q
من المحتمل أن يرتفع معدل حالات الإصابات بعدوى كوفيد في دول نصف الكرة الشماليّ، جرّاء ظهور سلالات متحورة جديدة، وتراجع قوة الاستجابات المناعية ضد الفيروس، في الوقت الذي يُتوقع فيه أيضًا عودة فيروسات الإنفلونزا للانتشار، تظهر أدلِّة بشأن تزايد حالات الإصابة بمرض كوفيد-19 خلال فصلي الخريف والشتاء لهذا العام...
بقلم: إيوين كالاواي

تظهر أدلِّة متزايدة أن دول نصف الكرة الشماليّ توشك أن تشهد ارتفاعًا في عدد حالات الإصابة بمرض «كوفيد-19» خلال فصلي الخريف والشتاء لهذا العام. إذ يرى علماء أن ظهور سلالات جديدة قادرة على مراوغة الاستجابات المناعية وتنحدر من سلالة «أوميكرون» Omicron المتحورة من فيروس «سارس-كوف-2»، بالتزامن مع تغيُّر سلوكيات سكَّان العالم وتراجع قوة الاستجابات المناعية ضد الفيروس؛ قد يتسبب في أن تشهد عديد من الدول قريبًا أعدادًا مرتفعة من حالات الإصابة بعدوى «كوفيد-19»، وربما تزايدًا في عدد حالات دخول المستشفيات.

وفي هذا التقرير الإخباري، تتقصى دورية Nature العوامل التي قد تُسهِم في حلول موجة جديدة من «كوفيد-19»، وما يمكن للدول المختلفة القيام به للتخفيف من حدة آثارها، عبر الجيل الجديد من اللقاحات المُستهدفة للسلالة المتحوِّرة «أوميكرون».

هل يُتوقع اندلاع موجة «كوفيد-19» جديدة خلال خريف وشتاء هذا العام؟

في منتصف أغسطس الماضي، وضع مشروع باسم «مركز نمذجة سيناريوهات كوفيد-19» COVID-19 Scenario Modeling Hub عدة سيناريوهات محتملة لمسار الجائحة في الولايات المتحدة خلال الأشهر القادمة. وأشارت نماذج السيناريوهات المحتملة التي أسفر عنها المشروع أنه بعد ارتفاع أعداد الحالات المصابة بسلالة «BA.5» المنحدرة من سلالة «أوميكرون»، والتي نجم عنها ارتفاع مستوى المناعة ضد الفيروس بين سكان البلد، فقد تشهد الولايات المتحدة هدوءًا نسبيًا في موسم انتشار «كوفيد-19»، إن ظلت حملات توزيع الجرعات المُعزِّزة من اللقاحات تبدأ في أسرع وقت، ولم تظهر سلالات جديدة متحورة من الفيروس. وحتى في حال ظهور سلالات جديدة، لم تشر النماذج سالفة الذكر إلى حتمية ارتفاع عدد حالات الإصابة بعدوى الفيروس.

وبالفعل، بعد أكثر من شهر من وضع هذه النماذج، انخفضت نسب حالات دخول المستشفيات، بما يتّسق مع توقعات المشروع، على حد ما أفاد به جاستن لِسلر، الخبير المتخصص في الأمراض المعدية الوبائية من جامعة كارولينا الشمالية في مدينة تشابل هيل الأمريكية، والذي يدير مشروع النمذجة. إلا أن ثمَّة عوامل أخرى قد تتمخض مستقبلًا عن مشكلات. على سبيل المثال، يفيد لِسلر بأن طرح جرعات اللقاحات المُعززة ̍ثنائية المفعول̍ التي تستهدف كلًا من سلالة «سارس-كوف-2» الأصليّة، وسلالة «أوميكرون» المتفرعة عنها "اتسم بالبطء بعض الشيء". كما ظهرت مؤخرًا مؤشرات طفيفة تدل على تحوُّر سلالة «أوميكرون» وإنتاجها جيلًا جديدًا من السلالات القادرة على مراوغة الاستجابات المناعية. حول ذلك، يضيف لسلر: "قد يسفر ذلك عن ارتفاعات ملحوظة في أعداد الحالات، خاصة ونحن نقترب من أشهر الخريف والشتاء". وقد بدأت بعض الولايات الأمريكيّة بالفعل تشهد تزايُدا في أعداد الحالات، كما تشير جينيفر نوزو، اختصاصية علم الوبائيات من جامعة براون بمدينة بروفيدنس بولاية رود آيلاند الأمريكية.

