q
تشير تقارير الباحثين الى ان الناس الذين سُئلوا عن سبب تحولهم نحو الايمان بالخلق يقولون انهم فعلوا هذا لأنهم يرونها البديل الوحيد للدارونية، التي يساوونها بالإلحاد ويرونها لا تُحتمل. \"الدارونية\" بالنسبة لهم تعني \"الدارونية الاجتماعية\"، العشبة القوية القادرة على الحياة في الظل وفي الظروف الصعبة...

تشير تقارير الباحثين الى ان الناس الذين سُئلوا عن سبب تحولهم نحو الايمان بالخلق يقولون انهم فعلوا هذا لأنهم يرونها البديل الوحيد للدارونية، التي يساوونها بالإلحاد ويرونها لا تُحتمل. "الدارونية" بالنسبة لهم تعني "الدارونية الاجتماعية"، العشبة القوية القادرة على الحياة في الظل وفي الظروف الصعبة. لكنهم لديهم الكثير من الاسباب التي تدعم رفضهم هذا. في كتاب "نهر خارج عدن، "رؤية دارونية للحياة" يلخص ريتشارد دوكنز ما يراه في الرسالة الدارونية(ص.155):

"في هذا الكون من القوى العمياء والتكرار الفيزيائي، بعض الناس يصيبهم الأذى، بينما آخرون يحالفهم الحظ، وانت سوف لن تجد فيه اي تناغم او سبب ولا حتى عدالة. الكون الذي نلاحظه له بالضبط خصائص توحي بعدم وجود أي تصميم او هدف او خير او شر، لاشيء الّا اللاّفرق الأعمى والقاسي". هذا ما وصفه الشاعر A.E.Housman

لأن الطبيعة حمقاء، وبلا قلب، فهي سوف لن تهتم ابدا ولن تعرف".

الـ DNA لا تهتم ولاتعرف. هي تماما كما هي. ونحن نرقص على أنغامها".

ونجد الشيء ذاته في الصفحة الاولى من كتاب "الجين الاناني" The Selfish Gene، فيه يصرح دوكنز Dawkins "نحن لم نعد بحاجة للخرافة عندما نواجه المشاكل العميقة، هل هناك معنى للحياة؟ لأجل منْ نحن؟ ماهو الانسان؟" هذه الأسئلة كما يقول أجيب عليها بالنفي القاطع والأكيد عام 1859 مع نشر دارون كتابه أصل الأنواع. هذه هي الدوكنزية Dawkinsism وليست الدارونية، ولكن لاتزال يجب النظر اليها باهتمام شديد. لكي نبدأ، نحن يجب ان نسأل ماذا يعني القول ان الكون لا يحتوي على "الشر ولا على الخير". هذه الفكرة غريبة حتى بايولوجيا، لأن هذا الكون بالفعل يحتوي على العديد من الكائنات الحية بما فيها أنفسنا، وبالنسبة لأي كائن حي فان بعض الاشياء هي شر بالضرورة، واخرى خيّرة: كل مخلوق له حاجاته الطبيعية الخاصة به، لأجلها تكون بعض الاشياء مفيدة بينما اخرى تكون مؤذية.

نحن البشر عندما نسمي شيئا ما "خير" او "شر"، فنحن لا نضيف سمات اسطورية غير طبيعية للكون، وانما فقط نقول الحقائق حول مدى تأثير تلك الاشياء علينا وعلى المخلوقات الاخرى. بالطبع، نوعنا البشري المتميز بالوعي يجعلنا نسجل تلك الحقائق بطريقة خاصة. انه يجعلنا وبشكل خاص واعين بالاختلافات، خاصة الاختلافات الثقافية. انه ايضا يدفعنا للاهتمام بمناقشة الحالات الخلافية، لكنه لا يخلق الحقائق.

لنأتي الآن الى معنى القول ان الكون لا يحتوي "على تصميم او هدف؟". هذا القول يصعب تصديقه لأن من الواضح ان الكائن البشري الذي هو جزء طبيعي من الكون له اهداف. هذه الهدفية ليست سمة خاصة بالإنسان. انها سمة نشترك بها حتى مع الحيوانات. بالطبع، ما نستعمل من تخطيط عالي الوعي هو خاص بنا وغير مشترك لأنه تجسيد لقدرة أدمغتنا المتطورة. لكن الهدفية ذاتها –الكفاح المنهجي المستمر لتحقيق غاية معينة- هي بوضوح ليست خاصة بنا. الانسان حين يحاول الخروج من المأزق التي يمر بها بلاشك يستخدم وسائل مختلفة عن الثعلب او الجرذ، ويفكر في ذلك بطريقة مختلفة. لكن الكفاح ذاته – كتعبير عن الاهتمام، الجهد المتواصل والمكثف الموجّه نحو تلك الغاية - هو بالتأكيد ينطبق على الكل.

