q
سِيادةُ الإنسان على الأشياء والعناصر، لا تعني أن الإنسان حاكم مُستبد، أوْ أنَّه يَملِك سُلطةً مُطْلَقَة لفِعل ما يشاء، وإنما تعني أنَّ الإنسان هو المُؤهَّل لوضع القوانين التي تحفظ الاتِّزانَ بين الأشياء، وتُحافظ على التوازن بين العناصر، مِن أجل دَرْء المفاسد وتحقيق المصالح. وهذا لا يتحقَّق...

(1)

المشاعرُ الإنسانية لا تنفصل عن الأُسُس الفكرية للعلاقات الاجتماعية، لأن الإنسان والمجتمع كِيانان مُندمجان ومُتكاملان، وهذا يعني أنهما يتمتَّعان بخصائص مُترابطة لا يُمكن الفَصْل بينها. وهذا التفاعل بين الإنسان والمجتمع يُحدِّد طبيعةَ السلوك الفردي والجماعي، ويُثْبِت استحالةَ التفريق بين المشاعر والأفكار، لأن المشاعر أفكار وِجدانية، والأفكار مشاعر عقلانية، والوِجدان لا يُصبح ماهيَّةً واقعيةً وحقيقةً اجتماعية وظاهرةً ثقافية، إلا بإخضاعه لقواعد التفسير العقلاني ومركزيةِ البُنى الرمزية في اللغة.

والعقلُ لا يُصبح نظامًا وجوديًّا قادرًا على مَنح الخَلاص لعناصر المجتمع، إلا بإخضاعه للمضمون الإنساني والمُحتوى الشعوري. وإذا انفصلَ الشعور الإنساني عن العقل الواعي، فإنَّ الإنسانَ سيُصبح آلةً ميكانيكيةً مُتوحِّشة وعَمياء.

وكُل مبدأ عقلاني لا يَقوم على قاعدة شعورية أخلاقية سَيَؤُول إلى تَوَحُّش واستغلال، وهذا يُؤَدِّي إلى القضاء على المُنجزات الحضارية، وتدميرِ جوهر المجتمع، وتحطيم شرعية وُجوده، وإلغاء تاريخه، والتَّشكيك في حاضره ومُستقبله.

وكُل شُعور أخلاقي لا يَقُوم على مَنطق عقلاني، سَيَؤُول إلى تصوُّر ذِهني هُلامي ومَفهوم وَهْمي، وهذا يُؤَدِّي إلى العَجْز عن تغيير الواقع، وعدم القُدرة على تطبيق النظريات الاجتماعية في المجتمع، والتَّشكيكِ في جَدوى العِلْم، وعدم الاقتناع بأهميته في منظومة التغيُّر والتغيير، لأنَّ العِلْم إذا ابتعدَ عن حياة الإنسان والمجتمع، وصار حِبْرًا على ورق، ونظرياتٍ في سُطور الكُتب المُهْمَلَة، فإنَّ الناس سيفقدون الثقةَ به.

(2)

المشاعرُ والأفكار والعلاقات، هي الأركان الثلاثة التي تقوم عليها بُنية الفِعل الاجتماعي. وبما أنه لا يُوجد فِعل بدون فاعل، فلا بُد أن يضطلع الإنسانُ بمسؤولية الربط المنطقي بين هذه المُكوِّنات، وتوظيفها في المسار الفردي والمصير الجماعي، مِن أجل نقل المعنى الذاتي إلى المعنى المَوضوعي، أي: نقل جَوهر المجتمع وشخصيته وهُويته إلى العَالَم الخارجي المُدرَك بالمشاعر الإنسانية، والخاضع للتجارب الإبداعية، والمُرتبط بالإرادة الفاعلة، والمُقترن بالوَعْي المعنوي والسلوكِ المادي.

وهذا يعني تحويل القِيَم الاجتماعية المُشتَّتة إلى نُظُم ثقافية مركزية، تستطيع تجميع الزمان والمكان في بؤرة إنسانية، من أجل تحقيق مصلحة الإنسان ومنفعة المجتمع. ولا يَكفي أن يتحرَّك الإنسانُ في الزمان والمكان، لأن الحركة المُجرَّدة أداء ميكانيكي، بَل يجب عليه أن يَشعر بالزمان والمكان، ويُكوِّن وَعْيًا منطفيًّا بهما.

وإذا نجح الإنسانُ في تكوين منظومة زمكانية (زمانية-مكانية) خاضعة للشُّعور والوَعْي معًا، فإنَّه يستطيع صناعة قانون اجتماعي قادر على التحكُّم بعملية التفاعل بين الذات والشَّيء، وبذلك يَحْمي الإنسانُ نَفْسَه مِن التَّحَوُّل إلى شيء استهلاكي مَحصور في ثنائية العَرْض والطَّلَب.

وينبغي على الإنسان أن يتذكَّر دائمًا أنَّه المُسيطر على الأشياء، والقادر على إيجاد روابط وجودية منطقية بينها، وتكوين ظواهر فكرية تجمع بين خصائصها، ولَيس شيئًا مِن الأشياء، أوْ هَامِشًا يَبحث عَن مَتْن.

(3)

سِيادةُ الإنسان على الأشياء والعناصر، لا تعني أن الإنسان حاكم مُستبد، أوْ أنَّه يَملِك سُلطةً مُطْلَقَة لفِعل ما يشاء، وإنما تعني أنَّ الإنسان هو المُؤهَّل لوضع القوانين التي تحفظ الاتِّزانَ بين الأشياء، وتُحافظ على التوازن بين العناصر، مِن أجل دَرْء المفاسد وتحقيق المصالح. وهذا لا يتحقَّق إلا بإنشاء سُلطة معرفية لتجذير المعاني الشعورية في الشَّكل والمَضمون والوظيفة.

والشَّكلُ هو الصورة الاجتماعية الخارجية. والمَضمونُ هو المُحتوى الفكري والأخلاقي الذي يُكوِّن البُنيةَ العميقةَ (الباطن المُتواري خَلْف الإطار الظاهري). والوظيفةُ هي الدَّوْر المُخصَّص للعُنصر في جِسم المُجتمع باعتباره كائنًا حيًّا، مُتَفَاعِلًا مع اللغة والبيئة والطبيعة، ومُنْفَعِلًا بها. وإذا صارت السُّلطة المعرفية الجامعة بين هذه المُكوِّنات واقعًا مَلموسًا، فإنَّ الإنسانَ سَيَتَّجه إلى المجتمع لإنقاذه وتطويره، والمجتمع سَيَتَّجه إلى الإنسان لإشعاره بأهميته المركزية وقيمته الوجودية.

* كاتب من الأردن

اضف تعليق