q
السلطات العامة الاتحادية تشريعية وتنفيذية وقضائية تمارس اختصاصاتها ومهامها على أساس مبدأ الفصل بين السلطات، فلا فائدة من هذا الفصل ان لم يكن هنالك توازن ردع توقف بمقتضاه السلطة التنفيذية تعسف السلطة التشريعية وانحرافها أو العكس. مبدأ الفصل على الورق فقط ولا تطبيق له على أرض الواقع...

أشار مونتسكيو في كتابه روح القوانين لمسألة غاية بالأهمية تتمثل بالفصل بين السلطات العامة لمنع الاستبداد وتغول إحدى السلطات على ما سواها بما من شأنه ان يحقق التوازن وحين يشير الدستور العراقي للعام 2005 في المادة (47) إلى ان السلطات العامة الاتحادية تشريعية وتنفيذية وقضائية تمارس اختصاصاتها ومهامها على أساس مبدأ الفصل بين السلطات، فلا فائدة من هذا الفصل ان لم يكن هنالك توازن ردع توقف بمقتضاه السلطة التنفيذية تعسف السلطة التشريعية وانحرافها أو العكس.

وبخلاف ما تقدم يكون مبدأ الفصل على الورق فقط ولا تطبيق له على أرض الواقع وما تقدم من شأنه ان يمنع الاستبداد ويضمن حماية مناسبة للحقوق والحريات، ولقد أسس المشرع الدستوري لمبدأ التوازن في العديد من النصوص القانونية منها التوازن الصريح كما هو واضح من المادة الـ(61) الواردة في صلب الوثيقة الدستورية ومنها:

أولاً: النصوص المكرسة للتوازن بين السلطات على المستوى الاتحادي:

1- طبيعة نظام الحكم: إذ أشارت المادة الأولى من الدستور إلى أن "جمهورية العراق دولة....نظام الحكم فيها جمهوري نيابي برلماني" ومن المعروف ان النظام البرلماني قائم على ركنين أساسيين هما وجود الحكومة إلى جنب رئيس الدولة والتعاون والتوازن بين السلطتين التشريعية والتنفيذية، نفهم مما تقدم ان التوازن ركن أساس من أركان النظام البرلماني الذي تبناه المؤسس الدستوري.

2- شكل الدولة: فهي دولة اتحادية بموجب ما بينته المادة الأولى وما سواها من المواد والنظام الفدرالي قائم على تعدد السلطات التشريعية والتنفيذية وحتى القضائية في الدولة وان تكون على مستويات وطنية وإقليمية بما يضمن نوع من التوازن بين مصلحة الدولة في الوحدة ومصلحة الأقاليم في الاحتفاظ بجزء من استقلالها الذاتي.

3- التعدد: فالمادة الثالثة من الدستور أشارت إلى ان العراق بلد متعدد القوميات والأديان والمذاهب وما تقدم سبب أساس لتحقيق نوع من التوازن على المستوى المركزي والمحلي لمنع كل أشكال التعدي على كيان الفئات المتقدمة والحفاظ على التعددية الثقافية العراقية.

4- ضمان الحقوق والحريات: فقد أقر الباب الثاني من الدستور المعنون بـ"الحقوق والحريات" العديد من الحريات والحقوق للشعب العراقي ولمنع مصادرتها أو الانتقاص منها أقر الدستور مبدأ ضرورة تنظيمها بقانون لمنع اعتداء السلطة التنفيذية عليها وليكون ذلك تطبيقاً للتوازن بين السلطات بل ان البرلمان ملزم بالرقابة على أداء السلطة التنفيذية ليمنع تجاوزها للقوانين المتقدمة.

