q

كانت تضحك وقلبها حائر، ترقص ولكنها لا تعرف إلى أين تقودها قدماها، كانت تحس بالضياع، وتشعر بأنها تعيش حياتها في فراغ قاتل، لا تعرف كيف تملئه.. لقد تغيرت ولكن لا أحد يعرف سر هذا التغيير الذي طرأ على حياتها، سوى عدد من المقربين.

(د.ا) الزوجة الثانية التي وضعت طفلها الأول بعد انتظار طويل، كانت تشم كل ليلة ثيابه لتنام على رائحتها، لم يكترث أهل بيتها لانطوائها، وحالة الصمت الرهيب التي اعترتها بعد وفاة صغيرها، تحدث زوجها الذي رفض ذكر اسمه قائلا: "كنت أعاملها بقسوة وحزم دون مبالاة بمشاعرها…اخبرها وماذا إن مات ستلدين غيره، حملتي به بعد عشر سنوات من زواجنا وستحملين في الثاني بعد عشر سنوات أخرى هذا إن حصلت معجزة لأنك في ذلك الوقت ستكونين تجاوزتِ الأربعين من عمرك".

وتابع "كانت ترمقني بنظرات مبهمة دون أن ترد على كلامي وتدخل حجرتها، لم المح دمعة حزن في عينيها ولم يكن سوى الشرود وكأنها مغيبة".

"في صباح ذلك اليوم بقت فيه في سريرها لوقت متأخر، ذهبت إلى عملي وأخبرت زوجتي الأولى (والتي كانت تقطن معنا في نفس المسكن) أن تدعها تنام، وتأخذ من الراحة كفايتها فهي متعبة منذ الحادث،.. ما زلت اذكر كيف كنت ألومها لفعلتها، حينما غفت عينها وهي ترضع الصغير فأختنق أثناء الرضاعة، ليصبح الصباح وهو مفارق للحياة".

تابع حديثه قائلا: "عدت من العمل بعد الظهيرة، سألت زوجتي عنها فقالت: لم تخرج من حجرتها ولم تدخل لرؤيتها، عاتبتها لذلك ثم طلبت منها أن تحضر لي الغداء ريثما أغير ثيابي وادخل للاطمئنان عليها".

واضاف قائلا "ما إن دلفت إلى الغرفة حتى راعني ما رأيت، لقد تأخرت كثيرا، كانت قد فارقت الحياة منذ المساء بعدما قطعت شريان يدها وبقيت تنزف طوال الليل حتى ما بعد ظهر اليوم التالي"، مستدركا "فليرحمها الله ويغفر لي لربما كنت السبب في موتها، لن اسميه انتحار فهي لم تكن على سجيتها".

اليأس من الحياة!

تسرد هدى وهو اسم مستعار حكايتها متحدثة بصوت هادئ وحزين: "كانت أمي تغدق علينا بحنانها أنا وأخي الذي يصغرني بعامين، كنا نلوذ خلف الباب كل ليلة، نسمع نحيب أمي وهي تتألم من ضرب أبي لها حينما يعود مع الفجر".

وتضيف بالقول "الفجر كان شبه كابوس بالنسبة لنا، كان قلبي يتمزق ألما وأنا أراها تعدو في أرجاء البيت، وأبي خلفها يطاردها كما يطارد الصياد فريسته، وينهال عليها ضربا وركلا, حتى تقع على الأرض متهالكة وهي تئن وتواري نفسها منه وكأنه يجد متعة في ضربها لا اعلم هل إدمانه على الخمر جعله هكذا".

مشيرة الى انه "في ذلك المساء اصطحبتني أمي مع أخي لبيت الجيران، وطلبت منا أن ننام في بيتهم رغم توسلاتي بعدم تركنا في بيت الأغراب إلا إنها لم تستجب حيث كان اغلب المقربين لا يتواصلون معنا بسبب والدي وأفعاله، كنا منبوذين.

وتابعت "في تلك الليلة كان الهدوء قاتم، لم تنم عيني ليلتها حتى اقبل الفجر وكنت أتنصت من النافذة لربما اسمع صراخ أمي الذي اعتاد الجيران على سماعه لكن الغريب إني لم اسمع شيء حتى سمعت دوي انفجار".

