q
إن المعرفة الحقيقية بأئمة البقيع من قبل المسلمين كافة، وفي كل مكان بالعالم، هو الذي يشكل رأي عام، وعامل ضغط جماهيري، بل حتى رسمي على السلطات السعودية لإعادة البناء وبالشكل اللائق لهذه الكواكب اللامعة، بما يؤكد جماهيرية القضية وإخراجها من الملف السياسي...

{رَبَّنَا إِنِّي أَسْكَنتُ مِنْ ذُرِّيَّتِي بِوَادٍ غَيْرِ ذِي زَرْعٍ عِنْدَ بَيْتِكَ الْمُحَرَّمِ رَبَّنَا لِيُقِيمُوا الصَّلاةَ فَاجْعَلْ أَفْئِدَةً مِنْ النَّاسِ تَهْوِي إِلَيْهِمْ}، (سورة ابراهيم، الآية:37)

أول شاهد بُني على مرقد الامام الحسين، عليه السلام، إنما كانت الغاية منه إرشاد المؤمنين والمحبين لهذا المرقد وزيارة الإمام، والاستلهام من دروس وعِبر واقعة الطف، والاستعبار لما جرى من مظالم وانتهاكات ضد أهل بيت رسول الله.

انه أول مرقد للمعصومين، بعد الامام الحسن المجتبى، ومن قبله أمير المؤمنين، يُشار اليه بالبنان وسط الصحراء، لتهوي إليه قلوب المؤمنين والثائرين على الظلم والطغيان والانحراف، وكذا الحال في سائر المراقد المشرفة التي بُنيت في وقت لاحق في العراق، وايضاً مرقد الإمام علي بن موسى الرضا، عليه السلام، في خراسان، فقد كان يأمّه المؤمنون –وما يزالون- من العراق والحجاز وسائر البلدان، رغم المسافة البعيدة ليستلهموا منه دروس الصبر والتحدي، وكيف يتعامل مع التحولات السياسية والاجتماعية في عصره، الى جانب الغاية الاخرى؛ الأكثر اهمية وهي؛ التقرب بهم الى الله –تعالى- واتخاذهم الوسيلة والذريعة اليه للشفاعة {يوم لا ينفع مالٌ ولا بنون إلا من أتى الله بقلب سليم}.

ماذا يُريد أئمة البقيع منّا؟

"كونوا لنا دعاة بغير ألسنتكم". هكذا هتف الامام الصادق، عليه السلام، وما يزال هذا الحديث المشهور يدوي في أوساطنا، فيما مرقد هذا الإمام المُلهم مع مستوى الارض الى جانب مرقد أبيه الامام الباقر، وجدّه الامام زين العابدين، والامام الحسن المجتبى، عليهم السلام، في مقبرة البقيع على مقربة من مرقد جدّهم رسول الله، صلى الله عليه وآله وسلم.

ولو راجعنا سيرة أئمة البقيع الأربعة تحديداً نجد أنهم عانوا –من جملة ما عانوه- من قلّة الاتباع الحقيقيين، حتى أن الامام السجاد، عليه السلام، قال ذات مرة: لا يتجاوز عدد اصحابنا العشرون رجلاً –مضمون الحديث- رغم أنه يعد بين افراد الأمة آنذاك "بقية السيف" من ملحمة كربلاء، وكذا الحال بالنسبة للامامين الباقر والصادق، ومن قبلهما؛ الامام الحسن، رغم أن ظاهر الحالة الاجتماعية كانت تميل اليهم لمعرفتهم بالقرابة من رسول الله، ولفضلهم وأخلاقهم وشخصيتهم المحبوبة بين الناس، ولكن؛ لم يكن بين هؤلاء بمستوى الايمان الذي سأل عنه الامام الصادق ذلك الخراساني الحامل لرسالة الثوار ضد الأمويين، ولم يجده بين آلاف المدعين، بينما كان في أحد المقربين منه عندما امتثل لأمره بالدخول في التنور وهو مسجورٌ بالنار، وجلس فيه قبل أن يأمره الامام ثانية للخروج منه أمام دهشة رُسل الثوار من خراسان!

فاذا كان أئمة البقيع، بل وسائر الأئمة المعصومين، يبحثون عن الاتباع الحقيقيين ممن لا يخذلونهم وقت الشدّة في ذلك الزمان، فان العصر الحاضر يستوجب الامر أكثر بكثير وسط تكالب الأمم علينا، ولا إمام ظاهر يلتمسه الناس ليهديهم سبل النجاة، فكل شيء ليس في صالحنا؛ لا العلم، ولا المال والثروات، ولا الزمن، ولا حتى القدرات المهدورة والمبعثرة بلا توظيف معقول.

نحن نطالب بإعادة بناء مراقد أئمة البقيع في المدينة المنورة، وهي اليوم ضمن خارطة الدولة السعودية، ليؤمها الزائرون من كل مكان بالعالم شأنها شأن المراقد المقدسة في البلاد الاخرى، مع الاعتقاد بأن وجود المزار –بغض النظر عن حجمه وملحقاته ومظاهره- يمثل خطوة جيدة للتعريف بصاحب المرقد، وتجسير العلاقة مع الزائرين له، كما هو الحال بالنسبة لمراقد أبناء الأئمة في العراق، ممن سقطوا شهداء او ماتوا في ظروف التشريد والملاحقة من قبل الأمويين او العباسيين، وأبرزهم؛ الشهيد زيد بن علي، عليهما السلام، الذي شُيد له مرقد فخم ومزار في محافظة الحلّة العراقية، ناحية المحاويل، في حين المعروف تاريخياً أن الأمويين لم يتركوا له جثة سالمة بعد استشهاده في المعركة ضدهم، فعثروا على جثمانه المخفي تحت نهر جارٍ واستخرجوه ثم أحرقوه وذروا رماده في النهر، والمزار الموجود الذي يؤمه الآلاف على مدار السنة إنما هو المدفن الأول له قبل استخراجه على يد اصحابه خوفاً من نواياهم السيئة.