ثانياً: النصوص المكرسة للتوازن على مستوى الأقاليم والحكومة الاتحادية:

فمن الثابت ان الدولة الاتحادية عموماً يسعى دستورها إلى خلق نمط من التوازن بين النزعة الوحدوية التي تسعى لها الحكومة الاتحادية والنزعة الانفصالية التي تتبعها الأقاليم التي تريد الاحتفاظ لنفسها بالعديد من السلطات لتمنع تغول السلطة الاتحادية عليها وليس المقصود بكلامنا المتقدم تحقيق نوع من التقاسم الفعلي للسلطات بل وجود نوع من التوازن بامتلاك الأقاليم اختصاصات مهمة تمكنها من الحفاظ على مصالح سكانها وتتفاوت هذه الاختصاصات ضيقاً واتساعاً حسب ظروف نشأة الدولة الاتحادية ومدى إيمان القابضين على السلطة في المستويين الاتحادي والإقليمي بضرورة التوازن ومنع الاستبداد وقد تتحقق التوازن من خلال:

1- مشاركة الأقاليم في وضع الدستور الاتحادي وتعديله: والمشاركة في سن الدستور كانت على المستوى الشعبي قبل الإقرار بالنظام الاتحادي بشكل أصولي فقد ورد بالمادة (61) من قانون إدارة الدولة للمرحلة الانتقالية التي نظمت أحكام سن الدستور العراقي إلى ان "يكون الاستفتاء العام ناجحا، ومسودة الدستور مصادقا عليها، عند موافقة أكثرية الناخبين في العراق، وإذا لم يرفضها ثلثا الناخبين في ثلاث محافظات أو أكثر" وعلى مستوى التعديل أشار الدستور العراقي النافذ إلى مساهمة الأقاليم بالمادة (126) حيث ورد النص على ان "لا يجوز إجراء أي تعديل على نصوص الدستور من شأنه ينتقص من صلاحيات الأقاليم التي لا تكون داخلة ضمن الاختصاصات الحصرية للسلطات الاتحادية إلا بموافقة السلطة التشريعية في الإقليم المعني، وموافقة أغلبية سكانه باستفتاء عام" وقريب من هذا المعنى ما تضمنته المادة (142).

2- مشاركة الأقاليم في تكوين السلطات الاتحادية وإدارتها، لاسيما السلطة التشريعية الاتحادية ولهذا دأبت الدساتير الاتحادية على انتهاج أسلوب التأسيس لثنائية السلطة التشريعية بإيجاد مجلسين الأول يمثل الشعب دون النظر للأقاليم والمحافظات بل ان كل نائب يمثل عدد معين من السكان والثاني يمثل نوع من التوازن بين الأقاليم يدعى المجلس الأعلى أو الشيوخ أو الاتحادي تمثل فيه كل الأقاليم بنسب متساوية، وهذا ما تبناه العراق بالتأسيس لمجلسي النواب والاتحاد حيث ورد بالمادة (65) أن "يتم إنشاء مجلس تشريعي يدعى مجلس الاتحاد يضم ممثلين عن الأقاليم والمحافظات غير المنتظمة في إقليم..".

3- إيجاد جهة قضائية اتحادية لحل المنازعات ان حصلت ووفق الدستور العراقي إنشئت المحكمة الاتحادية العليا التي تختص بموجب المادة (93) بـ"الفصل في المنازعات التي تحصل بين الحكومة الاتحادية وحكومات الأقاليم.."

إن مسألة التوازن بين السلطات على مستوى التطبيق العملي في دول العالم كافة مرت بتطورات تمثلت بتغير الظروف الوطنية والدولية معاً، ففي الولايات المتحدة الأمريكية فضل المؤسس الدستوري نموذج التوازن بين السلطات في صياغة دستور 1787 لهذا نجد ان رئيس الدولة منتخب شعبياً والكونغرس كذلك ولا يوجد منصب لرئيس الوزراء بل ان الوزراء في الحقيقة يضطلع الرئيس بمهمة اختيارهم وهم بمثابة المساعدين له وعلى مستوى التوازن نرى ان الرئيس لا يملك حل البرلمان ولا يملك البرلمان سحب الثقة من الرئيس إلا بحدود المساءلة الجنائية ضمن شروط وضوابط صارمة.