أما في المملكة المتحدة، فقد وثَّق آخر تقريرين تناولا نتائج الاستطلاع الأسبوعي لعدد حالات الإصابات بعدوى «سارس-كوف-2» – وهو مصدر رئيس لبيانات «كوفيد-19» – حدوث زيادة في انتشار «كوفيد-19» في إنجلترا وويلز. وفي عموم بريطانيا ودول أوروبيّة أخرى، أخذ عدد حالات دخول المرضى للمستشفيات بعد ثبوت إصابتهم بفيروس «سارس-كوف-2»، يتزايد، وإن كانت هذه الزيادة قد بدأت من مستويات منخفضة.

وفي خلفية تلك الأحداث، بدأت تظهر على مستوى العالم مجموعة من السلالات المتحوِّرة القادرة على مراوغة الاستجابات المناعية. ويعتقد باحثون أن هذه السلالات المتحوِّرة الجديدة ستعزز حدة موجات الوباء الخريفيّة والشتوية.

هل السلالات المتحورة الجديدة وراء زيادة أعداد الحالات؟

ربما ليست كذلك بعد، بحسب ما أدلى به توم ونسليرز خبير البيولوجيا التطورية من جامعة لوفان الكاثوليكيّة ببلجيكا. ويرجح أن الزيادة الحالية في عدد حالات الإصابة بعدوى «سارس-كوف-2» سببها أساسًا تراجع قوة الاستجابات المناعية التي تولَّدت لدى أغلب السكَّان بفعل اللقاحات، أو بفعل الإصابات السابقة بالعدوى. كذلك فقد تزايد الاختلاط بين السكَّان عنه في الفترات السابقة من الجائحة. ففي العديد من الدول، ومن بينها المملكة المتحدة، توشك الديناميكيات الاجتماعيّة على العودة إلى صورتها ومستوياتها قبل الجائحة، وفقًا لما صرِّح به عدد من مسؤولي الصحة. كذلك من المحتمل أن ثمة دور لعبته بعض العوامل المسببة لازدهار نشاط فيروسات تنفسيّة أخرى في الشهور الأقلّ حرارة ، ومن بينها اختلاط الأفراد لأوقات أطول داخل الأماكن المغلقة.

هل نشهد ظهور فروع جديدة من سلالة «أوميكرون» هذا الخريف؟

قد نشهد ظهور ثلاث سلالات أو أكثر. فرغم أن ثمة انحسارٌ في نسب ظهور السلالات المتحورة الفرعيّة من «أوميكرون» التي سببت عددًا من الموجات السابقة – وهي السلالات «BA.2» و«BA.4» و«BA.5» – ففيروسات الأفرع المنحدرة من هذه السلالات المتحورة تكتسب طفرات يبدو أنها تعزز انتشارها.

وحاليًا، يتتبع مراقبو انتشار فيروس «سارس-كوف-2» مجموعة كبيرة غير مسبوقة من السلالات المتحورة الناشئة عن عددٍ من فروع شجرة عائلة «أوميكرون»، كما يفيد توم بيكوك، عالِم الفيروسات من كلية إمبريال كوليدج لندن. ورغم التمايز بين أصول هذه السلالات المتحورة، إلا أنها تشترك في عدة طفرات في البروتين الشوكيّ لفيروس «سارس-كوف-2» (وهو الجزء الذي يستهدفه الجهاز المناعي من الفيروس). في ذلك الصدد، يقول بيكوك: "لا شك أن ثمة ظروف مثلى يبدو أنها تهيئ لنشاط السلالات المتحورة خلال هذا الموسم".

