q
آراء وافكار - مقالات الكتاب

المسلم بين التعاون والتصارع

من هو المسلم؟ (9)

التعاون يعد من أهم المفردات التي تبيّن ماهيّة الإنسان المسلم، حيث ينسلخ هذا الإنسان من أنانيّتهِ ومحوريّتهِ الذاتية، ويدخل في عالم من الجمال، ليس دخولا شكليا فحسب وإنما أيضا دخولا مضمونيا في العمق، بحيث يتماهى في منظومة القيم مع الآخرين، ويتداخل مع المجتمع تداخلا واقعيا سلوكيا شاملا...

(فإذا لم يفعلوا ذلك نزعت منهم البركات، وسلط بعضهم على بعض)

قال الله تعالى في كتابه الكريم: (وَتَعَاوَنُوا عَلَى الْبِرِّ وَالتَّقْوَى وَلَا تَعَاوَنُوا عَلَى الْإِثْمِ وَالْعُدْوَانِ وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ شَدِيدُ الْعِقَابِ) المائدة 2.

في استكشافنا لهوية المسلم، وعلاقة هذا المسلم بالإسلام وبالقيم الإسلامية، لابد أن نفهم ما هي القيم التي أكد عليها الدين الإسلامي، والقيم الأخلاقية الأساسية التي تشكل هوية الأمة الإسلامية وعناصر الانتماء الإسلامي.

من أهم الموضوعات التي يمكن أن نستكشفها في هوية المسلم، هو مفهوم التعاون أو مفهوم التصارع، فالإسلام دين قائم على مفهوم السلم، والتسالم، والتعارف، والتقارب فيما بين البشر، وكلما ازداد البشر تقربا وتفاهما وتعايشا، ازداد تقربا من الإسلام، وهذا هو من المقاصد الجوهرية في الدين الإسلامي.

لذلك يمكن القول أن التعاون يعد من أهم المفردات التي تبيّن ماهيّة الإنسان المسلم، حيث ينسلخ هذا الإنسان من أنانيّتهِ ومحوريّتهِ الذاتية، ويدخل في عالم من الجمال، ليس دخولا شكليا فحسب وإنما أيضا دخولا مضمونيا في العمق، بحيث يتماهى في منظومة القيم مع الآخرين، ويتداخل مع المجتمع تداخلا واقعيا سلوكيا شاملا.

إن التعاون كلمة تأتي بمعنى العون، أي المساعدة، أعانه ساعده، عون له مساعد له، أعانه على شيء، التعاون على وزن تفاعل، يعني التعاون فيما بين طرفين كل واحد منهما يكون عونا للآخر، في بعض النصوص تأتي مفردة التعاون وفي نصوص أخرى تأتي بصيغة أعانَ، وهذه المفردة تعطي نفس المعنى، فأعان تشمل هذا وتشمل ذلك (تشمل الطرفين)، كلاهما تشمله كلمة أعان، فيدخل ذلك في مفهوم يجمع بين الطرفين وهو مفهوم التعاون.

التعاون يعني فلسفة قائمة على التعاضد والمساعدة والتوافق، ويتحقق التعاون في الخير، ويتحقق في الشرّ أيضا، فكل ما ينبته المجتمع هو انتاج لما يتعاون فيه ذلك المجتمع ويسير عليه، فقد يتعاون على البر والتقوى، وقد يتعاون على الإثم والعدوان، وهذا يعني انه أما أن يتعاون على البرّ، وأما يدخل في بوابة العدوان والتصارع، وسوف نتناول هذا الموضوع بالتفصيل لأهميته الكبيرة.

صور التعاون المتعددة

أولا لابد لنا أن نتعاون حتى نستطيع أن نتعارف، لأن الإنسان الذي لا يتعاون مع الآخرين يضع حواجز وسدودا بينه وبينهم، فلا يستطيع أن يتعاون معهم، وهناك مستويات مختلفة في التعاون، فلابد للإنسان أن يبدأ عملية التماهي مع الآخر ومع أخيه المسلم، ومن ثم يتطور التعاون إلى مستويات مختلفة تعتمد على مستوى الحكمة والتعقّل والنضج الذي يمارسه في فهم ثقافة التعاون وتطبيقها.