بينما فضل المشرع الدستوري الفرنسي عقب الثورة الفرنسية نموذج الفصل الجامد بين السلطات التشريعية والتنفيذية والقضائية للانتهاء من حقبة الاستبداد لكن ما لبث الفرنسيون أن أدركوا خطأ هذا المنهج وتم التراجع عنه في الوثائق الدستورية اللاحقة ويؤسسوا لنموذج التعاون والتوازن النسبي في دستوري 1946 و 1958، في حين ان النموذج السويسري في دستور البلاد الصادر 1874 أو 1999 قد فضل الميل نحو تقوية مركز البرلمان ولهذا سمي النظام بـ(المجلسي أو الميال إلى المجلس التشريعي).

وفي العراق كان الوضع مختلفاً فلم يتسن للشعب العراقي ان يختار الوثيقة الدستورية الأكثر قرباً من إرادته الحقة لا سابقاً ولا حالياً فالقانون الأساسي للعام 1925 كانت بصمات المحتل الإنكليزي واضحة في صياغته ومضمونه وفيما بعد ولأكثر من نصف قرن ساد الاستبداد والتحكم الفردي بصياغة وثائق دستورية كرست الحكم المستبد وصولاً لقانون إدارة الدولة الذي وضعته سلطة الاحتلال لتفرضه على الشعب العراقي بل وترسم من خلاله الطريق غير السوي لوضع دستور البلاد الدائم، فكان التحاصص عنواناً لتكوين لجنة كتابة الدستور ما تسبب بإفراغ مبدأ الاختيار الشعبي الحر لوثيقته الدستورية من محتواه، ووضع دستور لم يرع التوازن بين السلطات بقدر ما أسس لمبدأ تدرج السلطات، حيث وضع البرلمان في المقدمة على المستوى الاتحادي وتم التلاعب بالصياغات على مستوى النظام الفدرالي بشكل يتنافى مع ثوابت ممارسة السلطة في الدولة الاتحادية، بل وتم العبث بالنظام اللامركزي ليتحول إلى نظام مشوه وهجين وغير قادر على النهوض بالمسؤولية الملقاة على كاهله بتكريس الحكم الرشيد المحلي وأفرز ما تقدم ظواهر خطيرة منها:

1- ضعف البرلمان العراقي بسبب النظام الانتخابي السائد في الدورات السابقة والذي أخذ بطرق احتساب الأصوات المكرسة لهيمنة الأحزاب الكبيرة الطامحة للهيمنة السياسية بأي ثمن فكان النتاج مجالس نيابية متعاقبة غير قادرة على النهوض بواجباتها الدستورية رغم المكانة المتميزة التي أفردها الدستور لمجلس النواب والتفوق الكبير له على المستوى النظري قياساً بالسلطة التنفيذية، وأزداد الأمر سوءً بتخلف المشرع عن مهمة الرقابة اللاحقة على الحكومة ومحاسبتها للحد من آفة الفساد التي استشرت ونخرت ما تبقى من جسد الدولة العراقية، ويضاف لما تقدم ضعف دور البرلمان على مستوى صياغة القانون المالي (الموازنة) حيث سلب الدستور منه مكنة تعديل القانون باتجاه إلزام الحكومة بترشيد الإنفاق أو توجيه النفقات واقتصر دوره على تخفيض مجمل النفقات والمناقلة بين الأبواب فحسب بل ان المحكمة الاتحادية العليا منعت البرلمان من تقديم أي مقترح قانون يرتب تشريعه إنفاق أموال ما لم توافق عليه الحكومة ما كرس نوعاً من تدرج السلطة وليس توازنها لمصلحة الحكومة.

2- تعاظم دور السلطة التنفيذية في العراق رغم ان الدستور العراقي حاول جاهداً الحد من نفوذها وتجريدها من أي شكل من أشكال الهيمنة على المؤسسة التشريعية الممثلة للإرادة الشعبية وقد ظهر ما تقدم جلياً في العديد من الحالات ومنها:

أ‌- تدخل الحكومة في تكوين وعمل السلطة التشريعية إذ ان الملاحظ ان الحكومة وجدت ضالتها بالمفوضية العليا المستقلة للانتخابات والتي هيمنت الحكومة على تمويل نشاطاتها وتعيين كبار موظفيها وبالتالي التأثير على سير عملها أضف لما تقدم ان الحكومة تمكنت من السيطرة إلى حد كبير على ملف تقديم مشاريع القوانين وبالتالي التدخل في عمل السلطة التشريعية بشكل أو بآخر.