الانسان الذي يشاهد الحيوان سوف لن يكون لديه ادنى شك بما يعمل، ولا بعلاقته القريبة من كفاحنا. ونفس الشيء ينطبق على البذور التي تنبت تحت الرصيف حين تأخذ طولا لا يُصدق كونها تنمو حول الرصيف او خلاله، وربما ترفعه من المكان عند الضرورة. وكما لاحظ ارسطو هناك استمرارية واضحة تنطلق من هدفنا الواعي كليا وتتجه مباشرة نحو عالم الحياة. ان تعبير دكنز بـ الجين الاناني كشيء هادف وقوي انما يبيّن استحالة وصف عمل الحياة بدون استعمال مثل هذه اللغة.

الهدف ليس اختياريا

الناس الذين يدّعون ان لا وجود هناك لهدف في العالم الطبيعي يبدو كأنهم يتصورون الهدف كشيء ما متفرد للإنسان – بناء ثقافي اخترعناه، او ميل لوضع خطة للمادة المحايدة العديمة الاتجاه. هذا الادّعاء قُصد منه معالجة الانقسام بين المادة والذهن بالنظر اليهما كلاهما كمادة. مادة من ذلك النوع الميت او كرات البليارد، لا تلك الحزم من الطاقة والامكانية العالية التغيّر التي يتعامل معها الفيزيائيون اليوم.

هذا النوع من المادية السطحية اثار آمالا كبيرة في القرن الماضي ولازال يحتضنه العديد من العلماء. لكنه الان يواجه مصاعب كبيرة حول "مشكلة الوعي" بالاضافة الى مشكلة هذا الموقف اللامعقول تجاه الهدف. مفهوم المادة أصبح محيرا كثيرا كمفهوم الذهن وربما اكثر.

لهذا بدأ بعض الناس يرون ان انقسام الذهن/المادة ربما يتم علاجه افضل بطريقة مختلفة – ربما بالطريقة التي اقترحها سبينوزا، بان لا نسمح لها بالظهور منذ البداية. قد لا يوجد هناك نوعان من الوجود مختلفان جذريا، الذهن والمادة، وانما هناك عالم واحد كبير له خصائص كل من الذهن والمادة، ومن ثم يمكن النظر اليه بشكل صحيح من هاتين الزاويتين بدون تناقض. عندئذ سوف لن يكون غريبا لو ان نزعة واحدة تعمل خلال الكل لكي يكون نوعنا من الهدفية الواعية هو فقط جزء واحد من الهدفية الموجهة للطبيعة.

هذا الحديث هو بالطبع خارج الموضة. لكن الإنكار المتزايد الحالي للهدف خارج الحياة الانسانية هو بالتأكيد لا يعدو أقل من طموح ميتافيزيقي. نحن نشعر امامه باقل دهشة فقط لأننا اعتدنا عليه. مع ذلك، المادية الاستبعادية او الحصرية ليست اكتشافا علميا وانما مذهب فلسفي متطرف، تماما مثل المثالية الاستبعادية. انها ليست اقتصادية فكريا لأن الاقتصاد المفاهيمي لا يعني استخدام أقل عدد ممكن من المصطلحات، وانما إستخدام المصطلح الذي يعمل فقط، وفيه الافكار توضح حقا البيانات في السؤال.

البرهان على حلاوة الاطعمة يحصل عند الأكل. من الصحيح ان مفهوم الهدف لم يُستخدم في الفيزياء ولكن الفيزياء ليس من مهمتها محاولة توضيح الحياة. اذا كان هدفنا هو فهم العالم الذي يتضمن انفسنا والكائنات الاخرى بافكارنا، سنحتاج الى مفاهيم توضح هذا. السلوك الهادف الذي يُعرّف ككفاح لتحقيق الاهداف، ليس مجرد شيء بنيناه نحن كأناس وانما شيء ما عالمي بين الكائنات الارضية. لكي نبتكر في هذا المجال بالتأكيد يتوجب علينا ان نكون كائنات غير مرتبطة بأشكال اخرى للحياة، مخلوقات نستمد قدراتنا من مصدر خارجي. تلك كانت فكرة ديكارت عندما اعتبر الاذهان ارواحا خالصة غير مرتبطة بالأجسام وان الحيوانات اللاانسانية هي مجرد مكائن لاواعية. لكن هذا لا ينسجم مع تفكيرنا اليوم.

