q
الحكام يجيدون الخطاب ويخفقون عند التطبيق، جميعهم يزينون كلماتهم المفتاحية لفترة حكمهم بشتى الاوصاف، مستخدمين أكثر الجمل تزويقا واقربها من قلوب المواطنين، يجعلون من يتلقاها يعيش حالة من النشوة ويحسب انه بدأ عصر الرفاهية والازدهار، فعندما تمكنت القوى الداخلية والدولية من تغيير نظام الحكم في...

الحكام يجيدون الخطاب ويخفقون عند التطبيق، جميعهم يزينون كلماتهم المفتاحية لفترة حكمهم بشتى الاوصاف، مستخدمين أكثر الجمل تزويقا واقربها من قلوب المواطنين، يجعلون من يتلقاها يعيش حالة من النشوة ويحسب انه بدأ عصر الرفاهية والازدهار.

فعندما تمكنت القوى الداخلية والدولية من تغيير نظام الحكم في مصر وصولا الى الرئيس الحالي عبد الفتاح السيسي، قام الأخير بإجبار البرلمان على إجراء تعديلات دستورية تسمح للرئيس بالبقاء في السلطة حتى عام 2034، بينما كان من اشد المعارضين لتغيير أي مادة من مواد الدستور ابان حكم سلفه مرسي، متوعدا من يقدم على ذلك بأشد العقوبات.

الرئيس السيسي لم يكن سوى نموذجا لعدد غير قليل من الرؤساء على مستوى العالم، يشاركه بذلك الرئيس التركي رجب طيب أردُوغان الذي دعا في كلمة عقبَ ترأسه اجتماعا للحكومة في المجمع الرئاسي بأنقرة، دعا إلى مناقشة صياغة دستور جديد للبلاد محملا كل المشكلات التي كانت ومازالت إلى الدساتير القديمة التي وصفها بأنها جاءت من رحم الانقلابات والأوضاع الاستثنائية.

تلك الدعوة كانت بمثابة الصدمة للأوساط السياسية في الداخل التركي، وافضت الى تناقض في المواقف، اذ اعتبر وزير العدل هذه الخطوة "بشرى باعثة للحماسة"، كما أكد زعيم حزب الحركة القومية دولت بهتشلي حاجةَ تركيا لهذه الخطوة، في حين وصفت المعارضة الخطوة بالمفلسة داعيةً للعودة إلى الحكم البرلماني الذي ألغاه أردوغان في آخر تعديل له على الدستور عام 2017.

الطبقة السياسية في تركيا تعتقد ان الدستور الحالي والذي تم وضعه في ثمانينيات القرن المنصرم، رغم الكثير من التعديلات التي جرت عليه والبالغ عددها تسعة عشر لغاية اللحظة التي ناشد بها أردُوغان ، تعتقد بضرورة اجراء التعديلات بما يضمن بقاءه فترة أطول في الحكم وترشحه الى أكثر من دورة رئاسية وهو ما تصفه المعارضة بخرق صارخ للدستور المعمول به في البلاد.

اهم الحجج التي يدافع بها القادة الذين يؤسسون لحكم بوليسي ممهد للشمولية، هو ان الدساتير الحالية صيغت على عُجالة، وليس من الصواب بقاءها كما هي عليه، فالمتغيرات الجديدة تحتم عليهم الشروع بهذه الخطوات التي تعطيهم الفسحة من اجل البقاء طويلا على كرسي الحكم.

محاولة الانقلاب التي شهدتها تركيا في تموز من العام 2016 كانت بمثابة ناقوس الخطر الذي نبه أردُوغان بمدى الخطر المحيط به والعملية السياسية، ورفض طبقات شعبية لا يستهان بها للاستبداد الذي يعيشه الشعب التركي، بالإضافة الى اقصاء تيارات لها جماهير ومقبولية شعبية من ممارسة حقها الطبيعي في الحكم السياسي.

ذلك قاد أردُوغان الى البدء ببناء جادر الصد الأول للدفاع عن مملكته قوية الأركان في الظاهر والمتداعية من الداخل، واقصد بالتداعي هنا هو الخلافات الداخلية بين قادة حزب العدالة والتنمية، فالحاجة لمثل هذه التعديلات يراها زعيم الحزب من الضرورات المرحلية ولا يمكن الاستغناء عنها.