من خلال فهمنا للآية القرآنية التي ذُكِرت أعلاه، تعد هذه الآية من الآيات المفتاحية في القرآن الكريم، فهي تنطوي على أبعاد اجتماعية ونفسية وفلسفية، وفيها أبعاد فقهية أيضا، فهي من القواعد الفقهية التي يعتمد عليها الفقهاء في استنباط قاعدة شرعية، وهو بحث آخر لا يدخل في بحثنا هذا.

لكن هذه الآية الكريمة تعدّ من القواعد الأساسية التي تدخل في بناء المجتمع، وفي بناء الأحكام الشرعية، تفسير هذه الآية القرآنية يعطينا مجموعة صور حول قضية التعاون.

الصورة الأولى: التعاون على البرّ والخير والتسالم.

ما هو الفرق بين البرّ والخير؟، إن الخير هو مفهوم مطلق فيه كثير من المصاديق، أما البّر فهو من مصاديق الخير، ويعني فعل الخير، ولذلك كلمة البر تأتي مع الإحسان، لأن البرّ هو الإحسان، فعملية البر عملية فعلية، ومصداق عملي تطبيقي للخير، لذلك فإن التعاون هو عمل، وجملة (وتعاونوا على البرّ والتقوى) هو عمل، وليس مجرّد مفهوم نضعه أو نستخدمه في نظرياتنا، بل هو عمل حقيقي يتحقق على أرض الواقع.

الصورة الثانية: التعاون على الإثم والعدوان

الإثم يعني الذنوب والمعاصي الكبيرة التي تأتي من تجمع وتراكم ذنوب صغيرة، وبالنتيجة فإن هذا الذنب الكبير يتلازم مع العدوان، لأن الإنسان الذي يتجاوز حدوده يصبح عنده طغيان، فيخرج عن حدود التسالم والسلم، ويبدأ بالاعتداء على الآخرين، ومن هنا تسمى الخمرة إثما، فحين تتجمع هذه الكبائر والمعاصي عند الإنسان تؤدي به إلى ممارسة العنف والعدوان.

وكما أن عمل الخير قائم على التقوى، فالإنسان الذي يقوم بأعمال الخير يتّجه في طريق التحلي بالتقوى، وكذلك تعطي التقوى بعدا قويا للإنسان في عمل الخير، ولا يمكن للإنسان أن يكون متّقيا ما لم يسرْ في أعمال البرّ والإحسان، كذلك الأمر بالنسبة للإثم، حيث يقود الإثم الإنسان إلى العنف، كما أن ارتكاب الآثام تؤدي بالإنسان إلى العنف والعدوان.

الصورة الثالثة: التعاون على ترك الخير وإن لم يتعاون على الإثم

حيث يوجد ناس يتعاونون على ترك الخير بصورة غير مباشرة، ولا يعملون الخير، ويعيشون في ملذّاتهم وأنانيّتهم، فيتّقون الخير، لكنهم في نفس الوقت لا يتعاونون على الإثم، وسوف نناقش هذه الصورة لاحقا.

الصورة الرابعة: التعاون على ترك الإثم وإنْ لم يتعاون على فعل البرّ.

الصورة الخامسة: عدم التعاون على البرّ بالترك والإهمال واللامبالاة.

وهذه الصورة الخامسة شبيهة بالصورة الثالثة، حيث يدعو للتعاون على البرّ لكنه لا يعمل بذلك، ولذلك يوجد لدينا صورتان يمكن أن نقول عنهما بأنهما جيدتان، وبقية الصور سيئة.

الصورة الجيدة الأولى: التعاون على الخير والبرّ والتسالم.

الصورة الجيدة الثانية: التعاون على ترك الإثم وإنْ لم يتعاونْ على البرّ.

بناء المناعة الذاتية والسلوكية

وهذه الصورة بالنتيجة مقدمة لفعل الخير إذا قصد الإنسان ونوى عمل ذلك، بالنتيجة هذا الأمر سوف يقوده نحو الخير وهذا شيء جيد، فالإنسان أولى ببناء نفسه وبناء مناعته الذاتية والسلوكية فيترك الآثام، وعندما يترك الآثام يتوفق فعلا، في التقوى وفي طريق التعاون على البرّ والإحسان.