الاستفادة القصوى من اذهاننا المتطورة

لذا فان الهدف والقيم كالخير والشر ليست ألوانا تعسفية اصطبغ بها العالم بفعل انانيتنا. هي نمت في ذلك العالم وهي مظهر باطني له – انها خصائص طبيعية ناشئة، واشكال تظهر حالما يصبح سكان العالم معقدين لدرجة تدفعهم للحاجة لها. مثلما لا وجود هناك لخصائص طيران لحين بدء شيء ما بالطيران، ولا وجود لخصائص موسيقية حتى يبدأ شيء ما بإنتاج الموسيقى، كذلك اساليب الحياة هذه لا توجد في عالم ميت. لكن ذلك لا يجعلها اقل واقعية او اقل طبيعية.

الأهداف والقيم هي ايضا خصائص للتطور الذي يصبح باستمرار اكثر تعقيدا عندما تقوم به الكائنات ذاتها. هذه الخصائص لا تستلزم تدّخلا ما ورائيا غامضا. لكي نجد للكون معنى لا يتطلب ان نفك شفرة رسالة اضافية مبهمة مختفية وراءه، وانما ببساطة ان نجد بعض الاستمرارية بين أشكاله وأشكال حياتنا الخاصة وهي استمرارية تكفي لتؤكد ان وجودنا هنا له معنى. المسألة هي ليس ان هذا العالم ينتمي لنا، بل اننا ننتمي له. لا يجب علينا الاعتقاد انه صُمم لفائدتنا، او اننا نستطيع فهمه كليا. نحن نحتاج فقط لنراه كما رُتّب بطريقة تجعل وجودنا هنا مفهوم لنا. وبما اننا حقا جزء من هذا العالم، فهذا ليس مشروعا سخيفا. انه يوضح لماذا نميل طبيعيا للاستجابة لهذا العالم بمزيج من الحذر والثقة والاحترام الذي اثبت ملائمته لأسلافنا عبر دهور طويلة من التجارب الصعبة.

بعض الناس يرى اننا يجب ان نهمل كل هذه الميول الطبيعية لأنها جزء من طبيعتنا الانسانية المتطورة. ولكن طالما نحن اناس ولا نستطيع ان نصبح شيئا آخرا، من الصعب رؤية ما يحققه اهمال نزعتنا الطبيعية. فمثلا، طبيعتنا الانسانية هي ايضا مصدر لإيماننا المدهش بان الناس حولنا هم كائنات واعية، ليسوا روبوتات بلا وعي، لدينا نزعة للشعور الرقيق والتعاوني تجاه بعضهم. طبيعتنا الانسانية المتطورة هي ايضا مصدر لعقيدتنا بان العالم المادي لايزال هناك عندما ندير ظهرنا له، ولعادتنا الغريبة في الوثوق بشهادة الناس الآخرين (بما فيهم شهادة العلماء) مالم يكن هناك بعض السبب الخاص لعدم الوثوق بهذا.

باختصار، ميولنا الطبيعية تزودنا فقط بصندوق ألعاب نمتلكه للحياة وللتفكير الدائم. بالطبع، نحن احيانا نحتاج لرفض الافكار التي تأتي طبيعيا لنا. لكننا لا نرفضها فقط لأنها تأتي من طبيعتنا التطورية. نحن نرفضها لأنها تتصادم مع افكار اخرى تنال دعما أفضل. ونحن دائما نحاول تسوية الافكار المتضادة ذات الاسناد الجيد. في الحقيقة، هذه التسوية هي مهمة مركزية لحياتنا الفكرية لأننا ايضا لدينا حاجة طبيعية لإحداث التكامل في شخصيتنا. نحن لانستطيع تجاوز عملية التسوية هذه عبر رفض افكار معينة فقط لكونها طبيعية.

