q
القصة الحقيقية لباندورا تناسب النقاشات حول الذكاء الاصطناعي ودراسة الآلات، أكثر بكثير مما يعتقده الكثيرون. إذ ما تُوضحه القصة هو أنه من الأفضل الاستماع إلى البروميثيوسيين الذين يهمهم مستقبل البشرية، على الاستماع إلى الإبيميثيوسيين الذين ينبهرون بسرعة بإمكانية تحقيق أرباح قصيرة الأمد. وسُجِّلت قصة أندورا...
أدريان مايور

 

ستانفورد- خلال الجلسات النقاشية حول تبعات الذكاء الاصطناعي، غالبا ما تُستحضَر الخرافة الخرافة اليونانية القديمة لصندوق باندورا. وفي النسخة الخرافية الحديثة للقصة، تتجسد باندورا في شخصية امرأة شابة فضولية، تفتح جرة محكمة الإغلاق، لتُخرِج منها عن غير قصد بؤسا أبديا نحو البشرية. وعلى غرار العفريت الذي خرج من الزجاجة، والحصان الذي هرب من الإسطبل، والقطار الذي ترك المحطة، أصبحت هذه الخرافة مبتذلة.

إلا أن القصة الحقيقية لباندورا تناسب النقاشات حول الذكاء الاصطناعي ودراسة الآلات، أكثر بكثير مما يعتقده الكثيرون. إذ ما تُوضحه القصة هو أنه من الأفضل الاستماع إلى البروميثيوسيين الذين يهمهم مستقبل البشرية، على الاستماع إلى الإبيميثيوسيين الذين ينبهرون بسرعة بإمكانية تحقيق أرباح قصيرة الأمد.

وسُجِّلت قصة أندورا، أحد أكثر الخرافات اليونانية، لأول مرة أكثر منذ 2500 سنة في عهد هوميروس. وفي الرواية الأصلية، لم تكن باندورا فتاة بريئة استسلمت للإغواء ففتحت الجرة الممنوعة، بل، وكما يخبرنا الشاعر هسيود، "باندورا صُنعت، ولم تولد". وكانت باندورا، التي انتدبها الجبار زيوس، وصممها وفقا لما يريده هيفيستوس، إله الاختراع، تُشبه إنسانا أوتوماتيكيا ينبض بالحياة، وصُممت لتشبه فتاة عذراء جذابة. وكانت مهمتها خداع البشر لتجسيد فكرة كالوس كالكون: "الشر الذي يختبئ وراء الجمال."

ويقصد بإسم باندورا "كل الهدايا"، وتعني أن كل الآلهة شاركوا في تركيبها. وبعد صنعها في كور حدادة هيفيستوس، رافق هيرمز "المرأة" الفاتنة إلى أرض الواقع وقدمها عروسة لإبيميثيوس. وكان مهرها هو الجرة المغلقة المصيرية التي كانت تحوي المزيد من "الهدايا".

وكان إبيميثيوس شقيق بروميثيوس، الجبار المتمرد الذي دافع على الجنس البشري، وخلقه حسب ما يقوله البعض. وكان بروميثيوس قلقا بشأن ضعف البشر الجلي، فعَلَّم الرجال والنساء كيف يستعملون النار وغيرها من الأدوات بمسؤولية. لكن ذلك أغضب زيوس، الجبار العديم الشفقة الذي حرص على انفراده بالتكنولوجيا الرائعة. ولمعاقبة بروميثيوس، قيَّده زيوس بصخرة، وأرسل نسره الذي يشبه طائرة بدون طيار، والذي صاغه هيفيستوس أيضا، ليأكل كبد بروميثيوس.

أما بالنسبة لباندورا، فقد صُممَت عن قصد لتعاقب البشر على قبولهم هدية النار من بروميثيوس. ونظرا لكونها إنسان آلي على شكل امرأة ولها ذكاء اصطناعي، فباندورا لم يكن لها أبوين، ولا ذكريات طفولية ولا عاطفة أيا كان نوعها، ولن تشيخ أو تموت. وقد بُرمجت لتقوم بمهمة واحدة خبيثة: أن تتسلل إلى عالم البشر وتفتح حينئذ الجرة.

لكن ليس هذا فقط ما ترويه القصة. وكما يخبرنا أفلاطون، إسم بروميثيوس يعني "الاستبصار" لأنه كان دائما ينظر إلى المستقبل، على عكس أخيه السعيد، إبيميثيوس، الذي يحمل إسمه معنى "الإدراك المتأخر". ولأنه كان أكثر تعقلا، ولأن جنونه بالعظمة المبرَّر تجاوز جنون أخيه، حاول بروميثيوس أن يحذر أخاه من قبول هدية زيوس الخطيرة. لكن إبيميثيوس فتن بباندورا، وسمح لها بدخول حياته بطيش. ولم يدرك خطأه الفادح إلا لاحقا.