الصورة الثانية التعاون على العنف والعدوان واضحة، أما الثالثة التعاون على ترك الخير وإن لم يتعاون على الإثم هذا يقوده بالنتيجة إلى الإثم، فمن لا يحث نفسه على فعل الخير حتى لو ترك الإثم وكانت لديه إرادة لترك الآثام، فإنّ أولاده سوف يقعون في ذلك الإثم، وسيكون هناك فراغ، لا عمل خير ولا عمل إثم، وذلك غير ممكن، لذلك فإن الذي يترك الخير ويترك الإثم سوف يقع في الإثم، لذلك لابد أن يملأ الفراغ بفعل الخيرات والتعاون على البرّ حتى لايسقط في دائرة الآثام.

كذلك بالنسبة للصورة الخامسة عدم التعاون بالترك والإهمال واللامبالاة، فهي أيضا تقود الإنسان إلى الآثام، لأن الحياة هي عملية فعلية وجودية، تحتاج إلى إرادة واختيار وفعل من الإنسان، واللافعل يعني معناه الفعل السيّء، وليس معناه الفعل الجيد، بل أن الإهمال واللامبالاة واللامسؤولية، كلها تقود الإنسان نحو الأفعال السيئة، وهذه قاعدة من القواعد المهمة في فهم الآية القرآنية المذكورة سابقا.

لذا لابد للمسلم أن يفهم هذه الصور، لأنه سوف يقع في هذه الصور، ويبرر لنفسه بأنه ليس له علاقة بالآخرين، ويقول أنا أسير في الطريق الصحيح، وأنا غير معني بالمجتمع وقضاياه، لكنه بالنتيجة سوف يقع في المحذور هو وعائلته.

ترسيخ ثقافة التعاون

التعاون الفطري موجود بشكل طبيعي عند الإنسان، فكل إنسان عادي يقوم بهذا النوع من التعاون، لكن بالنتيجة هناك منحدرات خطيرة وتحديات يواجهها الإنسان في حياته، وهذا يتطلب أن يكون التعاون ثقافة وسلوك دائم موجودة في الإنسان، لذلك تركز الآية الكريمة على التعاون والتقوى، لأن التعاون مرتبط بالتقوى، فيصبح ملَكة عند الإنسان، ويصبح قضية أساسية محورية في نفس الإنسان.

المسلم الجوهري جوهره التعاون، هذا هو المقصود من ذلك، فحين نأتي إلى قضية معينة كما تكلمنا في محور اللامبالاة، فبعضهم لا يبالي لكنه أحيانا يساعد الآخرين، في إحدى المرات تكلمت مع أحد الأشخاص لكي يقوم بتأسيس مؤسسات خيرية، ويساعد من خلالها الشباب لإنقاذهم من البطالة، والفقراء في تكوين منازل لهم، وتزويج الشباب والشابات، فكان يقول أنا أتبرّع بمبلغ من المال ولا يعنيني أكثر من هذا. وهو يظن أنه يبرئ ذمته بالتبرع بمبلغ صغير من المال او يوهم نفسه بذلك.

لكن الإنسان المتعاون في حقيقته يدخل في عمق المجتمع، لأن العمل الخيري ثقافة تجسد معنى وجود المجتمع، هو ليس عملية دخول في الأعمال الخيرية فقط، بل العمل الخيري تجسيد للتماسك مع مستويات المجتمع كافة.

لماذا تزول البركات؟

واذا اردنا تفسير لمعنى التعاون نرجع لقول رسول الله (صلى الله عليه وآله): (لا يزال الناس بخير ما أمروا بالمعروف ونهوا عن المنكر وتعاونوا على البر والتقوى، فإذا لم يفعلوا ذلك نزعت منهم البركات، وسلط بعضهم على بعض، ولم يكن لهم ناصر في الأرض ولا في السماء)، هذا تفسير واضح للآية القرآنية، فإذا لا يتعاون الإنسان على البرّ والتقوى تعاونا استراتيجيا عميقا في المجتمع، فإن البركات تزول، لأنها تأتي للمجموع وليس للفرد فقط.

فالعيش الفردي يؤدي بالنتيجة إلى التفاوت الطبقي، عندما نفتقد للأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، ونفتقد للتعاون على البر والتقوى، سوف يصبح المجتمع فئويا بسبب التفاوت الطبقي، وتتكون طبقات مختلفة متصارعة فيما بينها، أحزاب وكتل وجماعات مختلفة، تتصارع فيما بينها.

