q
هذه البنت طلبها البيت الطاهر فوجدها كنزاً من الأدب والتقوى والإيمان، ودُرَّة من دُرر الإنسانية، وجوهرة من جواهر العرب الأصلاء، فصقلها أمير المؤمنين (ع) بأدبه، وجلاها بنوره، وعلمها بعلمه، فصارت قلعة من قلاع الفضيلة، ومنجماً من مناجم المعنوية التي قلَّ نظيرها في النساء، وما كانت لتحظى...

مقدمة في النسب

لقد اهتمَّ العرب بمسألة النسب اهتماماً كبيراً وذلك جعلهم يفخرون بنسبهم ويحفظونه ويحتفظون بشجرة النَّسب وتوضع في صدر المجالس والبيوت، ولقد جاء في كتب القوم حديث أبو هريرة الدوسي: (تعلَّمُوا أنسابَكُمْ تَصِلُوا أرْحامَكُمْ)، وجاء الإسلام الحنيف واحتاط في الدماء والأعراض الشيء الكثير فحرَّم كل أنواع النكاح العشرة المعروفة في الجاهلية وأبقى النكاح الشرعي بالعقد الدائم أو المؤقت، وشرَّع العِدَّة على المرأة المطلقة، والأرملة لاستبراء رحمها، وذلك لحفظ الأنساب، والأعراض في المجتمع الإسلامي.

وكان العلماء بالأنساب العربية أقلاء لأنه يحتاج إلى ذكاء وحافظة وفراسة عجيبة، وكانوا يُسمونه علَّامة وكان علامة قريش في أنسابها عقيل بن أبي طالب ومنه أخذ الآخرون هذا العلم ولكن أهملوه ونسبوه لغيره لأنه ابن أبي طالب، وأخو الإمام علي (ع) ولا ذنب له إلا هذا عند الأمويين خاصة، وقريش عامة، ولذا كان معاوية في قصره وحكمه يخاف لسانه وعلمه.

ومن رواياته في ذلك ما سارت به الركبان وتحدثت به النسوان، فعن عبد الصمد، عن جعفر بن محمد (عليهما السلام) قال: قلتُ: يا أبا عبد الله حدثنا حديث عقيل، قال: نعم، جاء عقيل إليكم بالكوفة وكان علي (عليه السلام) جالساً في صحن المسجد وعليه قميص سنبلاني قال: فسأله، قال: أكتب لك إلى ينبع، قال: ليس غير هذا؟ قال: لا، فبينما هو كذلك إذ أقبل الحسين (عليه السلام) فقال: اشتر لعمك ثوبين، فاشترى له، قال: يا ابن أخي ما هذا؟ قال: هذه كسوة أمير المؤمنين (عليه السلام)، ثم أقبل حتى انتهى إلى علي (عليه السلام) فجلس فجعل يضرب يده على الثوبين وجعل يقول: ما ألين هذا الثوب يا أبا يزيد!

قال: يا حسن أخد عمك (أعطه)، قال: قال: ما أملك صفراء ولا بيضاء، قال: فمر له ببعض ثيابك، قال: فكساه بعض ثيابه، قال: ثم قال: يا محمد أخد عمك، قال: والله ما أملك درهما ولا دينارا، قال: اكسه بعض ثيابك.

قال عقيل: يا أمير المؤمنين ائذن لي إلى معاوية؟ قال: في حِل محلل، فانطلق نحوه، وبلغ ذلك معاوية، فقال: اركبوا أفره دوابكم والبسوا من أحسن ثيابكم فإن عقيلاً قد أقبل نحوكم، وأبرز معاوية سريره، فلما انتهى إليه عقيل قال معاوية: مرحباً بك يا أبا يزيد ما نزع بك؟

قال: طلب الدنيا من مظانها، قال: وفِّقتَ وأصبت قد أمرنا لك بمائة ألف، فأعطاه المائة الألف: ثم قال: أخبرني عن العسكرين اللذين مررت بهما عسكري وعسكر علي، قال: في الجماعة أخبرك أو في الوحدة قال: لا بل في الجماعة، قال: مررتُ على عسكر علي (عليه السلام) فإذا ليل كليل النبي (صلى الله عليه وآله) ونهار كنهار النبي (صلى الله عليه وآله) إلا أن رسول الله (صلى الله عليه وآله) ليس فيهم، ومررتُ على عسكرك فإذا أول مَنْ استقبلني أبو الأعور وطائفة من المنافقين والمنفِّرين برسول الله (صلى الله عليه وآله) إلا أن أبا سفيان ليس فيهم!