ربما سمع سكان المدينة المنورة وأهل الحجاز، بل وسائر سكان السعودية، والمسلمون في العالم بالدعوات والمطالبات بإعادة بناء ما هدمه الوهابيون من مباني على مراقد أئمة البقيع، وسيسمعون هذه الدعوات في السنوات القادمة، وهو أمرٌ حسن لخلق الرأي العام ضد رفض وتعنّت السلطات السعودية، بيد أن هناك ما يجب أن يسمعه المسملون ايضاً عن شخصية الأئمة الاربعة، عليهم السلام، ويعرفوه عن الإمام الحسن المجتبى، وانه لم يكن ذلك المهادن وعديم المعرفة بالسياسة والحرب ولذا "أوكل الأمر الى معاوية"! ليفرح المؤرخون ويطلقوا على تلك السنة التي تم التوقيع فيها على الهدنة بـ "عام الجماعة"، بل أسس بهدنته أعظم ثورة إصلاحية في العالم قادها شقيقه الامام الحسين، عليه السلام. وأن الامام السجاد لم يكن متخصصاً بالدعاء والابتهال الى الله –تعالى- وأنه الذي أوصى اصحابه بالجلوس في بيوتهم ولا يتدخلوا بالحياة العامة، إنما قاد حركة تغييرية في كوامن ونفوس الامة، من خلال جلاء القلوب بالأدعية والمناجات مع الله، ومن خلال محاربة العبودية والرقّ وتكريس المساواة في المجتمع الاسلامية كما أراده جدّه رسول الله، وأن الامامين الصادقين، عليهما السلام، لم يكونا محدثَين وعلماء مثل كثير من المحدثين والعلماء في زمانهم، مع فارق العدد الكبير لتلامذتهم، إنما كانوا يتميزون بدورهم الحضاري في مواجهة الافكار الوافدة، والحفاظ على جوهر الاسلام ونظامه وأحكامه من التزييف والتشويه على يد دعاة الاسلام الذين راحوا يبحثون عن طرق أخرى غير ما جاء به القرآن الكريم وما بينه الرسول الأعظم وأهل بيته، للوصول الى فهم كامل وحقيقي للإسلام، وأعظم ما يعود الفضل فيه الى الإمام الصادق، عليه السلام، محاربته القياس في المسائل الدينية.

بناء البقيع مطلب كل مسلم في العالم

إن المعرفة الحقيقية بأئمة البقيع من قبل المسلمين كافة، وفي كل مكان بالعالم، هو الذي يشكل رأي عام، وعامل ضغط جماهيري، بل حتى رسمي على السلطات السعودية لإعادة البناء وبالشكل اللائق لهذه الكواكب اللامعة، بما يؤكد جماهيرية القضية وإخراجها من الملف السياسي، واذا حصل أن وافقت السلطات السعودية يوماً على بناء الأضرحة على مراقد البقيع فهي استجابة لمطلب إسلامي عام بدافع من الوعي التام بأحقية القضية.

ولا أدلّ على ذلك من الأضرحة والمزارات في العراق التي شُيدت في مراحل تاريخية متعاقبة طيلة القرون الماضية، وكان الدافع والحافز للجهات والاشخاص المتبنين لمشاريع الإعمار والبناء، ما يجدونه من إيمان عميق لدى الناس بمنزلة اصحاب هذه المراقد عند الله –تعالى- ، ولدينا اسماء معروفة بقضاء الحوائج يتوجه اليهم الناس منذ عقود طويلة من الزمن، قبل ان تتحول مزاراتهم الى ما هي عليه اليوم من التحديث والتطوير في البناء والإنارة والأثاث وغيرها. حتى أبي الفضل العباس، عليه السلام، فان الناس كانوا يتوجهون اليه بحاجاتهم المستعصية من كل مكان يتطلعون الى روح هذه الشخصية العظيمة ذات الجاه والشأن عند الله –تعالى- قبل ان يلاحظوا مظاهر البناء والإنارة وسائر المظاهر الباهرة في الحرم الشريف، فهي ليس ذات أهمية لمن يبحث بشفافية فائقة عن تلك الروح.

ومن نافلة القول نستذكر أم البنين، سلام الله عليها، أم العباس وإخوته الشهداء في ملحمة الطف، فان قلوب الناس المبتلين بالرزايا والبلايا تهوي اليها دون أن يعرفوا لها قبراً مشهوداً او حتى مزاراً صغيراً، إنما يتصلون بأرواحهم وعقيدتهم الصادقة بهذه المرأة الجليلة لقضاء حوائج عظيمة من شفاء مرض عضال، او الخلاص من شدّة، أو قضاء دين، او غيرها من الحوائج المستعصية.

اضف تعليق