q
ومهما كان الراتب الحكومي، من درجة وزير فما دون، على الاقل، فانه لا يكفي لجمع ثروة طائلة. واذا ما لاحظنا ان احدهم اصبح ثريا بدرجة تمكنه من ايداع مبالغ طائلة في البنك او شراء عقارات غالية، فيجب ان يثور السؤال: من اين لك هذا؟ ...

قيام مسؤول حكومي، مدني او عسكري، بايداع مبلغ كبير من المال في البنك، او قيامه بشراء منزل بمبلغ كبير، او ما شابه ذلك، لابد ان يثير الانتباه ويسترعي التدقيق في الامر. في الحالات العادية يجمع الانسان ثروته اما من خلال التجارة المشروعة، او من راتبه الحكومي، او من ارث. وحديثي اليوم متعلق فقط بالمسؤول الحكومي الذي استطاع ان يجمع ثروة طائلة اثناء وجوده في المنصب.

ومهما كان الراتب الحكومي، من درجة وزير فما دون، على الاقل، فانه لا يكفي لجمع ثروة طائلة. واذا ما لاحظنا ان احدهم اصبح ثريا بدرجة تمكنه من ايداع مبالغ طائلة في البنك او شراء عقارات غالية، فيجب ان يثور السؤال: من اين لك هذا؟ لان مثل هذا الثراء من الممكن ان يندرج تحت عنوان "الاثراء غير المشروع" وهو احد عناوين الفساد الاداري الذي يتمثل في استغلال المنصب للاثراء غير المشروع.

سبق لي ان توليت مناصب رفيعة في الدولة العراقية بعد سقوط النظام الدكتاتوري عام ٢٠٠٣؛ وعرفت الية صرف المال العام في الدولة؛ وهذا ما يتيح لي القول انه لا يصعب على الشيطان، حيث لا ذمة ولا ضمير، ان يثري بطريق غير مشروع ما دام في منصبه الحكومي. يستطيع هذا الشيطان ان يسرق بطرق تبدو قانونية، وقد ينطلي الامر على الجهات الرقابية وكفى الله المؤمنين شر القتال. في مقابل ذلك، فان الادوات التي وضعتها الدولة للحد من الاثراء غير الشرعي غير كافية لتحقيق ذلك، بما في ذلك الكشف السنوي عن الذمة المالية.

ولهذا يؤسفني ان اقول ان عددا من المسؤولين الحكوميين اثروا بعد توليهم المنصب الحكومي. الله اعلم بعددهم، لكني اتجرأ بالقول ان العدد ليس بالقليل. ولهذا فاننا بحاجة الى مراجعة صارمة لثروات المسؤولين الحكوميين وخاصة اصحاب الدرجات الخاصة (رؤساء الجمهورية ونوابهم ورؤساء الحكومة والوزراء ووكلاء الوزراء والنواب والمحافظون ورؤساء الهيئات المستقلة والمدراء العامون، ومن هم بدرجة هؤلاء) ورؤساء الاحزاب وغيرهم.

وبالمناسبة يجب الانتباه الى دور الشركات الوسيطة (المحلية) في الاثراء غير المشروع لبعض المسؤولين واحتمال تورطها معهم في الفساد المالي الذي نتحدث عنه. وقد تكشف التحقيقات عن علاقة ما بين المسؤول والشركة الوسيطة يتم من خلالها تقاسم الربح الحرام.

لا ازعم ان الفساد الحالي جديد على العراق. فهو موجود منذ ايام الدولة العثمانية يوم كان العراق احدى ولاياتها؛ لكن المؤكد ان الفساد تفاقم بمعدلات عالية في ظل نظام المحاصصة الذي يشكل احد عناصر البيئة الحاضنة للفساد.

ولا يفوتني ان اذكر هنا ان الفساد المالي هو احد افرازات الخلل الحاد في المركب الحضاري للمجتمع العراقي ومنظومة القيم العليا الحافة به. وهذا خلل قديم لم ينشأ من فراغ.

انا اعرف ان دعوات كثيرة صدرت بعنوان مكافحة الفساد والحد منه، كما اعرف ان لجانا كثيرة شكلت لهذا الغرض وكلها لم تسفر عن نتيجة فعلية وملموسة في الحد من الفساد. وهناك اسباب كثيرة لهذا الفشل في مقدمتها ان الادوات المستخدمة في محاربة الفساد، والبشرية منها على وجه الخصوص، جاءت من نفس البيئة السياسية والادارية التي تدور حولها شبهات الفساد. والا فكيف نفهم ان تشكل لجان عليا لمحاربة الفساد من موظفين كبار في الدولة؟ ان الفساد يعشعش في الدرجة الاولى في المؤسسات والدوائر الحكومية ولا يعقل ان يحارب الفساد مسؤولو هذه الدوائر والمؤسسات. ان اية استراتيجية لمحاربة الفساد يجب ان تاخذ بنظرها هذه النقطة، اضافة الى مسألة الخلل الحاد في المركب الحضاري.

............................................................................................
* الآراء الواردة في المقال لا تعبر بالضرورة عن رأي شبكة النبأ المعلوماتية.

اضف تعليق