q
ثقافة وإعلام - أدب

رائحة الأب

إستلقى الطفل على البساط المستطيل الذي غطى جزء صغيرا من ارض الغرفة الواسعة وألقى برأسه في حضن امه وراح يحدق بالصورة الكبيرة المعلقة على الجدار المواجه له، بعد لحظات من استغراقه في الصورة احس بكف رقيقة حانية تتسلل الى شعر رأسه، كانت كف امه دافئة...

إستلقى الطفل على البساط المستطيل الذي غطى جزء صغيرا من ارض الغرفة الواسعة وألقى برأسه في حضن امه وراح يحدق بالصورة الكبيرة المعلقة على الجدار المواجه له، بعد لحظات من استغراقه في الصورة احس بكف رقيقة حانية تتسلل الى شعر رأسه، كانت كف امه دافئة واحيانا يلم بها برد قارس ولكن مع ذلك وهي تمشي بتأن فوق رأس الطفل كانت تشعره بحالة من الصفاء التام لدرجة انه كان يخلو مع الصورة التي تتوهج امام عينيه فيبدأ يتمعن ملامحها ثم يحدثها عن اشياء كثيرة حدثت في السابق، كان الطفل يستغرب صمت الصورة برغم انها علِّقت بهذا المكان منذ اعوام ومع ذلك وفي لحظات الصمت والتركيز كان يراها تتحرك كما لو ان حرارة الحياة قد دبت في اوصالها فجأة، العينان الكبيرتان كانتا تنظران اليه برأفة عميقة وكانتا قويتين لدرجة ان الطفل كان يرى فيهما بريقا وامضا يؤكد ان الموت بعيد عنهما، الشفتان كانتا تبدوان ساكنتين ولكن بعد لحظات تتغيران فيلمح الطفل فيهما ارتعاشا ولونا احمر شفيفا ما يلبث يتكاثف ثم تبدأ الشفتان بالتحرك لتخرج منهما كلمات واضحة سخية حتى ان الطفل كان يكركر فجاة فتضحك امه معه، كانت الشفتان تضحكان وحينها تتغير ملامح الصورة ليبدو الوجه جميلا قويا برغم انه محاصر بإطار مربع صغير من الخشب المزخرف ويبقى الطفل على حالته هذه حتى وقت متأخر من الليل اذ كانت انامل الكف الرقيقة تتباطأ ثم تغفو فوق شعر الرأس، كانت امه بين الحين والآخر تغمض عينيها وتنام ولكنها برغم ذلك لا تبعد رأسه عن حضنها وحين تستلقي على البساط وتضع رأسها على وسادة لينه تحرص على ان يبقى رأس الطفل بين يديها، في هذه الليلة وفي لحظات الصمت التي أطبقت على البيت بدأ الطفل يحدث أباه، سأله لماذا تأخرت يا أبي، أعوام وأنت تطل من خلف زجاجة صغيرة بلا صوت او حركة، لكن الطفل بوغت بالعينين وهما تتحركان وحينها فتح الطفل عينيه على وسعهما وشرع يحدق بالصورة التي بدأت تضحك وتتحدث معه ثم تومئ إليه فحاول الطفل أن ينهض من حضن أمه، كان يود لو ان الصورة تتقدم اليه وتفتح له ذراعيها وتحتضنه انه لا يمكن ان ينسى تلكما الذراعين القويتين اللتين كانتا ترفعانه من الارض وتشدانه الى صدر عريض واسع وحين يلتصق بالصدر يستنشق رائحة مميزة لا يجدها في الاجساد الاخرى في البدء كانت تغزو انفه ثم تتشرب بها رئتاه انه لا يطلب اكثر من هذه الرائحة الزكية ففي اوقات كثيرة مضت كان يركض الى ابيه ليجد ذراعين مشرعتين تتلقفانه وما ان يجد جسمه الناحل ملتصقا بصدر ابيه الواسع يبدأ يشم تلك الرائحة الزكية المميزة والآن تذكر رائحة الاب وتمنى لو يستنشق طيبها مرة اخرى، مرة واحدة وينتهي كل شيء، تخلص من امه برفق نهض واقفا وحملق بالصورة، كانت على مسافة قريبة منه، تأكد انها مازالت تبتسم اليه وتفتح ذراعيها له، افرد الطفل يديه لم يتردد كانت فرصة ربما لا تتكرر مرة اخرى ركض بخطى لاهثة سريعة وحين اصطدم بالجدار كانت الصورة تتعلق فوق رأسه بعيدة عالية صامتة، مد يده اليها حاول ان يمسك بها لكنه لم يصلها تراجع الى الخلف قليلا نظر الى الصورة فلم ير فيها غير الصمت كانت الابتسامة قد انطفات فجأة والروح التي مشت في ملامح الوجه قد تجمدت فعادت الصورة الى ما كانت عليه، شعر الطفل بخيبة كبيرة واستدار الى الخلف ليرى امه تقف خلفه بكامل قامتها، افردت ذراعيها له فركض اليها وتعلق بصدرها وراح يشم فيها رائحة نقية عزيزة لكنها لم تكن تشبه رائحة الاب .