ب‌- قدرة رئيس الوزراء على توجيه دعوة لعقد جلسة نيابية طارئة أو تقديم طلب لتمديد الفصل التشريعي لمدة ثلاثين يوماً استناداً للمادة (58) من الدستور.

ت‌- تولي الحكومة مهمة تعيين كبار الموظفين ممن ألزم الدستور في المادة (61/خامساً) عرضهم على البرلمان لأخذ موافقته عليهم إلا أن الواقع يقول ان أغلب هؤلاء ومنذ العام 2005 والى اليوم يستقل رئيس الوزراء بتعيينهم بصفة الوكالة ما فتح الباب مشرعاً للتفاضل الحزبي المقيت والفساد الإداري والمالي الهائل ففتحت المكاتب الحزبية المتخصصة ببيع وشراء المناصب الحكومية الحساسة الأمر الذي ساعد على استشراء الفساد بشكل أكبر وأوسع من ذي قبل.

وفي ختام الكلام نجد ان من أهم أسس التوازن بين السلطات العامة في العراق تتحقق من خلال المبادئ الآتية:

أولاً: مبدأ المساواة: إذ ينبغي ان تتساوى السلطات العامة في التأثير المتبادل لنصل إلى قاعدة ان "السلطة توقف السلطة" بيد ان هذا غير متحقق في دستور 2005 الذي رجح كفة مجلس النواب بمنحه أدوات تأثير مهمة في المادة (61/سادساً/ وسابعاً) لمساءلة رئيس الدولة والحكومة مجتمعين أو منفردين بالسؤال البرلماني وطرح موضوع عام للمناقشة وأخيراً الاستجواب وطرح الثقة، وعلى الطرف الأخر لا تملك الحكومة أو رئيس الدولة سلطة حل البرلمان وهذه من أبجديات النظام البرلماني.

ثانياً: مبدأ التكافؤ: إذ ان البرلمان منتخب بشكل مباشر من الشعب بينما السلطة التنفيذية من رئيس جمهورية ونوابه ورئيس وزراء وحكومته بأجمعهم يتم اختيارهم من جانب البرلمان والأولى ان يتم انتخاب رئيس الدولة من الشعب مباشرة للقضاء على المحاصصة أولاً ولمجيء شخصية قادرة على أخذ دور إقامة التوازن بين الحكومة والمجلس النيابي.

ثالثاً: الإرادة الشعبية: حيث ان أداة التوازن الحقيقي هي الشعب حيث خلى الدستور العراقي للعام 2005 من منح الشعب القدرة على التقدم بمقترح حل البرلمان أو مساءلة الحكومة أو طلب تنظيم انتخابات مبكرة وغيرها من تطبيقات نظام الديمقراطية غير المباشرة وما أحوجنا لها ليستقيم الأمر في العراق.

.......................................
** مركز آدم للدفاع عن الحقوق والحريات هو أحد منظمات المجتمع المدني المستقلة غير الربحية مهمته الدفاع عن الحقوق والحريات في مختلف دول العالم، تحت شعار (ولقد كرمنا بني آدم) بغض النظر عن اللون أو الجنس أو الدين أو المذهب. ويسعى من أجل تحقيق هدفه الى نشر الوعي والثقافة الحقوقية في المجتمع وتقديم المشورة والدعم القانوني، والتشجيع على استعمال الحقوق والحريات بواسطة الطرق السلمية، كما يقوم برصد الانتهاكات والخروقات التي يتعرض لها الأشخاص والجماعات، ويدعو الحكومات ذات العلاقة إلى تطبيق معايير حقوق الإنسان في مختلف الاتجاهات...
http://ademrights.org
[email protected]
https://twitter.com/ademrights

اضف تعليق