الحلم بالصوابية وعدم الخطأ

من اللافت ان هذا النوع من الجدال المشكك نال التشجيع خصيصا في الموقف من الدين، كما لو ان الدين هو الجزء الوحيد غير الموثوق به من الامكانية الذهنية للإنسان. فمثلا، دارون شرح في سيرته الشخصية كيف تطورت رؤاه حول الدين، اوضح بانه كان لايزال متأثرا بـ "الصعوبة الشديدة او استحالة تصور هذا الكون الهائل والمثير، بما فيه الانسان... كنتيجة لحظ أعمى او ضرورة. عندما افكر بهذا، انا اشعر مجبر للنظر للسبب الاول في انه يمتلك ذهنا ذكيا بدرجة ما مماثل لذهن الانسان، وانا استحق ان يُطلق علي صفة مؤمن... ولكن لاحقا يبرز الشك، هل يمكن لذهن الانسان، الذي كما أعتقد انا تماما، قد تطور من ذهن بنفس الدرجة المتدنية لذهن أدنى حيوان، ان يوثق به في الوصول لمثل هذا الاستنتاج العظيم؟".

هذه الفكرة المثبطة قادت دارون ليبقى محايدا او لاادريا. لكن هذا الشك بالتأكيد دفعه ليذهب أبعد. هو فقد الثقة بكامل سلسلة التعليل التي وصل بواسطتها لهذا الاستنتاج. في الحقيقة، جميع الافكار بما فيها الفكر العلمي الذي سبّب له الوسواس، كلها تأتي من نفس المصدر التطوري، شكواه حول ذلك المصدر تشير الى ان هناك طريقة من التجلّي تتجاوز مثل هذه العقبات. ماذا يمكن ان يكون ذلك الوحي؟ هذه بالتأكيد رؤية ميتافيزيقية مشتقة من التفكير الافلاطوني الما قبل التطوري، فكرة وجود خط ساخن مباشر للمعرفة متوفر فقط للمخلوقات المتسامية روحيا.

ولكن كما اوضح هو ذاته، ان هذا مجرد حلم. نحن الان نعرف اننا لسنا ماكنة مصممة معرفيا لهدف وانما مخلوقات مركبة اكتسبنا قدراتنا الفكرية على طول الطريق كجزء من قدراتنا العامة في الحياة. هذا لايعني ان اذهاننا فقط مزيج بلا فائدة، تشكلت عشوائيا بمرور الجينات الثقافية. لكن قوة اذهاننا هذه محدودة. انها تجد من الصعب فهم بعض انواع الأسئلة دون اخرى. هي تجد الاسئلة حول الهدف وعلاقتنا بالعالم هي بالذات صعبة. وهناك عدد قليل جدا من الأسئلة في العلوم او في اي مكان اخر يمكن لأذهاننا ان تعطينا الجواب النهائي لها.

اذاً ماذا يجب ان نعمل حول هذه النزعات الطموحة الغريبة لأذهاننا، مثل الميول التيليلوجية (الايمان بالمصمم العظيم) التي لاحظها دارون اعلاه؟ سيمون كونوي، كونه طرح الجواب الاختزالي الانيق علميا حول الهدف العظيم الشائع اليوم، يلاحظ:

"مع ذلك، هناك شكوك مؤذية ربما ناتجة عن بعض اخفاقات الخلايا العصبية، كمية اضافية من الناقل العصبي او اي شيء آخر، لكن الحقيقة تبقى وهي ان الانسان لديه احساس ساحق بالهدف. من الغريب اننا كمخلوقات نرتاح حين نجد أنفسنا ضمن قالب تيليلوجي"(حل الحياة، انسان حتمي في كون وحيد، 2003، ص313).

يقول كونوي نحن نحتاج نسأل لماذا هذا وما اذا كانت فكرة التيلوس هذه فكرة زائدة (ص313). وكما يشير، مثل هذه الاشياء من المألوف حاليا تُوضّح باسلوب من السايكولوجيا التطورية، عبر القول ان العادات الدينية تبهج الناس، تمنحهم ميزة اختيارية عبر منع اليأس. لكن هذه الأجوبة حتى لو كانت دليلا كافيا لذلك، ستبقى بعيدة عن اصابة الهدف. الطريقة التي يخطئون بها ربما تُوضّح بشكل افضل عبر مثال مشابه. افرض ان العلماء يدرسون الحياة ويتساءلون كيف يفسرون ممارسة الموسيقا، التي يجدونها بلا معنى. باتباع العقائد السائدة هم يقررون ان الموسيقا تبهج الناس، وهم يستشهدون ببحث يدعم استنتاجهم. ولكن بأي معنى هم لديهم الأن توضيح كافي للموسيقا؟