فكفَّ عنه حتى إذا ذهب الناس قال له: يا أبا يزيد أيش صنعت بي؟ قال: ألم أقل لك: في الجماعة أو في الوحدة فأبيتَ عليَّ؟ قال: أما الآن فاشفني من عدوي، قال: ذلك عند الرَّحيل، فلما كان من الغد شدَّ غرائره (أكياسه) ورواحله وأقبل نحو معاوية وقد جمع معاوية حوله، فلما انتهى إليه قال: يا معاوية مَنْ ذا عن يمينك؟ قال: عمرو بن العاص، فتضاحك، ثم قال: لقد علمت قريش أنه لم يكن أخصى لتيوسها (ذكر المعزى) من أبيه، ثم قال: مَنْ هذا؟ قال: هذا أبو موسى، فتضاحك، ثم قال: لقد علمت قريش بالمدينة أنه لم يكن بها امرأة أطيب ريحاً من قِبِّ أمه! (والقِب بالكسر: العظم الناتئ بين الأليتين)

قال (معاوية): أخبرني عن نفسي يا أبا يزيد.

قال: تعرف حمامة؟ ثم سار فألقى في خَلَد (قلب) معاوية، قال: أمٍّ من أمهاتي لستُ أعرفها، فدعا بنسَّابَين من أهل الشام، فقال: أخبراني أو لأضربنَّ أعناقكما، لكما الأمان، قالا: فإن حمامة جدة أبي سفيان وكانت بغياً، وكان لها بيت توفي فيه". ثم قال جعفر بن محمد (عليهما السلام): (وكان عقيل من أنسب الناس) (البحار المجلسي: ج ٤٢ص ١١٢)

هذا العلامة جاءه يوماً أخوه أمير المؤمنين الإمام علي (ع) بطلب غريب عجيب فقد رُوي أن أمير المؤمنين علياً (ع) قال لأخيه عقيل: (أنظر إلى امرأة قد ولدتها الفحولة من العرب لأتزوجها فتلد لي غلاماً فارساً). فقال له: تزوَّج أم البنين الكلابية فإنه ليس في العرب أشجع من آبائها". (عمدة الطالب؛ ابن عنبة ص ٣٥٧)

وأمير المؤمنين (ع) العالم بالأنساب وما في الأصلاب كيف يأتي إلى أخيه عقيل بهذا الطلب؟ هذا درس لنا جميعاً لنطلب الاستشارة من أهلها وأهل الخبرة فيها، فعندما يُريد أحدنا أن يتزوج فليبحث عن النسب الشريف، والأصل الطيب لزوجته كما في الروايات، وليستشر والديه أولاً ولا يأنف من ذلك وليعلم أنهما أخبر الناس بالناس وبما يُلائمه منهنَّ لا سيما والدته.

نعم جاء أمير المؤمنين إلى أخيه العالم بالأنساب فأشار عليه بهذه الفتاة التي ولدتها فحول العرب وشجعانهم، وبالفعل خطبها له وتزوجها أمير المؤمنين (ع) وظهرت منها علامات الإيمان والنَّجابة في أيامها الأولى في بيت زوجها، بل وربما في اليوم الأول منه، وكانت أم البنين (سلام الله عليها) في غاية الأدب والأخلاق، فعندما دخل بها الإمام علي (عليه السلام) سألها حاجتها، حسب عادة الزيجات يومئذ، فقالت لعلي أمير المؤمنين (ع): لا تُسمِّني فاطمة!، لأن الحسن والحسين وزينب وأم كلثوم (ع) يتذكرون أمهم ويتأثرون بذلك، ولذا سمّاها (ع) بـ (أم البنين)، على ما هي العادة عند العرب من الكنية، لا باعتبار الانطباق الخارجي، بل باعتبار الانتخاب، والله سبحانه رزقها أربعة أولاد (مثل بدور الدُّجى) فصاروا مفخرة البشرية إلى يوم القيامة". (أم البنين السيد محمد الشيرازي: ص17 بتصرف)

