q

يبقى الانسان باحثا عن فرصة التصحيح في الوقت المناسب، حتى لو كان غائصا في الاخطاء من اخمص قدميه الى قمة رأسه، فالفطرة الانسانية تؤنّب الانسان وتضغط على ضميره وتحاول أن تعيده الى طبيعته وسجاياه الحقيقية التي جُبِلَ عليها، وهكذا يبقى يفتش طيلة حياته عن الفرصة المواتية للتوبة، والعودة الى جادة الصواب، ونفض الذنوب والمعاصي، والتخلّص من الادران بصورة تامة، وهذا ما يؤكده العلماء وأصحاب التخصص في المجالين الديني والروحاني، حيث يظل الانسان منشغلا بالتوبة والعودة الى رشده حتى في اشد لحظات الانشغال بالمكاسب المادية وطمع الحياة الذي يعمي البصيرة قبل البصر، لذلك عندما يحل شهر رمضان الكريم بأجوائه التي تكتظ بنفحات الايمان، تخشع وتلين اشد القلوب عنادا وقسوة، وتسعى كل حواس الانسان ومشاعره نحو أصالتها في الانتماء الى الانسانية الحقة.

ويرى العارفون في خفايا الانسان أنه غالبا ما يرتكب الكثير من الهفوات والاخطاء عن قصد أو من دون قصد، وينسى الانسان تلك الهفوات خلف ظهره، من دون أن يتوقف عندها، حتى لو كان مؤمنا، وهذه هي النقطة التي يبدأ معها فقدان الايمان، واعتياد التجاوز على حدود الله تعالى وحقوق الناس ايضا، واذا كان الله سبحانه عظيما ورحيما وغفورا، يتنازل عن حقوقه بالعفو والمغفرة، فإن حقوق الناس تبقى في ذمة المتجاوز عليها، لذا لابد أن يتنبّه الانسان المؤمن الى هذه القضية بدقة واستمرار، وذلك من خلال الوقوف عند النفس وأعمالها ومواقفها، ثم ردعها ومحاسبتها اذا كانت قد أخطأت، وهذا هو السبيل الوحيد لدرء خطر الانحراف، والعودة من الانحراف الى الصواب، وتبقى الفرصة النموذجية، شهر رمضان واجوائه المشبعة بالورع.

ويرى أهل التخصص بالفقه والدين، وحتى علماء النفس أن ذنوب الانسان التي يرتكبها في كل يوم اذا كان مطيعا لغرائزه ونزواته، يتراكم عليها غبار الزمن كلما تقدم الى امام، وقد يصل الى مرحلة التصلب، فلا ينفع التنظيف او التطهير او الاغتسال، لهذا مطلوب تنظيف الغبار، ونقصد بها هنا - الاخطاء و الذنوب و المعاصي- وهي طرية وقليلة وغير متصلبة، حتى يمكن محوها بسهولة، ويتم ذلك بوساطة محاسبة النفس بصورة جدية، لهذا غالبا ما يكون شهر رمضان المبارك هو الفرصة الذهبية لتحقيق هذا الهدف الكبير، حتى يتم تحجيم النفس ووضعها في مكانها الصحيح. فالذنوب والمعاصي اذا بقيت في حالة التراكم المستمر، سوف تؤدي الى حجب الحقيقة عن الانسان، وحينئذ سوف تضعف بصيرته شيئا فشيئا، ويصبح غير قادر على فرز الحقائق من الزيف والخطأ، بسبب اعتياده للزلل في حياته، الامر الذي يتطلب منه سعيا حثيثا ودائما لمراقبة النفس والتحكم بها، بدلا من حدوث العكس، لأن الانسان اذا وقع تحت قيادة النفس ونزواتها واهوائها، فإنه حينذاك يقع ضحية المعاصي المدمرة، لاسيما اذا كانت النفس امارة بالسوء، فعندئذ يكون الانسان ضحية لنفسه بدلا من ان تكون هي تحت وصاياه وارادته.

لذلك ينبغي على الانسان أن يمهد ويهيّئ نفسه للدخول الى شهر رمضان حاملا معه صفحة جديدا وسجلا نظيفا، يمحو فيه جميع الذنوب التي ارتكبها في عمره الذي مضى، علما أن تمهيد النفس، يعني محاسبتها والوقوف اليومي والدائم عند ذنوبها وأخطائها ومن ثم تشخيصها بدقة، ثم العمل بقوة مضاعفة وارادة حديدية، لمعالجتها والقضاء عليها، عندئذ تتكون لدى الانسان ارادة صلبة قادرة على ردع المغريات مهما بلغ حجمها، خاصة ان شهر رمضان يعد من افضل الاوقات التي تشجع على الايمان والعودة عن الزلل الى سبل الصواب، وهكذا لابد للإنسان أن يكون ذا فكر يليق بكرامته ومكانته وحريته التي لازمته منذ الولادة، ولا يصح أن يبقى اسيرا للجشع، واللهاث وراء المعاصي طمعا بالمال او الجاه او السلطة، وهذا بالضبط ما تثبته الوقائع الدالة والشاخصة على الارض، ويبقى الانسان في حالة دائمة للعودة الى فطرته الأصيلة، حيث النقاء والارتقاء الى الحق والجمال والخير والحرية، وهذه هي غايته ووسيلته، لهذا لابد أن يعد الانسان نفسه بصورة صحيحة وجيدة، ليكون افضل في هذا الشهر الكريم من سواه، بمعنى ينبغي أن يكون الانسان المؤمن على استعداد دائم كي يكون عنصرا ناجحا وقادرا على العطاء الامثل، وذلك للمشاركة في بناء الحياة والمجتمع عبر التوبة واستثمار شهر رمضان لتحقيق هذا الهدف الكبير في كل شيء.

ولابد أن يعاهد الانسان نفسه وربه على أن يكون انسانا صالحا في هذا الشهر الكريم، كونه شهر التوبة وشهر الخير دائما، وهو الارضية المناسبة لمضاعفة الايمان والعمل الصالح، نعم انه شهر الهداية والامل، وهو الشهر الذي يمكن استثماره لتصحيح مسارات الفرد والمجتمع، بسبب الاجواء المشبعة بالايمان والتقوى التي تسود حياة الناس جميعا في هذا الشهر المبارك، ولو ادرك الناس اهمية الانفاق والتعاون والتكافل في بناء المجتمع السليم، لما انقطع أيّ منهم عن اداء التبرع ابدا، لما له من دور في مساعدة الناس، وترسيخ مبادئ الاسلام وفرائضه وتعاليمه كمنهج حياتي يخدم جميع الناس، لاسيما الفقراء والضعفاء منهم، وبهذا يتحقق هدفان واضحان في هذا المنحى، الاول توبة الانسان عمّا اقترفه من معاصي وزلّات خلال حياته التي مرّت، والثاني هو استثماره لأجواء هذا الشهر المبارك، كي يعود الى رشده، ويتحول من كائن تقوده غرائزه ورغائبه، الى كائن يقود نفسه بنفسه، ويصبح مثالا ونموذجا للآخرين، وهذه هي بداية التحوّل في حياة الانسان الذي لم يدرك الايمان قبل هذه اللحظة المصيرية في حياته.

اضف تعليق