q
القضاء على افة سرطان الفساد او الحد من اثاره في العراق وإرساء دعائم لبِناء مُجتمع التنمية البشرية المُستدامة مِن جهةٍ أُخرى يتطلب حتمية إِتباع (ست) استراتيجيات رسمية، وهذه الاستراتيجيات تكمن في تبني (استراتيجية الإِصلاح، واستراتيجية الشفافية، واستراتيجية الحكُم الصالح، واستراتيجية الاَنظمة الإِدارية والمالية والرقابية، والاستراتيجية...

لعل مِن أَكثر المشاكل فتكاً وهدماً للآمال ولمشاريع التقدُم والتطور ليس فقط في البُلدان النامية بل في العالم كلهُ هو الفساد بكافة وجوهه الإِدارية والمالية والسياسية. فالفساد وضع الاقتصاد نحو المزيد مِن التدهور والتأخر في المشاريع التي يُراد مِنها التنمية والتقدُم وإِعادة البِناء. حتى باتت الحرب ضده مِن المسائل التي لم يعد بالإِمكان تأجيلها، ولاسيما في البُلدان الفقيرة أو الطامِحة إِلى تحقيق التنمية وعلى رأَسها العِراق، اذ أصبحت ظاهِرة الفساد تُهدد مُجتمعات كثيرة بالجمود ورُبما بالانهيار. مِما يستدعي دِراسة مُسبباتها وآلياتها التي تُساعد على إِعادة إِنتاج الفساد في كافة مجالات الحياة.

وعلى الرغم من أنَّ العِراق هو ثاني أَكبر مُنتج للنفط في العالم ويتلقى عشرات المليارات من الدولارات سنوياً من بيع الخام، بيد انه في مقدمة الاكثر دولا فسادا في العالم حتى ظل ارتباط الفساد بالعِراق محل اهتِمام المؤَسسات الدولية قبل المحلية والإقليمية. ومِن أَكثر مظاهر الفساد انتِشاراً في العِراق هي الواسطة والمحسوبية والرشوة وسوء استغلال الوظيفة والمنصب والاعتِداء على المال العام وهذه المظاهر لا تقتصر على فئة مُعينة وإِنما تبدأَ مِن كبار موظفي القطاع العام والخاص إِلى صغار الموظفين، وهذا ما يجعل مُكافحة هذه الآفة في غاية الصعوبة وبِحاجة إِلى أُطر منهجية صحيحة وعادِلة بعيداً عن المُحاباة والمحسوبية.

ففي عام2017 حل العراق في المركز (169) بين (180) دولة على مؤشر الفساد الذي تنشره منظمة الشفافية الدولية. ويصنف مؤشر إِدراك الفساد البُلدان والأقاليم على أساس مدى فساد قطاعها العام. وقد بلغ العراق أعلى درجة له في الفساد في عام 2007 بحصوله على الترتيب (178) بينما سجل أَدنى مستوى في عام2003 بترتيب (113).

وتستخدم مُنظمة الشفافية الدولية مقياساً مِن صفر إِلى مائة، ويعني الرقم صفر "شديد الفساد" ومائة "نظيف جدا". وأَدناه عدد النقاط التي سجلها العراق في مؤشر الفساد خِلال السنوات الست الماضية.

مستويات الفساد في العِراق- النزاهة العالمية

إِزاء ذلك باتت "المعركة ضد الفساد في العِراق أَخطر مِن معركة الإِرهاب". هذا ما قاله رئيس الوزراء العِراقي الأَسبق (حيدر العبادي) بعد إِعلان القضاء على داعش في العِراق في نهاية العام2017. فمُكافحة الفساد والقضاء عليه يعزز الثقة بأجهزة الدولة ويُحقق العدالة ويُساهم في الانتعاش الاقتصادي والحفاظ على موارد الخزينة لصرفها في الأَولويات الضرورية للدولة.

فمُكافحة الفساد واجب وطني يُحتم على كُل مُخلص أَنَّ يُساهم في القضاء عليه دون تهاون أَو مُحاباة لأنها مصلحة عامة مُقدمة على أَي مصلحة خاصة ولذلك فإنني اقترح في هذا المجال أَنَّ يكون في كُل دائرة حكومية مكتب تابع لهيئة مُكافحة الفساد تُسهل على المواطنين التبليغ عن أَي شُبهة فساد في تلك الدائرة وتخلق جواً مِن الثقة في مؤَسسات الدولة وتكون دافعا لِكُل موظفي الدولة الابتعاد عن مواطن الفساد وتجنبه ونكون بذلك قد حققنا الهدف والغاية المنشودة في مُحاربة هذه الآفة الضارة المُدمِرة التي تنعكس أثارها على الوطن ككُل.