إذا، إن الصورة الشائعة لباندورا وهي تتراجع مذعورة إثر خروج سحابة شر من الجرة اختراع حديث، شأنها في ذلك شأن الصورة المبالغ فيها للأمل وهو يخرج من وعاء ليهدأ أرواح الناس. وفي التصور اليوناني الكلاسيكي، تظهر باندورا على شكل إنسان آلي ماكر: وأكثر الأعمال الخزفية شهرة تظهر امرأة شابة تقف بثبات وتبتسم بمكر.

وفي العصور القديمة، كان الأمل مجسدا في شخصية امرأة شابة اسمها إيلبيس، وعادة ما تدل على قلة الاستبصار. وبدل أن يدل على نعمة، كان الأمل يدل على عدم القدرة على التطلع إلى المستقبل، والاختيار بين النتائج الممكنة. لقد كانت تمثل التفكير التواق، وليس التفاؤل الذي تستدام به الحياة. وبالنسبة لليونانيين، لم تكن إلا تجسيدا آخر لكالوس كاكون: شر بهيئة جميلة أطلق على البشر. إذا على الأقل، جسد فنان ينتمي إلى العصور القديمة الأمل في شخصية إلبيس ذات الابتسامة العريضة المتكلفة، على غرار باندورا.

ومع تعلم أجهزة الذكاء الاصطناعي والآلات الذي يتحول بسرعة إلى "تكنولوجيا الصندوق الأسود"، أصبحت جرة باندورا المقفلة ترمز إلى دلالات أخرى. وقريبا، سيصبح المنطق التشغيلي لأنظمة صنع القرارات المتعلقة بالذكاء الاصطناعي غامضا ليس فقط بالنسبة لمستعمليه بل أيضا بالنسبة لصانعيه. ومن بين المخاطر الأخرى هو أن هناك احتمال كبير من قرصنة أنظمة الذكاء الاصطناعي من طرف أشخاص شريرة أو توظيفها من طرف الإرهابيين أو الطغاة.

وعندما يؤكد مؤسس موقع فيسبوك مارك زوكربيرغ، ومدير مبادرة تكنولوجيا المعلومات الحديثة، أندرو ماكفي، وليلي تشانغ من مايكروسوفت وغيرهم من المتفائلين بخصوص الذكاء الاصطناعي، أن هذا الأخير سيجلبمكاسبا كبيرة، لا يمكن مقاومة التفكير في إيبيميثيوس وإلبيس. هل يتعين علينا حقا وضع ثقنا في البشرية لإصلاح المشاكل التي تنتج عن الذكاء الاصطناعي والتدخل في حلها فور حدوثها؟

يبدو أنه من الحكمة الانتباه إلى المفكرين الجدد البروميثيوسيين، على غرار ستيفان هاوكين، ومؤسس مايكروسوفت بيل غيتس، ورواد التكنولوجيا الـ115 الآخرون الذين تحدثوا في عام 2017 عن الخطر الذي يشكله الذكاء الاصطناعي والروبوتات المسلحة. إذ حذروا قائلين: "ليس لدينا الكثير من الوقت للتدخل" "إذ فور فتح صندوق باندورا هذا، سيكون من الصعب إغلاقه". وفضلا عن ذلك، ردد هذه المخاوف التي عبر عنها البروميثيوسيون مؤسس غوغل بشراكة، سيرجي برين، والإيثيسيستس في ما يتعلق بالذكاء الاصطناعي، على غرار جوانا بريزن، وباتريك لين، اللذان حذرا من القبول المتهور بـ"هدايا" الذكاء الاصطناعي قبل معرفة كيفية التحكم فيها.

وتظهر الاستفتاءات الأخيرة أن نسبة التفاؤل بشأن المكاسب الممكنة للذكاء الاصطناعي انخفضت بشكل كبير وسط من هم بالفعل بصدد تطوير أنظمة الذكاء الاصطناعي. وسيكون إدراك طريقة عمل الذكاء الاصطناعي مرتبطا أكثر بالانتظارات الواقعية. وبدل الأمل الأعمى، ينبغي على الاستبصار المبني على المعرفة والتجربة أن يتحكم في طريقة تدبيرنا لمستقبل هذه التكنولوجيا وعلاقتنا معها.

* أدريان مايور، باحثة في مجال الكلاسيكية والتاريخ وفلسفة العلوم في جامعة ستانفورد، هي زميلة بروجروين 2018-2019 في مركز الدراسات المتقدمة في العلوم السلوكية، ستانفورد. وهي مؤلفة الكتاب القادم "الآلهة والروبوتات: الأسطورة، والآلات، والأحلام القديمة للتكنولوجيا" (نوفمبر 2018).
https://www.project-syndicate.org

...........................
* الآراء الواردة لا تعبر بالضرورة عن رأي شبكة النبأ المعلوماتية

اضف تعليق