وفي الصباح اشرقت الشمس بأبهى صورة لها ونفذت عبر النافذة الى الغرفة الواسعة فأضفت عليها ضوء محببا الى النفس، كان الطفل قد أتم ارتداء ملابسه وتناول الفطور الذي اعدته الام، حمل حقيبته المدرسية وخطا نحو الباب الخارجي للبيت وقبل ان يخرج ركضت امه وراءه وامسكت به، تذكرت احداث الليلة الماضية، ودت ان تبقيه معها في البيت لكنها لم تفعل، دست رغيف الخبز اللين وبيضة مسلوقة في جيب حقيبته وقالت له ولدي اذا بدأ القصف اترك الصف واختبئ في أي ملجأ قريب، نظر الطفل اليها بدهشة توزعت مساحة وجهه ثم تبسّم لها وغادر البيت.

كان اسفلت الشارع يلتمع تحت اشعة الشمس وعلى جانبيه ترتفع بنايات عالية وفي الطابق الاسفل منها كانت المتاجر والدكاكين قد بدات تفرد ابوابها وثمة اطفال يتقافزون ويركضون الى مدارسهم واجسادهم كثيرة لرجال ونساء كانت تتجه الى اماكن متفرقة وسيارات كبيرة وصغيرة معبأة بالناس كانت تتخاطف فوق اسفلت الشارع وعلى الرصيف الأيمن كان الطفل يخطو هادئا رائقا الى مدرسته لقد نسي وهو في لجة اللغط المتواصل والحركة التي لا تتوقف احداث الليلة الماضية وحين وصل الى المدرسة رأى اجساد التلاميذ الصغار تتدفأ تحت اشعة الشمس في ساحة المدرسة واذ اعلن الجرس عن بدء الحصة الاولى ركض الأطفال الى صفوفهم، كانت مقاعد الصف الخامس قد امتلات بالاجساد الصغيرة سوى مقعد الطفل الذي وصل قبل قليل فقد كان جسده مكورا ملموما في ملجأ ارضي وبعد لحظات غص الملجأ بالاجساد الصغيرة التي بدأت تتكدس فوق بعضها وكان الدويّ في بادئ الامر بعيدا واهنا لكنه مع مرور الوقت أخذ يشتد حتى ان الملجأ كان يهتز مع حدوث الانفجار فتختض معه اجساد الطلاب وترتطم بعضها ببعض، كان القصف يقترب شيئا فشيئا من المدرسة، يتفجر ويتعالى الازيز، اما الطفل فكان يدفع بجسمه الى الاجساد الصغيرة وهي ترتجف، وفي لحظة دوّى انفجار قريب صاخب فتهشمت نوافذ الصفوف وتشظى الزجاج الى قطع صغيرة وبدأت تعلو من فوق المدرسة سويْرة غبار ما لبثت ان تحولت بعد ذلك الى ذيل دخاني بدأ يتصاعد ويتلاشى في الفضاء، وقتها كانت الاجساد تلتف مع بعضها وحين هدأ القصف وخمن المدير انه سكت تماما تركت الاجساد ملاجئها وراحت تنفض عنها الغبار الذي علق بها، دخل الاطفال صفوفهم كالعادة لكن الطفل ظل في ملجئه بجسم قصير مرتعش، تذكر كلمات امه قبل ان يترك البيت ثمة فرحة مفاجئة اخذت تحتوي رأسه الصغير انه مازال حيا سيرجع الى البيت سيرى امه مرة اخرى وقبل ان ينهض غزت انفه رائحة ندية طيبة انها رائحة التراب الندي البارد في داخل الملجأ، انتصبت امام عينيه صورة الاب تمثلها تذكر احداث الليلة الماضية فاستقام في الملجأ ليرى الشمس تنثر ضوءها فوق الاشجار، ترك الملجأ نسي حقيبته في المدرسة ولهث نحو البيت، كان يركض بذراعين مفتوحتين وحين تتعب ذراعيه يسدلهما الى جانبيه لكن سرعان ما كان يرفعهما مرة اخرى كجناحين صغيرين وهو يركض لاهثا نحو البيت.