استراتيجيات مُكافحة الفساد في العِراق

بمنظورنا ان القضاء على افة سرطان الفساد او الحد من اثاره في العراق وإرساء دعائم لبِناء مُجتمع التنمية البشرية المُستدامة مِن جهةٍ أُخرى يتطلب حتمية إِتباع (ست) استراتيجيات رسمية، وهذه الاستراتيجيات تكمن في تبني (استراتيجية الإِصلاح، واستراتيجية الشفافية، واستراتيجية الحكُم الصالح، واستراتيجية الاَنظمة الإِدارية والمالية والرقابية، والاستراتيجية القضائية والقانونية، والاستراتيجية التكنولوجية والمعلوماتية الحديثة)، فضلاً عن المُسألة التي مِن خِلالها يمكن تحقيق أَكبر قدر مِن المُشاركة السياسية، والتمتُع بالحقوق، والتوزيع العادل للفرص والثروة بِما يخدم أَفراد المُجتمع كلهُم. وسيتم تناول تِلك الاستراتيجيات بشيء مِن الإِيجاز تِباعاً.

1. استراتيجية الإِصلاح:

الإِصلاح هو عملية شامِلة تستهدف تغيُرات سياسية واقتصادية واجتماعية، تعمل على زيادة فاعلية سيطرة المُجتمع على مواردهُ وإمكانياتهُ وضبط ظروفه عن طريق زيادة نِطاق المُشاركة الشعبية في تِلك العملية. وفي سياق استراتيجية الإِصلاح دعونا نقول؛ إِنَّ الاستراتيجية الفاعِلة لِمُكافحة الفساد يجب أَنَّ تتضمن العناصر الآتية:

- الإِرادة السياسية للقيادة:

لا يمكن بأَي حالٍ مِن الأَحوال مُكافحة الفساد، دون وجود قيادة رشيدة في القمة، فالقيادات تضع الإجراءات التشريعية وتُنفذ القوانين وتُطالب بأَداء الواجبات بِكُل ثقة دون خوف أَو مُحاباة. وتعمل على فرض العقوبات الصارِمة على المُخالفين للوقاية مِن الفساد.

- إِصلاح القطاع العام:

الدول التي تتميز بانخِفاض مستوى الفساد هي تِلك الدول التي تجري إِصلاح لمؤسساتها العامة مثل اصلاح البرلمان، والسلطة القضائية، وإِصلاح الخدمة المدنية؛ إذ تُبين التجربة أَنَّ أَساس الجدارة والتوظيف وتعزيز شروط الرعاية والعقوبات، يضمن حوافز مُناسِبة ويخلق الاحتراف ويُقلل فرص الفساد. ناهيك عن أَهمية وجود الوكالات المُستقلة المُتخصِصة لِمُكافحة الفساد وهيئات الرقابة التي تعد مكوِنات مُهِمة من الاستراتيجية الوطنية لِمُكافحة الفساد؛ مثل (اتحاد الغرف التجارية، مكتب المُفتش العام، والهيئات الانتخابية المُستقلة وهيئة النزاهة وديوان الرقابة المالية). ويجب أَنَّ تتمتع هذه الهيئات بالمهنية لأداء واجباتها وأَنَّ تكون مُستقلة عن التلاعُب السياسي.

- الإِصلاح القانوني والقضائي:

لا شك إِنَّ التدابير القانونية البحتة وحدها لا يمكن أَنَّ تكون فعالة تماماً في مُكافحة الفساد، بل يجب أَنَّ تُشكل جزءً أَساسياً مِن استراتيجية تتضمن أنظمة قانونية ولوائح تعمل جيداً، وكذلك العملية الإدارية والمؤسسات التي يتم بواسطتها تنفيذها. وهذا يتطلب نِظام قانوني مُستقل، فضلاً عن وجود قضاء فعال ومُساءلة محمية مِن التدخُل السياسي.

- المُجتمع المدني:

إِذ يعد القطاع الخاص وجماعات المصالح والمهنيين وزُعماء الدين مِن اللاعبين الرئيسيين الذي يمكنهُم من بِناء تحالُفات ضد الفساد، كما تلعب وسائل الإِعلام المُستقلة دوراً حيوياً في توعية الجمهور وفضح الفساد وبِناء الدعم لِمُكافحته.

