريم المُحسن بمضاعفة إنجازه، ليكون أسوةً وقدوةً للآخرين، فانّ من طبيعة الانسان البحث عن نتائج كبيرة باقلّ الجهود المبذولة، فكلما كرّم المجتمع المنجَز الصحيح والسليم وبأضعاف مضاعفة، كلّما تحوّل النجاح الى قيمة حقيقيّة في المجتمع يسعى لها الجميع، ولا يتأخّر عنها احدٌ، فما بالك اذا ساوى المجتمع بين المُحسن والمُسيء؟ وبين النجاح والفشل؟.

لنستمع الى ما كتبه امير المؤمنين عليه السلام في عهده الى مالك الأشتر لمّا ولّاه مصر:

{وَلاَ يَكُونَنَّ الْـمُحْسِنُ وَالْمُسِيءُ عِنْدَكَ بِمَنْزِلَة سَوَاء، فَإِنَّ فِي ذلِكَ تَزْهِيداً لاِهْلِ الاْحْسَانِ فِي الاْحْسَانِ، تَدْرِيباً لاِهْلِ الاْسَاءَةِ عَلَى الاْسَاءَةِ، وَأَلْزِمْ كُلاًّ مِنْهُمْ مَا أَلْزَمَ نَفْسَهُ}.

فاذا تساوى المحسن والمسيء في تقييم المجتمع ونظره، فان ذلك سيُلغي القيمة الحقيقيّة للنجاح، الذي عادةً ما يتنافس عليه الناس اذا ما شعروا انّ المجتمع يقيّمه على أساس الإنجاز وليس على أساس المحاباة مثلاً او الأَثَرة.

بل انّ القرآن الكريم يميّز حتى بين خَيْرَيْن، وبين مُنجَزَيْن، بمجرّد انّ احدهما افضل من الاخر، فقال تعالى، مثلاً، يميّز بين مُنجزَين كلاهما له قيمة ما في حركة المجتمع {لَّا يَسْتَوِي الْقَاعِدُونَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ غَيْرُ أُولِي الضَّرَرِ وَالْمُجَاهِدُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ بِأَمْوَالِهِمْ وَأَنفُسِهِمْ فَضَّلَ اللَّهُ الْمُجَاهِدِينَ بِأَمْوَالِهِمْ وَأَنفُسِهِمْ عَلَى الْقَاعِدِينَ دَرَجَةً وَكُلًّا وَعَدَ اللَّهُ الْحُسْنَىٰ وَفَضَّلَ اللَّهُ الْمُجَاهِدِينَ عَلَى الْقَاعِدِينَ أَجْرًا عَظِيمًا}.

وقال تعالى يميّز بين الأشياء؛

{وَمَا يَسْتَوِي الْبَحْرَانِ هَٰذَا عَذْبٌ فُرَاتٌ سَائِغٌ شَرَابُهُ وَهَٰذَا مِلْحٌ أُجَاجٌ وَمِن كُلٍّ تَأْكُلُونَ لَحْمًا طَرِيًّا وَتَسْتَخْرِجُونَ حِلْيَةً تَلْبَسُونَهَا وَتَرَى الْفُلْكَ فِيهِ مَوَاخِرَ لِتَبْتَغُوا مِن فَضْلِهِ وَلَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ} {وَمَا يَسْتَوِي الْأَعْمَىٰ وَالْبَصِيرُ* وَلَا الظُّلُمَاتُ وَلَا النُّورُ* وَلَا الظِّلُّ وَلَا الْحَرُورُ* وَمَا يَسْتَوِي الْأَحْيَاءُ وَلَا الْأَمْوَاتُ}.

بل، لقد فضّل الله تعالى بعض النبييّن على بعض، فقال تعالى {وَلَقَدْ فَضَّلْنَا بَعْضَ النَّبِيِّينَ عَلَىٰ بَعْضٍ}.

فلسفة القران الكريم، اذن، تقوم على أساس التمييز بين الأشياء، أفعالا كانت أشياء، لان المساواة في مثل هذه الحالة ظلم يرتكبه المجتمع بحق نفسه اولاً، عندما يساوي بين الظالم والمظلوم مثلاً، او بين الكَلّ والمُنتج، او بين الفشل والنجاح، وهكذا.

وليس الهدف من الثواب والعقاب استدراج الانسان للخطأ، ابداً، وانّما تحذيره منه لينتبه الى الصواب حصراً، ولا يتحقق ذلك اذا اهتمّ المجتمع بالعقاب اكثر من اهتمامه بالثواب.

