q
طريقة التعبُّد هو ما يقرره الشارع المقدَّس لا ما تشتهيه الأهواء والنفوس والذي يسمى بـ الاستحسان. فهما بلغ العقل الإنساني من مراتب عليا ومهما حصل من تطور في العلوم الحديثة فهو لا يزال لم ولن يصل إلى مرتبة التشريع بل هنالك قواعد مقرّرة ثابتة وردت عن أهل البيت..

لكلِّ فئة اجتماعية أو سياسية أو مهنية لغة خاصة في تعريفها للمفاهيم والمصاديق؛ فتعريف "البيئة الصحية" والبيئة التي تؤدي إلى الأمراض تختلف عند الطبيب بالنسبة إلى الشخص العادي كما أن مفهوم "النظافة" في نظام المستشفيات يختلف عن مفهومه في نظام الفنادق، وقد يرى العرف شيئًا ما نظيفًا لمجرد استخدام مطهر الديتول، بينما يراه الشرع أنه لا يزال غير طاهر لما يحمله من بروتوكولات وقواعد خاصة بـ "الطهارة والتطهير".

فليس كل ما هو بنظيف طاهر شرعًا، ولا كل ماهو طاهر يعتبر معقمًا طبيًّا.

وفيما يرتبط بمبنى تعيين بداية الشهر الهجري القمري؛ فإنَّ هنالك ثلاث طرق رئيسية لتعريفها وتعيين بداية الشهر: الحسابات الفلكية، واستخدام المراصد والتلسكوبات، والرؤية بالعين المجردة. ‎فعلماء الفلك وأصحاب التقاويم والمدوّنات يستخدمون الحسابات الفلكية لإصدار التقاويم وذلك لخدمة مصالح العباد والبلاد ولتسهيل مختلف المعاملات خلال شهور السنة، بينما يرى بعض أصحاب الاختصاص في مجالات أخرى طريقة استخدام المراصد هو الحل الأنسب للوصول إلى غاياتهم كـ أيام المد والجزر أو الأحوال الجوية والطبيعية وذلك لمساندة الصيادين في البحر أو ما شابه ذلك.

إلّا أن للشرع لغته الخاصة وتعريفه المميز في تعيين بداية الشهر والذي يحظى بأهمية مضاعفة عند بداية بعض الشهور التي تتطلب أداء طقوس شرعية محدَّدة كـ شهر الصيام أو شهر الحج ومحرَّم الحرام ؛ هذا التعريف جاء على لسان رسول الله وآله الأئمة الأطهار صلوات الله وسلامه عليهم أجمعين وهو عبارة عن الرؤية بالعين المجرَّدة: "صوموا لرؤيته وأفطروا لرؤيته، فإن غمَّ عليكم فعدُّوا شعبان ثلاثين يوما"، وفي رواية أُخرى: "فإن حال بينكم وبين رؤيته سحاب أو قتام فأكملوا العدَّة ثلاثين"، (١) فهذا هو المطلوب من المكلَّف وأي تعريف ما عداه سوف يخرجه من التعريف الشرعي ويدخله لتعيين الأغراض الأخرى التي مرَّ ذكرها آنفا.

من هنا فإنّنا لو وضعنا كل تعريف في موضعه فسوف نتخلص من هذا الإلتباس والخلط الذي أُصبنا به، فحتى لو كان التاريخ اليوم الأول أو الغُرَّة من الشهر يختلف عند كل فئة من تلك الفئات الثلاثة، فإنه ليس علينا إلّا أن نتبع أسلوب التعريف الشرعي؛ وبعبارة أخرى؛ إن كانت الحسابات الفلكية ترى أنّ الهلال قد وُلد في يوم الأربعاء وعليه يقرر بداية الشهر، بينما المنظار يثبت وجوده يوم الخميس، فلا ينبغى لمن يبحث عن تكليفه الشرعي أن يتبع أي منهما، وإنما عليه أن يرى الهلال بالعين المجرَّدة حتى وإن تأخرت رؤيته إلى يوم الجمعة ليؤدي واجبه الشرعي، فالمطلوب هنا ليس التكيف بالتعيين الفلكي أو التلسكوبي حتى وإن صار يومه الأول هو اليوم الثاني أو الثالث من الشهر حسب التعاريف السابقة حيث تكون لهما احترامها وتقديرها في مجاليهما واختصاصاتهما، وكما أن الشرع والتعريف الشرعي لا يتدخل في أمرهما ولا يفرض رأيه عليهما، فلأصحابها أيضًا لا يفرضوا رأيهم، ولا يخفى أن الحسابَين الأوَّلَين قد ينطبقا أحيانًا مع الحساب الشرعي، وفي كل الأحوال يبقى المجال مفتوحًا لكلِّ من يريد ممارسة اختصاصه دون التدخل في مجال الشرع، وبعبارة أُخرى؛ لا يمكن إطلاق عنوان الرؤية الشرعية على الرؤية الفلكية أو الرؤية التلسكوبية!.