عطاء أم البنين لله

جاءت هذه الفتاة المدللة إلى بيت أمير المؤمنين (ع)، البيت الذي أذن الله أنْ يُرفع ويُذكر فيه اسمه، فهو بيت إلهي، نبوي، ولائي، رسالي، بيت القرآن والإيمان كله يقطر منه، والعلم يطفح من جنباته، وكأن الله جمع الفضل والفضائل فيه وقال للبشر مَنْ أراد فضلاً وشرفاً وكرامة وفضيلة فليأتِ هذا البيت ويأخذ حاجته، ولكن هذه البنت طلبها البيت الطاهر فوجدها كنزاً من الأدب والتقوى والإيمان، ودُرَّة من دُرر الإنسانية، وجوهرة من جواهر العرب الأصلاء، فصقلها أمير المؤمنين (ع) بأدبه، وجلاها بنوره، وعلمها بعلمه، فصارت قلعة من قلاع الفضيلة، ومنجماً من مناجم المعنوية التي قلَّ نظيرها في النساء، وما كانت لتحظى بكل ذلك لولا أنها أعطت قلبها وقالبها لله بكل إخلاص، وتسليم، ورضا عن الله وقضائه.

يقول الإمام الشيرازي الراحل (قدس سره): "الشيء القليل الذي نعرفه عن أم البنين (ع) مرتبط ببعض الماديات وما أشبه، كنسبها وزواجها بعلي أمير المؤمنين (ع) وأولادها الأربع وشيء عن أدبها الجم وبعض قضاياها بعد قصة كربلاء.. أما مقدار معنوياتها العالية، ومدى معرفتها وعلومها.. فلم نعلم منه شيئاً يُذكر.

نعم يمكننا المعرفة الإجمالية عبر رؤية بعض الآثار.. وهكذا بالنسبة إلى ما للسيدة الجليلة أم البنين (ع) من المعنوية العالية والمقام العظيم، حيث يمكننا أن نحسّ بشيء من ذلك عبر ما نراه من الآثار المترتبة على التوسل بها وجعلها شفيعة عند الله عزّ وجل في قضاء الحوائج ..

فإن النذر لها يحل المشاكل الكبيرة التي هي بحاجة إلى الإمداد الغيبي من الله سبحانه، كشفاء المرضى الذين لا شفاء لهم حسب الظاهر، وإعطاء الأولاد لمَنْ لم يُرزق ولداً، ودفع البلايا وغير ذلك.. وهذا مما عليه ألوف القصص من المشاهدات والمنقولات، والسبب لا يكون إلا معنوية رفيعة لهذه السيدة الجليلة يقصر ذهننا عن دركها". (أم البنين السيد الشيرازي: ص11)

ومما أعطته لله كان كل ما لديها وهم أولادها الأربعة حيث قدَّمتهم قرابين فداء وولاء لسيدهم وإمامهم وأخيهم الحسين (ع) في يوم عاشوراء والمأساة الخالدة، والحديث يطول ويتشعَّب هنا لأنه حديث عن كربلاء وعاشوراء وما تبعها لأنه لا ينتهي إلا بشهادتها حزناً وكمداً وعلى أشباه قبور أبنائها في مثل هذه الأيام في 64ه في المدينة المنورة التي لم تستطع أن تتحملها فكان مروان الوزغ يراقبها ولا يتركها تبكي ولا أن يجتمع إليها المعزيات فتخرج إلى البقيع وتصنع أشباه لقبور أولادها وتبكي وتندب فيبكي كل عدو صديق رحمة لها حتى يبكي اللعين مروان لبكائها كما في بعض النصوص.

والعجب العُجاب ما أخبرتنا عنه بعض الروايات التاريخية التي تحكي عن استقبالها لناعي كربلاء بشر بن حذلم الذي أمره الإمام السجاد (ع) بالدخول إلى المدينة ونعي الإمام الحسين (ع)، ولما سمعته أم البنين خرجت وطفل لولدها العباس على كتفها فلم تسأله إلا عن ولدها الحسين (ع)، ولما أخبرها بشهادتهم واحداً بعد واحد وهي تقول له: ما سألتك عن أولادي سألتك عن الحسين (ع).

حتى أخبرها بشهادة العباس فانحنت وسقط الولد عن كتفها وقال: (لقد قطعت نياط قلبي أخبرني عن ولدي الحسين (ع)، ولما أخبرها بشهادته صاحت: وا ولداه واحسيناه)، ولما دخلت على السيدة زينب (ع) والسبايا فكانت أول ما نادت وندبت: وا حسيناه وا ولداه، فأجابتها السيدة زينب وا عباساه وا أخاه)، هكذا أعطت السيدة أم البنين (ع) الله تعالى دون حساب أغلى ما أعطاها في هذه الحياة.. فعطاء الله تعالى يتناسب مع عظمته ولطفه وكرمه، وعطاء أم البنين كان يتناسب مع شخصيتها وإيمانها ويقينها بالله ورسوله وأوليائه، حيث أعطت من نفسها الأولاد والصبر فأعطاها الله الثواب والأجر وعظيم الزلفى والذُّخر.