بالنتيجة لن يكن لهؤلاء ناصر في الأرض ولا في السماء، لأنهم أناس أنانيون، فعندما يتصارع لكي يصعد جماعته فقط على حساب الآخرين، يتصوّر نفسه أنه سوف يكون منتصرا، كلا لن ينتصر، لأن الله تعالى لا ينصره، بل هو مهزوم أصلا داخل نفسه، فالإنسان المستهتر والمتنازع والمتصارع علينا أن نعرف بأنه خاسر دائما وإن كان في ظاهره رابحا، بل هو خاسر في كل الأحوال.

طريق الذنوب المفتوح

الإنسان المتعاون والمشارك مع المجتمع، هو رابح دائما، لأنه إذا لم يتعاون على البرّ والتقوى، سوف يتعاون على الإثم والعدوان، ويكون طريق الذنوب مفتوحا له، والذنوب والآثام طريق سريع للتدمير، وللعنف والعدوان مهما كانت صغيرة وقليلة، إذا تم الاستهانة بها ولم تتم التوبة، حسب قانون التراكم.

خطر الاستهانة بالذنوب

إن الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر يحتاج إلى حاضنة، وعدم وجود فاعلية مع هذه القاعدة، لأن المجتمع غير متعاون بل متصارع، فإذا كان الناس متصارعين فكيف يقبلون الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، لذلك فإن طريق الذنوب مشكلة خطيرة، بعض الأشخاص يستهينون بالذنوب ولا يتوبون من باب الغاية تبرر الوسيلة، أو من باب سوف أتوب بعد فترة من الزمن، هذا كله لا ينفع، لأن قانون التراكم في هذه الحالة يؤدي إلى حالة يصفها القرآن (بالإثم والعدوان) إلى أن تصبح ظاهرة خطيرة جدا في المجتمع.

هناك أمثلة واضحة في المجتمع يمكن ملاحظتها، ومنها الفساد وكيف انتشر في المجتمع، لأن الفساد هو عبارة عن تراكم الذنوب مثل الرشوة، التي تتراكم في المجتمع لتصل إلى مرحلة تدميرية نهائية خطيرة.

قانون التبادل

الشيء الأساسي في قانون التبادل وقوع الامر على سبيل البدل حتما، أما هذا وأما ذاك كما يستنتج من الآية القرآنية ذلك، أي إذا لم نتعاون في الخير سنتعاون على الشر، والإنسان الذي لا يتعاون على الخير فإن طاقاته وموارده كلّها تذهب نحو الشر، مثل المال الموجود عند الإنسان.

إن المال قدرة كبيرة، فإذا لا يصرف المال في الخير، وان كان قد خبأه او جمده في البنوك وأصبحت محايدة، ولكنه سيصرف في النهاية في الشر والعدوان، لذلك هو مسؤولية كبيرة، والتعاون على ذلك مسؤولية أكبر، في النهاية فإن الطاقات الإنسانية في هذا المنعطف سوف تُصرَف في طريق العدوان، والتعادي والتباغض والاقتتال. (وَالَّذِينَ يَكْنِزُونَ الذَّهَبَ وَالْفِضَّةَ وَلاَ يُنفِقُونَهَا فِي سَبِيلِ اللّهِ فَبَشِّرْهُم بِعَذَابٍ أَلِيمٍ) التوبة 34.

وسائل التواصل وتفجير الصراعات

شبكات التواصل هي تعبير وإفراز عن الواقع الذي نعيشه، ولكنه تعبير متضخم، فالإنسان في بعض الأحيان ليس له القدرة على أن يعبر عن شيء إلا بوجود أداة قوية تعبّر عنه، لذلك فمواقع التواصل هي تعبير قوي عن كل الثقافة التي نعيشها، والأخلاق والسلوكيات الموجودة لدينا، وفي أحيان كثيرة فإن شبكات التواصل تعبّر عن ذلك الخزين من العدوان والصراع الموجود في داخل الإنسان، تتحول إلى طاقة سلبية هائلة من التسقيط والتهم والغيبة والنميمة. لذا هي تعبير هائل عن ذلك المخزون السيّئ في قلب البعض من الناس.