عند رأس الزقاق توقف الطفل، صفعت عينيه تلك الاجساد الكثيرة التي تكدست وسط الزقاق، تفحَّصَ البيوت واحد اثر اخر، ربما توهم فبيتهم ليس في هذا الزقاق، خطا الى الزقاق الآخر تفحص البيوت التي تتقابل على جانبيه فلم يعثر على بيتهم، عاد الى الزقاق الاول، تنبهت له امرأة مسنة كان يعرفها ركض اليها سألها عن هذا الحشد الذي يتكوم قرب بيتهم، اخذته المرأة العجوز بين يديها، تلفت الطفل قال للعجوز:

- أريد ان اذهب الى البيت .

نشجت العجوز فجأة وشدت على جسمه النحيل، حاول الطفل ان ينهض لكنها تشبت به واعطته قليلا من الماء، لم يشرب لم يكن بحاجة الى الماء، تحدثت معه لكنه ظل صامتا وفي لحظة تملص منها وهرب نحو بيتهم وقف امامه مذهولا صامتا ركض الى الباب المتهاوي على الارض واذ ولج الباب كانت ثمة اجساد طويلة تعتلي الطابوق المتكوم فوق بعضه، تراجع الطفل ربما لم يكن بيتهم لكنه في لحظة لمح الصورة الكبيرة وهي تنظر اليه من خلال الغبار الذي علا زجاجتها، تسمر في مكانه تذكر امه بحث عنها سأل عنها فرأى صورتها تجلس الى جانب ابيه بحلة جديدة بيضاء تحركت العينان الكبيرتان تفتت الاطار الخشبي المزخرف وانفردت ذراعان قويتان ركض الطفل نحو أبيه تعلق بصدره وراح يستنشق رائحة عزيزة مميزة.

اضف تعليق


التعليقات

محمد علي
صديقي العزيز، الاستاذ ابو شكر، انها رائحة اليتم في هذه القصة الشجية والمؤلمة. دمت مبدعاً وبارك الله فيك، مع دعائي بأن يرفع الله هذه الغمة عن هذه الامة وان لا يرى أولادنا كل هذا الضيم والمعاناة والألم اكثر مما حصل.2019-01-02
الكاتب الأديب جمال بركات
مصر
ما العنها هذه الحروب التي تحرم الأحباب من بعضهم
ما أبغض هذه الغارات والمدافع التي تفرق الى الأبد شملهم
ما أقسى هذه الحياة على أمثال هذا الطفل عندما تقتل أحلامهم
أحبائي
دعوة محبة
أدعو سيادتكم الى حسن التعليق وآدابه....واحترام بعضنا البعض
ونشر ثقافة الحب والخير والجمال والتسامح والعطاء بيننا في الأرض
جمال بركات....مركز ثقافة الألفية الثالثة2019-01-02
ضياء السالم
العراق
ما أشد وحشية الحروب.. وما ذنب هذا الطفل الذي يبحث عن أبيه في صورة؟؟؟ هذه الحكاية درس للجميع وخاصة القادة أن يتجنبوا الحروب إلى الأبد ويستبدلونها بالحوار ثم الحوار ثم الحوار2019-01-02