إنَّ المبنى الشرعي لتعريف بداية الشهر قائم على "الرؤية الحسية والمعنوية"، فقد وردت رواية عن الإمام الباقر عليه السلام: " إذا رأيتم الهلال فصوموا وإذا رأيتموه فافطروا، وليس بالرأي ولا بالتظنّي ولكن بالرؤية، والرؤية ليس أن يقوم عشرة فينظروا فيقول واحد هذا هو، وينظر تسعة فلا يرونه، إذا رآه واحد رآه عشرة وألف". (٢) وهذا حكم واضح في إبطال التلسكوب حيث لابدَّ أن يتمكن من رؤيته ألف شخص لا واحد، والمفهوم من ألف شخص هو تمكّن الغالبية من رؤيته بيسر وسهولة، ولا يختلف ذلك في طريقة تعيين أوقات الصلاة اليومية، وفي هذا الصدد يقول الإمام السيد محمد بن المهدي الحسيني الشيرازي في موسوعته الفقهية الكبرى: "من الواضح أنه لا تصح الصلاة في الوقت لسائر الآفاق، بل المدار على الوقت في أفق المصلّي، كما قال الإمام الصادق عليه السلام: "إنما عليك بمشرقك ومغربك، فإنَّ كل آنٍ فجر وزوال ومغرب لأفق من الآفاق".

وكما هو واضح، فإنَّ دائرة النصف للكرة الأرضية المقاطعة لدائرة المعدَّل وإن كانت واحدة إلا أن دوائر الزوال بالنسبة إلى كل قطعة من الأرض متلاصقة بعضها ببعضها حتى أنه يكون هناك ملايين الدوائر وإن كانت بعضها غير حسيّة من جهة وحدة الأفق الملتصق بعضه ببعض فإنَّ نفرين بينهما ميل ظُهرهما الحسي واحد وإن كان لهما زوالان واقعًا وهكذا، ومثل الكلام في الصلاة يجري في الصوم فإنَّ أفق حكمه من حيث أول الشهر وآخره، كما يظهر من المشهور والمعمول به منذ زمان الرسول صلى الله عليه وآله وسلم إلى زمان ظهور الوسائل الحديثة، فإنَّه لا شك أن في كل شهر ولادة الهلال لبعض الآفاق قبل ولادته الأفق آخر، فالولادة في البلد الذي في طرف الغرب دائمًا تكون قبل الولادة في البلد الذي في طرف المشرق.

وقد مال بعض العلماء إلى وحدة الآفاق، فإذا رؤي في مكان فهو حجة على الجميع، واستدل لذلك بقوله صلى الله عليه وآله: " صم الرؤية". فإنه يشمل رؤية ما، وقوله الإمام الرضا عليه السلام: "هذا اليوم جعلته للمسلمين عيدًا". (٣) حيث ظاهره أنه عيد للجميع. وقوله: "جعلت رؤيتها لجميع الناس مرءى واحدًا". (٤) حيث ظاهره أنه يراه كل الناس، كما أيَّد ذلك بأنه لا شك في وحدة ليلة القدر التي تنزل الملائكة فيها والروح، واللازم من هذه الوحدة وحدة أول الشهر، هذا كما ربما استحسن ذلك بأن وحدة المسلمين في العيد أفضل من تشتتهم، إلى غير ذلك مما استدل به، أو أيَّد به لوحدة أول الشهر، وفي الكل ما لا يخفى.

إذ محتملات الرؤية ثلاثة: رؤيتك شخصًا، ورؤية أفقك، ورؤية مّا، لكن الأول مسلَّم العدم، والثالث خلاف الانصراف، فإن مثل قوله صلى الله عليه وآله وسلم: "لدلوك الشمس" الذي ينصرف منه الدلوك في الأفق فيتعين الثاني.