في حين يمكن للإنسان أن يستفيد من هذه الوسائل لإدارة عمل الخير، ومساعدة الفقراء، وقيادة الحملات الجيدة، ومنها تشجيع الرأي العام على التشجير في مواجهة التصحر، أو في مناصرة قضايا الحرية وحقوق الإنسان، كل هذه الأمور جيدة، ولكن التعاون كما ذكرنا في البداية يحتاج إلى نقطة أساسية، لكي يكون منتجا وله مخرجات صحيحة، مدخلات التعاون هو مفهوم التقوى، لأن التقوى تضبط الإنسان، وتُسهم في عملية صياغة الإنسان وبلورته وكبح نوازع الأنانية في نفسه.

التقوى تطرد الأمراض النفسية

التقوى تقلع الأمراض النفسية والأخلاقية من ذات الانسان، مثل التمحور على الذات، والطمع، والحرص، والحسد، بحيث تجعل من الإنسان قابلا ومطواعا للتعاون، ومتفهما له، لذلك فإن التقوى هي جوهر التعاون، (وَمَن يَتَّقِ اللَّهَ يَجْعَل لَّهُ مَخْرَجًا، وَيَرْزُقْهُ مِنْ حَيْثُ لَا يَحْتَسِبُ) الطلاق 2-3.

ان أكبر خطر نواجهه هو الصراعات الموجودة على مستوى العالم، وعدم التعاون لمواجهة وحل التحديات والمخاطر الكبيرة والكوارث الهائلة، لأن كل واحد يفكر في نفسه فقط.

وعدم التعاون بين الدول في مواجهة المشكلات هو سبب ما يحدث في العالم، لأن كل إنسان يفكر في مصالحه الخاصة، ومن يسيء الظن في الآخر يكون غير مستعد للتنازل عن مطالبه، لأن نرجسيته الذاتية قوية جدا، ويتصوّر أنه إذا تنازل سوف يسقط، لذلك فإن التعاون هو المدخل الأساسي لحل المشكلات بأنواعها، سواء المشكلات العائلية أو الاجتماعية، أو المشكلات الموجودة في الدولة أو حتى مشكلات العالم.

المشترك الموجود في داخل العائلة قوي جدا، لكن لماذا لا يكون هناك انسجام وإجماع في داخل الأسرة؟ السبب لأن لكل فرد منهم مدخل فيه أنانية، فلا يخاف الله ولا يخشى العواقب، ولا يخاف مما يأتي، فالأنانية تعمي الإنسان، وتُسْكِر الإنسان وتجعله غافلا، بالنتيجة عندما يكون الإنسان غافلا وسكرانا في غمرة الحياة، وغائصا في سكرة العصبية والعناد والتوتر، وحب الذات والتكبر والتجبّر، فإنه بالنتيجة سيقع في كل هذه المحاذير والصراعات، لاسيما إذا كان يرتكب الذنوب ولا يخشى ذلك.

التقوى منهج لبناء النفس

فكما لاحظنا في الآية القرآنية أن الإنسان المتقي لا يرتكب الذنوب، بل ينزع عن نفسه تلك الأنانية والفردية التي تجعل منه طاغية أمام الآخرين، لذلك ومن يتقي الله يجعل له مخرجا، أي يكون ناجيا من تلك الأزمات والمشكلات.

التقوى هي التي تقود إلى التعاون، لأنها تستخرج كل جوانب الخير والعطاء والتفاعل والتضحية في الإنسان، وتحتوي كل النوازع الذاتية والفردية في إطار جمعي، وتستجمع الطاقات في قنوات وحواضن جيدة حتى تكون مخرجاتها صحيحة، لذلك فإن التقوى هي جوهر التعاون، وجوهر الإنسان المسلم.

يتصور البعض أن التقوى خاصة بالناس الذين ينشغلون بالعبادة فقط، بينما التقوى هي منهج لبناء النفس، وترويض للذات، وبناء الجهاز المناعي النفسي والجسدي، معظم الناس حاليا يأخذون (فيتامينات) ومكملات غذائية، لكي يقوى الجهاز المناعي في الجسم، فلماذا لا يأخذون الفيتامينات التي تقوّي الجهاز الروحي والمعنوي؟

التقوى هو الجهاز المناعي في الإنسان الذي يحميه من السقوط، وفعلا الجهاز المناعي النفسي والروحي هو الذي يجعل الجهاز المناعي الجسمي أقوى، وهو الذي يطور الصحة في الجهاز الجسمي، والتقوى أمر بسيط وليس صعبا، فقط على الإنسان أن يتعوّد اجتناب الذنوب، فالتقوى هي أن يتعلم حالة اجتناب الذنوب حتى تصبح له عادة متكرّسة في داخله، أو كما سميّناها سابقا ملَكَة ثابتة، هذه عملية مهمة في بناء التعاون من خلال التقوى.