واكملت "هرع الجيران مسرعين لإخماد النار التي كانت تتصاعد من مطبخ بيتنا بعدما أشعلت أمي الغاز داخله لتستدرج والدي إلى حتفه وهي معه، انتحرت بعدما يأست من العيش في حياة كريمة كسائر النساء، ولا ادري هل سيغفر الله لها ما فعلته لتنهي معاناتها فقد تسببت بقتل نفسها ونفسا أخرى".

وباء الانتحار

الانتحار هو رمي النفس في مهاوي الردى، اذ بدأت هذه الظاهرة تنتشر بشكل كبير، في جميع انحاء العالم وبأساليب متعددة اما تكون بسلاح ناري، أو بتناول مواد سامة، أو الشنق، أو الرمي من اماكن عالية، او الحرق ومنها حالات انتحار جماعي.

تعددت الأساليب التي تستخدم في إنهاء المرء لحياته دون أن يكترث لحكم الله جل وعلى.

هذا وقد كشفت مواقع الكترونية مؤخرا عن تزايد حالات الانتحار في العراق، حيث أشارت التقارير بحسب ما نشرته صحيفة "القضاء" الالكترونية الى إحصائية رسمية أظهرت عدد حالات الانتحار في البلاد العام الماضي، وأفادت الإحصائية بأن بغداد وكربلاء وذي قار تصدرت بقية المحافظات بعدد المنتحرين من الذكور والإناث، بينما لم تشهد ثلاث محافظات تسجيل أية حالة.

وأكدت الصحيفة انه بحسب الإحصائية فقد سجلت العاصمة بغداد 38 حالة انتحار متصدرة جميع المحافظات، تلتها كربلاء بـ23، ثم ذي قار مسجلةً 22 حالة.

وجاءت المحافظات الأخرى في الإحصائية كالتالي: القادسية 15، بابل 12، صلاح الدين 6، البصرة 3، ميسان 2، بينما سجلت محافظات واسط وكركوك حالة واحد لكل منهما، ولم تسجل النجف وديالى والمثنى أية حالة انتحار خلال عام 2016.

اسباب مجهولة

المحامية كوثر الناصر اوضحت بالقول: اننا "كمجتمع مسلم نعرف جيدا الشرعية وما تنصه من أحكام فقتل النفس من الكبائر وما يحصل ألان هو تزايد الجريمة بأنواعها وليس الانتحار فحسب، وبحكم عملي أجد وقائع هكذا قضايا في تكتم فأحيانا تكون قتل متعمد بصورة انتحار وأخرى انتحار لكن ذويه يدعون بأنه حادث حيث يرفضون البوح بحقيقة الامر ويبقى للقضاء الحكم بهكذا قضايا".

واضافت الناصر: "لقد قرأت مؤخرا الكثير عن حالات الانتحار على مواقع التواصل وقصص اكثرها غريبة، مثلا فتاة منعها والدها في أن تكمل دراستها وقرر تزويجها برجل يكبرها سنا بكثير فشنقت نفسها، وشاب وجد مشنوقا لانه لم يدخل في الامتحانات النهائي، ورجل شنق نفسه بحبل في مروحة بيته بعد ما طالبه صاحب الدار الذي يسكنه بالأيجار، وزوجة أكتشفت خيانة زوجها لها فحرقت نفسها".

وتابعت "تراوحت الطرق لكن يبقى السؤال ما الذي يدفع البعض الى الأنتحار؟ فمعرفة الأسباب من شأنها أن تسهل ولو قليلا من الحد او التقليل من هذه الأعداد الضخمة وعلى الجهات المعنية أللالتفات الى هذه الظاهرة التي بدت تستفحل مؤخرا".

فيما أوضح أخصائي الأمراض النفسية الدكتور عامر الحيدري إن: "الانتحار هو ظاهرة عالمية تنتشر في كل العالم ومن المعروف عالميا إن أكثر حالات الانتحار في البلدان المنخفضة او المتوسطة الدخل وتدخل في ذلك العوامل الاقتصادية والاجتماعية".

وأضاف: إن "الأشخاص الذين يقبلون على هذا العمل المنافي للدين هم مصابين أما بالهستريا أو أمراض الاكتئاب أو الانفصام. وقد قمنا بإجراء بحث لطلاب كلية الطب للحد من هذه الحالات، إلا ان تجاهل الأهل يزيد من تفاقمها".

واوضح انه "لمعالجة هذا الوباء الشرس الذي بدء بتزايد ملحوظ يتوجب على الأهل مراقبة أبنائهم والعكس أيضا وحينما يشعرون بشيء غير مألوف عليهم عدم تجاهله"، لافتا إلى إننا "نعاني من قلة وعي كبيرة بهذا الجانب وبانعدام ثقافة مجتمع".