وجعلته للمسلمين؛ لا يمكن أن يراد به كل المسلمين، لوضوح أن النهار في نصف الكرة ليل في النصف الثاني كالشرق الأوسط وأمريكا، فاللازم إما أن نقول بأن النصف الثاني المظلم حال كون النهار في النصف الأول لا عيد لهم أصلًا، أو أن عيدهم في الليل، أو أن عيدهم في النهار السابق أو النهار اللاحق.

والأولان لا يمكن الالتزام بهما من أحد، بل هما خلاف الضرورة فلابد من أحد الآخرَين، ولازمه أن اليوم الواحد لم يكن عيدا، فالعيد يومان على كل تقدير، وكذلك يجاب عن ليلة الإحياء، وتنزل الملائكة إنما يكون في الأفق الذي فيه الإمام الحجة عليه السلام.

وأما قوله عليه السلام: "لجميع الناس مرءى واحدا"، فلا شك أنه لا يراد به في زمان واحد لأن الناس كلهم لا يرونها في وقت واحد، بل المراد منه إنها آيات عامة لكل الرائين، فهو أجنبي عما نحن فيه.

أما الاستحسان فهو ليس بحجة، بالإضافة إلى نقضه بالصلاة، فكيف يصلي كل أفق حسب أفقه بالاختلاف في طول السنة ولا يضر ذلك بوحدة المسلمين، ثم يقال بأن كون العيد يومين في السنة مرتين فقط يضر بوحدة المسلمين؟!". (٥)

من هنا وبناءً على ما سبق؛ فإنَّ طريقة التعبُّد هو ما يقرره الشارع المقدَّس لا ما تشتهيه الأهواء والنفوس والذي يسمى بـ "الاستحسان".

فهما بلغ العقل الإنساني من مراتب عليا ومهما حصل من تطور في العلوم الحديثة فهو لا يزال لم ولن يصل إلى مرتبة التشريع بل هنالك قواعد مقرّرة ثابتة وردت عن أهل بيت العصمة عليهم السلام لابدَّ من الامتثال لها والتسليم لا أكثر، لأنَّ الدين يسر أيضًا فلم يكلف باستخدام أي جهاز من وجه آخر.

وعليه فإنَّ الرؤية الحسيَّة بالعين المجردة تبقى الطريقة الشرعية الوحيدة لمعرفة بداية الشهر لمن يريد أن يمارس طقوسه العبادية؛ "فَلَا وَرَبِّكَ لَا يُؤْمِنُونَ حَتَّىٰ يُحَكِّمُوكَ فِيمَا شَجَرَ بَيْنَهُمْ ثُمَّ لَا يَجِدُوا فِي أَنفُسِهِمْ حَرَجًا مِّمَّا قَضَيْتَ وَيُسَلِّمُوا تَسْلِيمًا". (٦) وورد أيضًا عن الإمام السجاد عليه السلام: "إنَّ دين الله لا يصاب بالعقول الناقصة والآراء الباطلة والمقائيس الفاسدة، ولا يصاب إلا بالتسليم، فمن سلَّم لنا سلم ومن اهتدى بنا هدي، ومن دان بالقياس والرأي هلك..". (٧)

من جانب آخر الدين لا يتعارض مع العلم أبدًا ويمكن لمن يريد الوصول إلى غايات أخرى أن يستخدم وسائله الحديثة دون أن يبدِّل أو يترك الشرع وإلا فإنّه قد يدخل في إطار البدعة المحرّمة كما يقول الإمام أمير المؤمنين عليه السلام: "ما أُحدِثت بدعة إلا تُرك بها سُنّة". (٨)

.....................................
الهوامش:
(١) العلامة المجلسي؛ بحار الأنوار، ج٥٥، ص ٣٥٦.
(٢) الشيخ الطوسي؛ تهذيب الأحكام، ج٤، ص١٥٦.
(٣) الحر العاملي؛ وسائل الشيعة، ج٥، ص ١٣١.
(٤) الشيخ عباس القمي؛ مفاتيح الجنان، دعاء السمات.
(٥) الإمام الشيرازي؛ الفقه؛ موسوعة استدلالية في الفقه الإسلامي، ج١٧، ص ٣١٣.
(٦) القرآن الكريم؛ سورة النساء، الآية ٦٥.
(٧) العلامة المجلسي؛ موسوعة بحار الأنوار، ج٢، ص٣٠٣.
(٨) نهج البلاغة؛ باب الخطب، الخطبة ١٤٥.
...........................
* الآراء الواردة لا تعبر بالضرورة عن رأي شبكة النبأ المعلوماتية

اضف تعليق