2. استراتيجية الشفافية

تُعد الشفافية واحِدة مِن المُصطلحات الحديثة التي استخدمتها الجهات المُهتمة بِمُكافحة الفساد في العالم للتعبير عن ضرورة الإِفصاح للجمهور واطلاعهم على منهج السياسات العامة، وكيفية إِدارة الدولة مِن القائمين عليها مِن رؤساء دول وحكومات ووزراء وغيرها مِن مفاصل الدولة الأُخرى، بغية الحد مِن السياسات غير المُعلنة، التي تمتاز بالغموض، وعدم مُساهمة الجمهور فيها بشكلٍ واضح.

3. استراتيجية الحكُم الرشيد

إِنَّ مفهوم الحكُم الرشيد يُشير إِلى إِدارة الشؤون العامة بطريقة مُحددة تتصف بالرشادة. ويُشير التعريف إِلى عناصر ومعايير مُحددة للحكُم الرشيد، ومِنها:

- سيادة القانون: أي أَنَّ يكون القانون مرجعية الجميع، سائد ومُطبق على جميع المواطنين دون استثناء. وتتحقق سيادة القانون عبر عِدة عناصر مِنها: احترِام القانون والدستور، ووجود مؤسسات ديمقراطية وطنية تعمل على تطبيق وتعزيز الأسُس السليمة للديمقراطية، والانتخابات الديمقراطية النزيهة، والتداول السلمي للسلطة، وتنظيم الحياة السياسية، والتنافُس الشريف ما بين الأَحزاب السياسية.

- الاستِجابة لمطالب المواطنين: أَي أن تكون أولويات وهموم المواطنين مسموعة وتصل إِلى المسؤولين في مواقع اتخاذ القرار، وأَنَّ يعمل المسؤولون على الاستِجابة لها خِلال وقت زمني مُلائم.

- المساواة: هذا المعيار يعتمد أساس الإِنصاف والمساواة في توزيع موارد الحكومة للمواطنين دون استثناء، أو اعتبارات شخصية، وأَن تكون الحكومة عادِلة ومُنصِفة حين الإِيفاء بالتزاماتها.

- المصلحة العامة: أي تفضيل مصلحة المواطنين والمُجتمع على المصلحة الشخصية لبعض الأفراد، مِن خِلال إِجراءات واضِحة ومُحددة يعتمدها كُل من يعمل في الحكومة.

- المُشاركة: أي ضمان حق جميع المواطنين بإِبداء الرأي، والمُشاركة في صنع القرار، سِواء كان مُباشرة أو عبر مُمثلين مُنتخبين. وتتطلب المُشاركة ضمان للحُرية السياسية، والانتخابية، والتعبير.

- اللامركزية: إِنَّ مفهوم اللامركزية يعني عدم وجود صلاحيات مُطلقة بيد أَي شخص أَو هيئة، بل توزيع الصلاحيات والقدرة على أَتخاذ وتنفيذ القرارات بين السلطات. أَي أَنَّ تكون السلطات الأَساسية الثلاث (التشريعية، التنفيذية، والقضائية) مُنفصِلة في مُمارسة مسؤولياتها، وواجباتها، لأن هذه السلطات الثلاث في النهاية، هي وحدة واحدة تسعى لتحقيق هدف مُعين هو حق الإِنسان.

ومِن معايير الحكُم الرشيد الأُخرى؛ الرشادة في صنع القرار، بِناء التوافق، حسن استغلال المال العام وعدم إِهدارها، والتخطيط السليم والجيد في الإِدارة. وتُعد هذه المعايير كلُها مِن الوسائل المُهِمة للحد مِن الفساد، والرقي التنموي والاقتصادي للمُجتمع. وتُشكلّ قيم النزاهة، ونظُم المُساءلة والمُحاسبة، ومبادئ الشفافية أَساس تحقيق الحكُم الرشيد

4. استراتيجية الاَنظمة الإِدارية والمالية والرقابية

تُعد مِن أَهم استراتيجيات مواجهة الفساد، واختيار العاملين على أَساس النزاهة والكفاءة مِن أَهم فقرات هذه الاستراتيجية لِمُكافحة الفساد الإِداري والمالي، وتقوم على:

- عدم التدخُل السياسي في القرارات الإِدارية والمالية والرقابية.

- تفعيل دور المُساءلة الإِدارية، ودور الأَجهزة المالية والرقابية وتحسين الأَوضاع المعاشية للعاملين.