المشكلة هي ان تحليلاتهم توفر فقط سياق خارجي او اطار سببي يمكن ان تحدث في داخله الظاهرة المحيرة وليس تحليلا داخليا. انها لاتبييّن ابدا ما تفعله الموسيقا في حياة الناس. اذا كان هؤلاء الباحثون تشجعوا بنجاحهم واستمروا في التحقيق بنشاطات انسانية اخرى محيرة، مثل كرة القدم، هم يُحتمل ان يعطوا نفس التوضيح. وهكذا، كل هذه الفعاليات في الحقيقة لها نفس الوظيفة والتي تعني ان كل واحدة منها يمكن دائما ان تُستبدل بأي فعالية اخرى. هل هناك خطأ هنا؟ نعم. عندما نسأل حول مسألة ومعنى الفعالية مثل الموسيقا، نحن نريد فهم ما الذي يجعلها تستحق الآداء، وما مكانها في الحياة.

هذا السؤال يبرز من الداخل. نحن نستعمل مثال الموسيقا لأن دورها حقا يحير الناس. ليس من السهل توضيح ما تعمله الموسيقا لنا بعبارات واضحة. لكن لا احد يفترض ان الموسيقا لا تعمل اي شيء او انها تافهة ولا نحتاج للتعامل معها باهتمام. المشكلة هي انها مهمة جدا وانها منخرطة في حياتنا لدرجة لا يمكننا بسهولة رؤيتها ككل.

كيف نقارن هذا مع السؤال حول ميلنا الطبيعي نحو التيليلوجي؟ لسوء الحظ، تلك القضية متداخلة في تاريخ الصراع بين العلماء والكنائس. تلك الخلفية انتجت موقفا نظر فيه بعض العلماء للقضية كواحدة من الحروب القبلية – معركة في حربهم الباردة ضد الدين. أي فكرة عن الهدف الكوني او معنى العالم نفسه يثيرهم كخرافة خطرة تشوه العلم، لذا هم يتجنبونها. في كتابه (The Goldilocks Enigma ) يشير بول ديفس الى ان الفيزيائي الكبير ريتشارد فيمان قال ان "التراكم العظيم لفهم الكيفية التي يتصرف بها العالم الفيزيائي يقنع المرء فقط ان هذا السلوك له نوع من اللامعنى ".

ستيفن وينبيرغ يأخذ نفسا عميقا مفجرا هذه العاطفة الى اقصاها، معلناً انه "كلما كان الكون قابلا اكثر للفهم، كلما بدا بلا معنى". وكما يلاحظ ديفس، وينبيرغ كتب هذا التعليق ليس بسبب انه ينكر وجود هدف للكون، وانما لأنه يرى انه له هدف. مع ذلك، الشيء الشاذ هنا هو الاستنتاج بأن وينبيرغ ينطلق من عدم المعنى هذا. الشيء الوحيد الذي يبهجه في هذا المشهد البارد وحيث كل القيم المعيارية ثبت لامعناها، هي حقيقة ان الناس لازالوا يبحثون في الفيزياء الفلكية:

"اذا لم يكن هناك عزاء في ثمار بحثنا، فهناك على الاقل بعض العزاء في البحث ذاته. الرجال والنساء لايريحون انفسهم بحكايا الالهة والعمالقة... هم يبنون تلسكوبات وساتيلايت ومصاعد ويجلسون خلف طاولاتهم لساعات لامتناهية يفسرون معنى البيانات التي يجمعونها... الجهد لفهم الكون هو واحد من الاشياء القليلة التي ترفع حياة الانسان قليلا فوق مستوى الكوميديا، وتعطيه بعض نعمة المأساة".(ستيفن وينبرغ، الدقائق الثلاث الاولى، 1977، ص155)

ولكن اذا كان الكون أوضح سلفا انه بلا معنى، كيف يكون هناك معنى لدراسة عمله؟ ما هذا المعنى الذي يبحث عنه الباحثون؟ لماذا هم يدرسون العلوم. من الواضح، ان وينبيرغ وافق على افتراض جاك موند بان الحقيقة العلمية تبقى باعتبارها المثال الوحيد المتبقي بعد الهيليكوست العام لكل القيم الاخرى، وان العلم لايزال يعطي معنى لكون الصدفة الخالصة. ديفس يشير الى ان هذا لا يعمل: "عمل العلوم يعني اكتشاف ما يجري في الكون -- الكون حول ماذا. اذا لم يكن حول اي شيء فلن يكون هناك سبب لإجراء التحقيق العلمي في المقام الاول.. لذا نحن ربما نقلب قول وينبيرغ ونقول انه كلما بدا الكون بلا معنى، كلما بدا ايضا غير قابل للفهم" The Goldilocks Enigma,2006,p.18)).