تفكيك التعاون بالاستبداد

هناك مشكلتان في عدم تطور مبدأ التعاون في مجتمعاتنا، إن الإنسان يبتعد عن المفاهيم الأصيلة والأساسية بسبب الجهل مثل التعاون والتقوى، وهذه المفاهيم تستدعي معرفةً وفهمًا وحكمةً، لأنها عملية بناء ثقافي وتربوي، الإنسان بطبيعته يستعجل في حياته، ويذهب نحو مصالحه الخاصة كالأكل والشرب وشؤون الحياة الأخرى، بالأخص عندما تحكم الأنظمة الفاسدة تلك المجتمعات فتؤدي إلى فسادها.

هذه الأنظمة الفاسدة تقمع نوازع الخير فتظهر نوازع الشر، علما أن أهم هدف للنظام المستبد هو أن يتفكك المجتمع، فلا يكون المجتمع متعاونا فيما بينه، لأن التعاون يشكلا خطرا على وجود النظام المستبد، لكننا اليوم نعيش في عالم منفتح، فلابد أن نبحث عن الأنظمة والمناهج الصحيحة في حياتنا، حتى نتعلم ونمضي في بناء الحياة الصالحة لأبنائنا، عبر فهم منهجي لقيم التقدم خصوصا التعاون.

الابتعاد عن المفاهيم المغلوطة

في السابق لم يكن عند الناس طرق كثيرة لتربية أولادهم، لكنهم اليوم من خلال الاطلاع والقراءة والاتصال بنظام المعلومات العالمي، سمح للناس بالاطلاع على الكثير من المناهج الموجودة، فلابد للإنسان أن يختار المفاهيم الصحيحة لأولاده، ويبتعد عن المفاهيم المغلوطة التي تعزز الأنانية، والمحورية في نفس الإنسان.

لابد للأب والأم والأسرة والحاضنات الاجتماعية بمختلف أشكالها ومسمياتها أن تتحرك لبناء هذه المفاهيم وهي التعاون والتقوى، لأنهما يشكلان المدخل الصحيح لبناء الانسان السالم والمجتمع المتسالم، وتحقيق الأمن الاجتماعي والأمن الثقافي، وتخليص المجتمع من النزاعات والصراعات، لأن النزاعات والصراعات الآن كامنة في عمق المجتمع، بسبب توارث الأعراف الخاطئة والتمسك بالعادات الخاطئة، مع قضية الاستهانة بارتكاب الذنوب أيضا، سواء كانت ذنوبا صغيرة أو كبيرة، هذه كلها تؤدي إلى عدم قدرة الإنسان بالوصول إلى مفاهيم جيدة في حياته، كالتعاون.

الارتقاء بالمشاركة

إن ثقافة التعاون ترتقي بالإنسان ارتقاءً هائلا، وتُحدِث شعورا عاليا في داخله، ويجد لذة عظيمة في المشاركة والتشارك مع الآخرين، لكن للأسف الشديد أننا نلاحظ بعض الناس يفكر في مشروعه الخاص، ولا يقبل بأن يتعاون مع الآخرين في بناء المشاريع المشتركة، فيتصور أنه بذلك يحقق المجد الذاتي لنفسه، فيقول عنه الناس بأنه صاحب المشروع الفلاني.

لكن هذا الأمر خاطئ لأن المشروع الحقيقي هو الذي يقوم على التعاون، لأنه ليس مشروعا ماديا فحسب، وإنما هو مشروع لبناء الإنسان، في ثقافة العطاء والتضحية التي لا تنحصر في المال فقط، وإنما بإعطاء الذات في مشروع يشمل المجتمع بثقافته التعاونية.

ومن أفضل الطرق لبناء التعاون عند الإنسان، أن يسلم أمره لله سبحانه وتعالى، فيخرج من نفسه، وإذا خرج من نفسه ودخل في المنظومة الإلهية يصبح متعاونا مع الجميع.

والبحث في التعاون له تتمة حول فلسفة التعاون...

* سلسلة حوارات تبث على قناة المرجعية تحت عنوان (جواهر الأفكار)

اضف تعليق