ولذلك حرّم المشرّع تحميل الاخرين خطأ غيرهم، فقال تعالى {وَلَا تَزِرُ وَازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرَىٰ} لانّ ذلك يقود الى الظلم والفوضى، كما شرّع العقاب بمقدار الجريمة حصراً للوقوف بوجه تنامي حالات الانتقام في المجتمع، والتي تقود، كذلك، الى الظلم والفوضى، فقال امير المؤمنين (ع) يوصي ابناءه واهله بعد ان ضربهُ المجرم ابن ملجم في محراب الصلاة {يَا بَنِي عَبْدِ الْمُطَّلِبِ، لاَ أُلْفِيَنَّكُمْ تَخُوضُونَ دِمَاءَ الْمُسْلِمِينَ خَوْضاً، تَقُولُونَ: قُتِلَ أَمِيرُالْمُؤْمِنِينَ.

أَلاَ لاَ تَقْتُلُنَّ بِي إِلاَّ قَاتِلِي.

انْظُرُوا إِذَا أَنَا مِتُّ مِنْ ضَرْبَتِهِ هذِهِ، فَاضْرِبُوهُ ضَرْبَةً بِضَرْبَة، وَلاَ يُمَثَّلُ بِالرَّجُلِ، فَإِنِّي سَمِعْتُ رَسُولَ اللهِ(صلى الله عليه وآله) يَقُولُ: "إِيَّاكُمْ وَالْمُثْلَةَ وَلَوْ بَالْكَلْبِ الْعَقُورِ"}.

ان مبدأ الثواب والعقاب، بالاضافة الى مبدأ التمييز والتشجيع بالتكريم ومضاعفة القيمة، يساهم بدرجةٍ كبيرةٍ في بناء مجتمع سليم، تزداد فيه قيمة الإنجاز الصحيح على قيمة المنجز الخطأ وغير السليم، فضلاً عن انّه يُساهم في تصحيح الخطأ باقلّ ثمنٍ ممكن، فمنَ الواضح فان الدولة لا تستطيع ان تطارد الخطأ وتعاقبه مادياً فقط، مهما أوتيت من قوّة ضاربة او قانون صارم، وانّما هي بحاجة الى التقليل منه بمعادلة مضاعفة الثواب ومضاعفة تكريم النجاح لتحوّله الى نموذج بقيمة معنوية واعتبارية عالية في المجتمع، ليكون وكأنّه رقيبٌ ذاتي في المجتمع يطارد الخطأ، وهذا ما تفعلهُ الدّول المتحضّرة عندما تهتمّ بالتكريم اكثر من اهتمامها بمتابعة الخطأ ومعاقبة الفاعل.

اننا بحاجة اليوم، في العراق مثلاً، الى ان نبذل جهداً اكبر لترسيخ هذا المفهوم في المجتمع، وعلى مختلف الاصعدة، ففي الاسرة ينبغي على الوالدين الاهتمام بتكريم الأولاد اكثر من اهتمامهم بمعاقبتهم، فالتكريم يحثّ على فعلِ الخير، اما العقاب فليس بالضرورة انه يكافح فعل الشر والخطأ عند الأطفال، فان من طبيعة الأطفال، على وجه الخصوص، اهتمامهم بالتكريم الذي يشجّعهم على تكرار الفعل الحسن، اكثر من اهتمامهم بالعقوبة التي ينساها الطفل بسرعة، ولذلك فالتكريم يربّيه ويحرّضهُ ويمنعهُ في آن اكثر من العقوبة.

هذا على مستوى الاسرة، وكذا الحال على مستوى التعليم والعمل والوظيفة، صعوداً الى المستوى السياسي، فلماذا لا نتعلّم ان نقول احسنت لمن يفعل الشيء الصحيح، ونقول تبّاً لمن يفعل الشيء الخطأ؟ لماذا ننظر الى المُحسن والمسيء بعين واحِدَةٍ وباهتمامٍ واحدٍ؟ لماذا لا نميّز بين منجزين، واحدٌ سليم يَصُب في الصالح العام، وآخر سيّء يضرّ بالصالح العام؟ لماذا هذا التّعميم عندما نقيّم النتائج؟ لماذا لا نعطي لكلّ واحدٍ ما يستحق من التقييم، سواء كان إيجابياً ام سلبياً؟!.

ان خُلُقَ القرآن الكريم بهذا الصّدد لخّصته الآية المباركة {مَثَلُ الْفَرِيقَيْنِ كَالْأَعْمَىٰ وَالْأَصَمِّ وَالْبَصِيرِ وَالسَّمِيعِ هَلْ يَسْتَوِيَانِ مَثَلًا أَفَلَا تَذَكَّرُونَ} فلماذا لا نتعلّم منه ذلك؟.

...........................
* الآراء الواردة لا تعبر بالضرورة عن رأي شبكة النبأ المعلوماتية

اضف تعليق