ويتابع عدد من الباحثين انتشار سلالات فرعية بعينها عن كثب. على سبيل المثال، تتابع المملكة المتحدة وبعض الدول الأوروبيّة الأخرى التنامي السريع الذي شهده انتشار السلالة BQ.1»» (وهي سلالة متفرعة من سلالة «BA.5»، وتحمل عدة اختلافات رئيسية عنها). أما في الهند، فالسلالات الفرعيّة المنحدرة من السلالة «BA.2.75»، والتي تسببت في موجة من العدوى قبل عدة شهور، صارت الآن تنافس جميع السلالات الأخرى في انتشارها، على حد تصريح اختصاصي علم الأحياء الدقيقة راجيش كارياكارتى، الذي يعمل في مدينة بونا الهنديّة، وينسِّق جهود تعيين التسلسل الجينيّ لفيروسات «سارس-كوف-2» بولاية مهاراشترا. وقد لاحظ فريقه البحثيّ أن سلالة فرعية متحورة من «سارس-كوف-2» تسمَّى «BA.2.75.2» كانت الأكثر شيوعًا في العينات التي وقف الفريق على تسلسلها الجينيّ أواخر سبتمبر الماضي، وتلتها في الانتشار سلالةٌ فرعيّة قريبة تطوريًا منها. علاوة على ذلك، فإن فرعًا آخر من سلالة «BA.2» وهو السلالة الفرعية المتحورة «BA.2.3.20» أخذ انتشاره يزداد سريعًا في سنغافورة، كما بدأ يظهر في الدنمارك وأستراليا.

ويقول ونسليرز: "أنا واثق بدرجةٍ ما من أن واحدًا على الأقل من هذه السلالات المتحورة، أو مزيجًا منها، سوف يسبب موجة جديدة من العدوى". ويضيف ونسليرز أنه نظرًا للتشابه الظاهري بين هذه السلالات المتحورة جميعها في سلوكها، "ففي نهاية المطاف، أيُّها ستكون له الغلبة في الانتشار مستقبلًا، ليس مهمًا إلى هذا الحد".

ما السبب وراء تنامي انتشار هذه السلالات المتحورة؟

يتمثل السبب في: "القدرة على مراوغة الاستجابات المناعية". إذ تعرضت جميع السلالات المتحورة التي يتابع الباحثون انتشارها لعدة تغيُّرات متداخلة في جزءٍ من البروتين الشوكيّ يسمَّى نِطاق الارتباط بالمُستقبِل، وهو الجزء الذي تستهدفه الأجسام المضادّة القويّة المانعة للعدوى، أو المُحَيِّدة لها. وهذه القدرة لدى العديد من سلالات الفيروس على اكتساب الطفرة نفسها في البروتين الشوكيّ بشكلٍ مستقل عن بعضها البعض، تشير إلى أن هذه التغيرات تتيح لهذه الفيروسات إحراز مكاسب كبيرة في انتشارها وتوسعها، على حد قول يونلونج ريتشارد كاو، اختصاصي علم المناعة من جامعة بكين في بكين.

وقد نشر كاو وفريقه البحثي في سبتمبر الماضي مسودة بحثيّة1 تناولوا فيها بالدراسة قدرة المجموعة الجديدة من السلالات المتحورة على مراوغة الأجسام المضادة المحيِّدة المتولِّدة عن تلقي اللقاحات أو عن الإصابات المسبقة بسلالات متحورة أقدم. ووجد الفريق أن السلالتين المتحورتين «BQ.1.1» (وهي تنحدر من عائلة السلالة المتحورة «BQ.1» وتحمل تغيُّرًا واحدًا إضافيًا في البروتين الشوكيّ) وBA.2.75.2» » كانتا الأكثر قدرة على مراوغة الاستجابات المناعية بين السلالات المتحورة الجديدة، بل وتمكنتا من مراوغة غالبية الأجسام المضادة المحيِّدة التي تولِّدها الإصابة بعدوى السلالة المتحورة BA.5. وقد احتفظ عقاران يعتمدان على الأجسام المضادة بفاعليتهما ضدّ السلالتين المتحورتين «BA.2 » و«BA.5»، إلا أن دراسة الباحثين تشير إلى احتمالية فقدان هذين العقارين لكثير من هذه الفعاليّة ضد العديد من السلالات الفرعية الجديدة المنحدرة من سلالة «أوميكرون». وتوصَّل فريق بحثيّ آخر2 يعمل معه بيكوك إلى استنتاجات مماثلة بشأن السلالة المتحورة «BA.2.72.2». ويعلِّق كاو على ذلك بقوله: "ما وصلت إليه هذه السلالات المتحورة من قدرة على الإفلات من الاستجابات المناعية ومراوغتها بات مدهشًا".