وتابع قوله: إن "الأهل يعتبرون الحالة النفسية وصمة عا, لهذا يتحفظون على الموضوع بدلا من معالجتها، وهذا ما يقود الشخص المريض نفسيا إلى الانتحار، ولتجنب حالات الانتحار يتوجب على الأهل أن يسارعوا في عرض الحالة ومتابعتها بشكل مستمر والاستجابة للإرشاد النفسي أكثر وعدم الذهاب إلى الروحانيين وما شابه".

بينما تقول والدة الشابة "شيماء" وهو اسم مستعار: إن "غياب العقل والتصرف دون دراية فقط لسد فراغ أو تسلية يقود أحيانا إلى طريق الهاوية"، وواصلت حديثها بالقول: إن "شيماء ابنتي الوحيدة بعد خمسة صبية، كانوا حريصين عليها جدا لما يرون ويسمعون ما يحصل حولهم من الفتيات المراهقات في مثل سنها، كنت أتوجس خوفا من انعزالها في غرفتها لساعات طوال وانشغالها بجهاز الهاتف الذي أثار شك أخيها مما جعله يراقبها حتى عرف إنها على علاقة بأحدهم فعمد على تحطيم الهاتف وضربها ضربا مبرحا واخبرها بأنه يخشى عليها من عواقب ما تفعله".

وتضيف "لم يخطر على بالي مطلقا أن تقودها أفكارها الجنونية إلى الانتحار بتناول مسحوق سام لقتل الحشرات لتغيب عن الوعي لساعات وبعد نقلها إلى المشفى تعرضنا إلى مشاكل مطولة بعدها عادت إلى طبيعتها، لكني ما زلت أخشى أن تعاود فعلتها تلك مرة أخرى".

أما أخصائية علم النفس نور الحسناوي فقالت: إن "الحروب وضعف التفقه في الجانب الديني هو الأساس بكثرة حالات الانتحار في الآونة الأخيرة ولعدة أسباب منها الظروف التي تعصف البلد (الحروب المتكررة) ومن نتائج الحروب انها تخلف ورائها الدمار في كل النواحي وخاصة في النفس البشرية، نتيجة كثرة الأرامل والأيتام وسوء الحالة الأقتصادية والبطالة وخاصة بين فئة الشباب فيشعر الشاب بالاكتئاب والعجز واليأس فتتولد داخله اتجاهات سلبية عن نفسه وتشجعه على الانتحار، كذلك عوامل العزلة او العدوانية تؤدي الى التفكير بالانتحار".

وأضافت الحسناوي: "من العوامل الاجتماعية التي تدفع الإنسان الى الانتحار ضعف الواعز الديني والجهل والجزع وعدم الحد والاستسلام لليأس (اليأس من رحمة الله سبحانه وتعالى) إضافة إلى الأفكار السوداوية والوساوس وكذلك التأثر بوسائل الأعلام أي ما تبثه القنوات الفضائية من مسلسلات وطروحات تحث بشكل مباشر وغير مباشر على الانتحار".

واشارت الى انه ل"لحد من هذه الظاهرة يجب العودة الصادقة إلى الأيمان بالله تعالى وقضائه وقدرته والتمسك بالقيم والمبادئ الإسلامية الصحيحة والتوعية الدينية".

وفي حديث مع مدير الطب العدلي في محافظة كربلاء المقدسة الدكتور عباس حسون ذكر: إن "مشكلة الانتحار شكلت خلال السنوات الأخيرة إحدى أهم التحديات التي أصبحت تواجه المجتمعات".

وأضاف ان "هناك حالات يشتبه بها بان تكون حالات انتحار مثل الشنق او التسمم او اطلاق نار فلا نعلم ان كان المنتحر هو من شنق نفسه، ام ان هناك من قام بتكتيفه وشنقه والمسموم ايضا والمقتول بالرصاص كذلك، نحن فقط نحدد أسباب الوفاة والوقت الزمني، أما إن كان انتحار او جريمة فهذا من اختصاص الجنايات"، وتابع قائلا: "تتراوح حالات الانتحار في سن 13 او14 للمراهقين واغلب النساء تكون حالات انتحارهن بالحرق أما الشباب بالشنق وكبار السن في عمر الأربعين تقريبا بالإطلاق الناري".

اضف تعليق