لا تخفى نية أردُوغان بتثبيت دعائم حكمه بقوة، وابعاد الأصوات المعارضة عن جادته السياسية، فهو لا يريد مسك العصى من الوسط، لان ذلك يجعله يتباطأ في تحقيق غايته الكبرى والوصول الى تأكد شبه تام من عدم ظهور منافس له في الأيام القادمة، وبذلك فلا غرابة من اللجوء لأي ذريعة او أسلوب وصولا للهدف.

بينما المعارضة التركية تتحدث عن وجود إمكانية التحكم بالدستور بهامش بسيط من الحرية لحد إخفاء العيوب وتلافي الأخطاء المصاحبة لعملية الكتابة، وليس من الصحيح ان تمتد يد التغيير لتتلاعب بأهم الاعمدة القائم عليها دستور البلاد وخلخلته الى درجة خلق أجواء امينة تجعل من رغبات اوردغان تنمو وتزدهر في فضاء مليء بالمغالطات والمحسوبيات.

التخوف الذي يجول بخواطر أردُوغان قد يكون نابع من تراجع شعبية حزب العدالة والتنمية الذي اخذ يعمق من جذوره، ويوسع من سلطاته التي تجعله يتشبث أكثر فأكثر بالسلطة، محاولا قدر الإمكان اقصاء الشركاء غير المرغوب بوجودهم الى جانبه في عملية إدارة البلاد، فالأحزاب المعارضة غير مقتنعة بجهود أردُوغان حيال العديد من الملفات ومن بينها ملف القرب من المحور الروسي والإيراني.

وهذا التقرب حرم الشعب التركي بان يكون حليفا للقوى العظمى في العالم بما فيها أمريكا المتحكمة في القرارات الدولية بنسبة كبيرة، فالشعب التركي لا يريد ان يكون ضحية التخبط الاردوغاني، وتحل عليه بعد ذلك اللعنة الاوربية والأمريكية معا.

البقاء طويلا في الملف التركي لربما ناتج من سخونة الموضوع، فضلا عن كونه أقرب الأدلة الى ذهن القارئ، وقد يكون من الموضوعات الشائكة في النظام التركي الذي يتصارع عليه أنصار نظام الحكم البرلماني والحكم الرئاسي.

غادرنا الملف المعقد وحطت اقدامنا محطة لا تقل تعقيدا عن الملف الأول وهو الدستور العراقي الذي تم تعديله لمرتين، التعديل الأول جاء في أقل من سنة على إقرار الدستور المؤقت شهر كانون الأول 1964، والثاني في 9 أيلول عام 1965، اذ كان التعديل الأول حول قانون مجلس الشورى، والثاني حول الانتقاص من صلاحيات رئيس الجمهورية من قبل المجلس الوطني لقيادة الثورة.

اما الدستور الذي تمت صياغته في العام 2005 من قبل مجلس الحكم، لا يزال بعض مواده تمثل قنابر موقوتة لا يمكن الاقتراب منها بصورة او بأخرى، تحمل قدرا كبيرا من الخطورة، يجازف من يدنوا منها، فهي كالبركان تنفجر بوجه وتحرك الصفاء السياسي والهدوء النسبي الذي تعيشه البلاد.

اغلب دساتير المنطقة تحتوي على هفوات وثغرات تجعلها مطاطية الفهم والتفسير وكذلك عند التطبيق، ففي موطن نجد السلطة تستخدمها درعا واقيا لها من شرارة الجماهير الغاضبة، وفي موطن آخر يتم توظيفها لخدمة الطبقة الحاكمة وتنسب بعض الممارسات الشعبية بالخارجة عن القانون وغير دستورية ويحق لها ان تجهض أي حركة تحررية رافضة لما يمارس ضد المواطنين.

كل رئيس دولة يهتم عند قدومه المنصب بالشؤون الأمنية ويجلب الأشخاص الأكثر قربا منه وحرصا على سلامته، يرافقونه في المناسبات المحلية والمحافل الدولية، كما انه يعتني بمظهره الخارجي ومن يلازمه طيلة فترة حكمه، الا انه يبقى في ريبة وحذر لعدم توفر الغطاء القانوني الذي يحميه ويؤخر أيامه في المنصب السياسي، لذا يعتبر التلاعب بالدستور وتفصيله حسب المقاس من مظاهر الترف والهيبة التي تعد من اركان حكمه الهزيل.

اضف تعليق