- تشكيل فرق عمل قادرة على تحليل المهام والانجازات، واختيار العاملين على أَساس النزاهة والكفاءة.

- التشهير بِمن ثبتت إِدانته بشكلٍ نهائي في قضايا الفساد الإِداري والمالي.

- ترسيخ مفاهيم وممارسات الرقابة الذاتية وتوفير شروط النزاهة والأمان.

- التوعية الإِعلامية بأَخطار الفساد الإِداري واضراره.

- طلب بيانات ومعلومات رسمياً مِن الجِهات الحكومية المُختلِفة.

- القيام بزيارات تفتيشية مُفاجئة مِن كبار المسؤولين.

5. الاستراتيجية القضائية والقانونية:

- سُرعة إِجراء التحقيق.

- إِصدار أَحكام صارِمة ضد الفساد ومُرتكبيه.

- تفعيل الرقابة القضائية على المُنظمات.

- التحقُق مِن معرفة مصادر الأَموال لدى المشبوهين، وتوعية الاَفراد بضرورة الإِبلاغ عن المشبوهين.

- مُلاحقة الأَفراد الذين يقومون بتهريب أموالهم للخارج.

6. الاستراتيجية التكنولوجية والمعلوماتية الحديثة:

- استخدام الكاميرات التلفزيونية في الرقابة.

- استخدام البصمة الالكترونية.

- استخدام الأَقمار الصناعية.

- استخدام أَنظِمة الإِنذار.

مِما سبق يبدو؛ إِنه بات مِن المؤكد أَنَّ أَية مُعالجة لموضوع الفساد ومُكافحته في العراق لا بُد أَنَّ تمر عبر ثلاثة محاور رسمية تقع على عاتق المؤسسات التشريعية والتنفيذية والقضائية الأَخذُ بِها:

المحور الأَول: توسيع دائرة الشفافية والإصلاح والحُكم الصالح والمُسالة والمُراقبة، مِما يؤدي إلى توسيع المُشاركة الشعبية السياسية والمُضي في إِشاعة الأساليب الديمقراطية، وضرب مواقع ورموز الفساد الأَساسية ومنعها مِن تشكيل مراكز للقوة.

المحور الثاني: لا بُد مِن تبني نهج الإِصلاح ويتضمن ذلك (مفهوم الإِصلاح أَي إِحداث إِصلاح سياسي واقتصادي واداري وقضائي، وتبني مبدأَ الشفافية والحكُم الصالح)، وإِحداث إِصلاح (اقتصادي وإداري وقضائي) وهذا المحور ضروري لِمُكافحة الفساد ويُساهم هذا المحور أَيضاً في تحقيق التنمية والتقدُم، فضلاً عن التوجه نحو تحسين أوضاع أصحاب الدخل المحدود سيما في المرافق العامة.

المحور الثالث: دعم المؤَسسات غير الرسمية مثل (مُؤسسات المُجتمع المدني، ومُنظمات حقوق الإِنسان، والمُنظمات المُناهِضة للفساد، والمُنظمات الداعِمة لتحقيق الحكُم الصالح) التي تُساعد في عملية مُكافحة الفساد. فالمُجتمع المدني له دور مهم في مُكافحة ظاهِرة الفساد، عبر تشكيلاتهُ التي تُعد أَحد أَشكال تنظيم المُجتمعات، بِما يُحققه التعاون بين الأَفراد أو الجماعات في المجالات الاقتصادية والاجتماعية والثقافية. كما أنَّ مؤسسات المُجتمع المدني قد استخدمت وظيفة الإِعلام والتركيز عليها في مُحاربتها الفساد مِن خِلال تنظيم شبكات للمُراقبة لتلافي الهدر، فضلاً عن الإِعلام الحُر الذي يقوم بنشر الصور والمُلصقات التي تُساعد على تنمية ثقافة مُكافحة الفساد.

ومِما لاشك فيه أَنَّ تضافُر العمل في المحاور الثلاثة وتداخلُها وتشابكُها سيكون له الأَثر الأَكبر في الحد مِن هذه الظاهرة، مع جهوداً تُبذل على صعيد مقاومة "ثقافة الفساد" والتركيز على المؤسسات غير الرسمية التي لها دور كبير في القضاء على الفساد.

** الدكتور مروان سالم العلي، استاذ جامعي في كُلية العلوم السياسية جامِعة الموصل، تخصُص استراتيجية وعلاقات دولية
* مركز المستقبل للدراسات الستراتيجية/2001–2019Ⓒ
http://mcsr.net

اضف تعليق