عطاء الله لأم البنين (باب الحوائج)

عطاء الله عطاء، ومنعه عطاء أيضاً وذلك لأنه العالم بالأمور الخبير بتقلب العصور والدهور فقد يكون العطاء يعقبه طغيان وتكبُّر وتجبُّر ويكون في نهايته خروج حتى من الملَّة والدِّين كما في الكثير من القصص وأشهرها قصة قارون الذي كان ابن خالة موسى (ع) فبغى عليهم.

يقول الإمام الشيرازي الراحل: "ورد في الحديث القدسي:(عبدي أطعني أجعلْك مثلي أنا أقول للشيء كن فيكون، أطعني فيما أمرتك تقول للشيء كن فيكون)، ومن هنا تنشأ معجزات الأنبياء وكرامات الأولياء (ع)، والفرق بينهما؛ أن الأولى على سبيل التَّحدي، بخلاف الثانية فإنها على سبيل إظهار فضل الوليّ أو ما أشبه (الكرامة والزلفى والقربى من الله تعالى).

وأم البنين (سلام الله عليها) صاحبة الكرامات الكثيرة التي نُقلت عنها متواتراً وشُوهدت كذلك، وذلك بالنذر أو التوسل بها لتشفع عند الله.. بإهداء ختمة، أو قراءة القرآن الكريم لها أو ما أشبه.

ثم يقول سماحته: "وقد سمعتُ طيلة حياتي كثيراً من كراماتها المتواترة ولا يسع المقام لبيانها، هذا ومن الواضح أن قوانين الكون - وهي لا تُعد ولا تُحصى - إنما هي بأجمعها بإرادة الله سبحانه، والكرامة خارقة للقانون الكوني العام، وهي تدخل تحت قانون المستثنيات، فتكون أيضاً بإرادته تعالى، فالإرادة تشمل المستثنى والمستثنى منه كما لا يخفى..

فمَنْ جعل النار محرقة جعلها برداً وسلاماً.. ومَنْ جعل الماء لازماً لتساوي السطوح جعله فرقاً فرقاً كل فرقة كالطود العظيم (كما في قصة موسى (ع).. ومَنْ جعل القلب حينما يتوقف تسقط الأعضاء وأجهزة البدن عن العمل، جعله يرجعه إلى التحرك.. بإحياء الموتى، وهكذا في سائر المعجزات والكرامات". (أم البنين: السيد الشيرازي: ص25)

نعم؛ وهذا ما شَهدناه جميعاً وعرفناه ولمسناه فما من معضلة تحدث لأحدنا، أو مشكلة يقع فيها، أو عقبة عويصة تقف أمامه إلا ويهرع إلى هذه السيدة العظيمة الجليلة، ويُهدي إليها ثواب الفاتحة مع الصلوات المباركة إلا وتراها تنحلُّ وتنماث المشاكل كما ينماث الملح في الماء، فسبحان الذي أعطى لها هذه الكرامة العظمى بأن جعلها (باب الحوائج إليه).

فالتجربة الشخصية والمعاشية صارت حتى من المسلَّمات عند الشيعة والمحبين، أن أبا الفضل العباس باب الحوائج المستعصية، لأنه كان باب أخاه الحسين (ع)، وأما أمه السيدة المكرَّمة أم البنين فهي باب الحوائج إلى الله وتقضيها بأسرع مما نتصوَّر وكل ذلك بعطائها لله الذي لم تدَّخر منه شيء إلا وأعطته وأعظم ما تُعطي المرأة أبناءها وفلذة كبدها وهل مثل أبناء أم البنين أبناء وهل في العطاء مثل سيدنا قمر العشيرة أبو الفضل العباس عطاء؟

السلام على سيدتنا أم البنين وأبناءها الميامين أبد الدَّهر ومدار العصر، وجعلهم ممَّن يشفع لنا في حاجاتنا الأخروية كما يشفعون بحاجاتنا الدنيوية فهم أبواب الحوائج إلى الله..

اضف تعليق