ما مدى جسامة الموجات المتوقَّعة؟

بناء على تقديرات مبدئيّة، يعتقد ونسليرز أن الموجات الخريفية والشتويّة القادمة ستكون مماثلة في الحجم لموجات السلالة المتحورة «BA.5»، على الأقل فيما يخص عدد حالات الإصابة بالعدوى. بينما يظل من الصعب توقُّع نسب دخول المستشفيات. ويرجِّح باحثون أن تنامي قوة الاستجابات المناعية المكتسبة من اللقاحات والإصابات المسبقة بالعدوى بين المجموعات السكانية سيسهمان في تقليل نسب دخول المستشفيات من جراء الإصابة بالفيروس إلى مستويات أقلّ، مما كانت عليه أثناء موجات «كوفيد-19» السابقة، لكن غير معروف إلى أيّ درجة بالتحديد. ويقول لِسلر: "مع أن الأوضاع حاليًا مختلفة كليًا عما كانت عليه عام 2020 أو عام 2021، إلا أن الارتفاع في أعداد الحالات يظلّ مصحوبًا بارتفاع في نسب الوفيات ونسب دخول المستشفيات".

وحتى موجات «كوفيد-19» الأقل نسبيًا في حدتها، قد تشكِّل ضغطًا على قدرات المستشفيات، التي تواجه تناميًا في عدد الحالات المنتظر علاجها، وأمراضًا أخرى تلقي بعبء ثقيل على كاهل الأنظمة الصحيّة، خلال فصل الشتاء. إذ يُحتمل أن حالات الإصابة بالإنفلونزا – التي لم يُسجل عدد كبير من حالات الإصابة بها خلال شتاء العامين الماضيين – ستعود بشراسة في دول نصف الكرة الشماليّ، لتذكي مخاوف من انتشار "جائحة مزدوجة" من الإنفلونزا و«كوفيد-19» معًا. ووفقًا للِسلر: "حتى في السنوات التي يكثر فيها انتشار الإنفلونزا، تتعرض المستشفيات لضغط كبير".

ماذا عن اللقاحات الجديدة؟

يُتوقع أن توفِّر الجرعات المُعزّزة من اللقاحات، بما فيها تلك ثنائية المفعول، بعض الحماية من الإصابة بعدوى السلالات المتحورة الجديدة. ومع ذلك، يرى عدد من العلماء أن هذه الحماية قد لا تستمر طويلًا، حيث إن بعضًا من اللقاحات ثنائيّة المفعول اعتمد تصميمه على سلالة فرعيّة معيَنة متحورة من سلالة «أوميكرون»، هي السلالة «BA.1 »، التي يقوم عليها تصميم اللقاحات المعتمدة في المملكة المتحدة، والسلالة «BA.5» التي يقوم عليها تصميم اللقاحات في الولايات المتحدة. إلا أن ثمَّة دلائل 3 على أن هذه اللقاحات لا تجيد رصد سلالة «أوميكرون»، وتميل لتحفيز إنتاج أجسام مضادة محيِّدة تُبرع بالدرجة الأولى في اكتشاف الصورة الأولى من فيروس «سارس-كوف-2» التي صُممت على أساسها أولى اللقاحات. ويقول كاو إن هذا قد يجعل توزيع جرعة ثانية من اللقاحات المُعزّزة ضروريًا لتوليد مستويات مرتفعة من الأجسام المضادَّة، التي تستهدف تحييد سلالة «أوميكرون».

ولحسن الحظ، تشير جميع الأدلة المتاحة إلى أن لقاحات «كوفيد-19» الجديدة والقديمة لا تزال ذات فاعلية كبيرة في منع الإصابات الشديدة بالمرض، وهو الهدف الذي تراه نوزو الأهم لبرامج تطوير وتوزيع الجرعات المعزّزة من اللقاحات. وهذا يعني ضرورة تركيز حملات توزيع هذه الجرعات على الفئات الأكثر عرضة للإصابات الشديدة بالمرض، ومن بين هذه الفئات كبار السنّ، والمرضى المصابون بمشكلات صحيّة مزمنة. إذ ستكون هذه الفئات الأكثر استفادة من هذه الحماية المُعزّزة. وتؤكد نوزو على ذلك قائلة: "نحن بحاجة لأن نصب جام تركيزنا على حماية الأفراد من الإصابة الشديدة بالمرض".

اضف تعليق