هذه هي الصعوبة حول طبيعة الفهم تبرز من داخل العلم نفسه، وليس كنقد له من جانب جماعة دينية معزولة. انها مشكلة أثارها اخيرا الكثير من العلماء المرموقين. العديد منهم، مثل ديفس، قام بهذا بالاشارة الى الصدفة الملاحظة التي لاحظها الفيزيائيون اخيرا في ظروف فيزيائية جيدة للكون ذاته والتي تخلق امكانية وجود حياة ذكية (او اي نوع من الحياة).ان عدم احتمالية ملائمة الكون للحياة بالصدفة هي مذهلة جدا لدرجة تجعل من السخف الحديث عن وجودنا نتيجة الحظ، كما يقول فريمان ديسون. صراحة نحن لسنا مخلوقات غريبة كما اعتقد جاكس مونو، كوننا منعزلين في كون لانستطيع توقع فهمه. وكما يشير دايسون: "انا لا اشعر كغريب في هذا الكون. كلما فحصت هذا الكون كثيرا ودرست تفاصيل هندسته، كلما وجدت المزيد من الدليل على ان الكون لابد ان يكون بمعنى ما قد عرف اننا قادمون". (Disturbing the universe,1979,p.250).

هذا التفكير لايستلزم بالضرورة تبنّي اي موقف ديني معين. انه ببساطة يصرح بان المجال الميتافيزيقي والديني مرة اخرى مفتوح للعلماء لنقاشات جادة. اساسا، انه يشير نحو مجموعة من الفلاسفة مثل سبينوزا، ارسطو، كانط. لكن هناك الكثير من الاتجاهات الاخرى يمكن السير بها في هذا التفكير اكثر. ديفس كونه وصف صدفة الكون التي جعلت الحياة ممكنة وقيّم مختلف التفسيرات يستنتج:

"يبدو لي ان هناك مشروع حقيقي للأشياء – الكون هو "حول" شيء ما. لكني بنفس المقدار لايمكنني القاء كل المشاكل في حضن اله عشوائي، او أهمل كل الافكار الاخرى واصرّح بان الوجود بالنهاية هو اسطورة...انا اعتقد حقا ان الحياة والذهن محفوران بعمق في نسيج الكون، ربما من خلال مبدأ الحياة المعتم" (The Goldilocks Enigma, pp.302-303).

ونفس الشيء في البايولوجي يرى سمون كونوي انتشار الالتقاء التطوري (مختلف المسارات التطورية لنفس الخصائص كالعيون والسيقان والاجنحة) تبيّن مجموعة اخرى من المصادفة مماثلة لتلك المكتشفة في الفيزياء، وهي ايضا يصعب اعتبارها كمجرد صدفة. هو يقول فكرة ان التطور عشوائي ونادي قمار، انما اسيء فهمها كثيرا. الالتقاء التطوري يكشف عن نظام واضح وايضا عن نوع لافت للابداعية:

"لكل هذه الوفرة والنزعة في التطور هناك قيود، الالتقاء هو حتمي، مع ذلك ومن المفارقة ان النتيجة الصافية ليست عودة عقيمة للأفكار البالية، وانما هناك نزعة للتعقيدية المتزايدة. بعض الكوسمولوجيين يرغبون التأمل بان الكون مصمم ليكون وطن الحياة، ويضيف له بعض البايولوجيون "نعم، وليس فقط ذلك وانما نحن نمتلك فكرة ماهرة حول ما كان يُحتمل الحدوث (Life’s solutions, pp.21 and 113). بالتأكيد نأمل انه بدلا من ان يشن العلماء حربهم الباردة يستطيعون في الحقيقة دفع هذا النوع من الحوار قدما.

Purpose, meaning and Darwinism, Philosophy Now, issue71, Jan-Feb2009

...........................
* الآراء الواردة لا تعبر بالضرورة عن رأي شبكة النبأ المعلوماتية

اضف تعليق