q
الفريق الذي اعتبر التضخم مؤقتا خسر لصالح الفريق الذي اعتبره مستمرا. بالإضافة إلى السياسات النقدية والمالية والائتمانية المفرطة التساهل، تسببت صدمات العرض السلبية في دفع نمو الأسعار إلى الارتفاع بشدة. وأفضت عمليات الإغلاق المرتبطة بجائحة كورونا 2019 إلى نشوء اختناقات العرض، بما في ذلك المعروض من العمالة...
بقلم: نورييل روبيني

نيويورك ــ طوال عام كامل الآن، كنت أزعم أن الزيادة في التضخم ستكون مستمرة، وأن الأسباب التي أدت إليها ليست فقط سياسات رديئة، بل وتشمل أيضا صدمات العرض السلبية، وأن محاولة البنوك المركزية مكافحة هذه الزيادة ستؤدي إلى هبوط اقتصادي عنيف. كما حذرت من أن الركود، عندما يأتي، سيكون حادا وطويل الأمد، مع ضائقة مالية وأزمات ديون واسعة الانتشار. على الرغم من حديثهم المتشدد، ربما يضطر القائمون على البنوك المركزية، الذين وقعوا في فخ الديون، إلى التراجع والاستقرار على معدل تضخم أعلى من المستوى المستهدف. وأي محفظة من الأسهم العالية المخاطر وسندات الدخل الثابت الأقل خطورة ستخسر الأموال على السندات، بسب ارتفاع التضخم وتوقعات التضخم.

ولكن كيف تراكمت هذه التوقعات؟ أولا، من الواضح أن الفريق الذي اعتبر التضخم "مؤقتا" خسر لصالح الفريق الذي اعتبره "مستمرا". بالإضافة إلى السياسات النقدية والمالية والائتمانية المفرطة التساهل، تسببت صدمات العرض السلبية في دفع نمو الأسعار إلى الارتفاع بشدة. وأفضت عمليات الإغلاق المرتبطة بجائحة مرض فيروس كورونا 2019 (كوفيد-19) إلى نشوء اختناقات العرض، بما في ذلك المعروض من العمالة. وعملت سياسة "خفض إصابات كوفيد-19 إلى الصِـفر" في الصين على خلق المزيد من المشاكل لسلاسل التوريد العالمية. ثم أرسل غزو روسيا لأوكرانيا موجات الصدمة عبر أسواق الطاقة وغيرها من أسواق السلع الأساسية. وتسبب نظام العقوبات الأوسع نطاقا ــ وخاصة استخدام الدولار الأميركي وغيره من العملات كسلاح ــ في زيادة تفكك الاقتصاد العالمي، حيث عمل مبدأ "دعم الأصدقاء" والقيود المفروضة على التجارة والهجرة على تسريع الاتجاه نحو إزالة العولمة.

الآن، يدرك الجميع أن صدمات العرض السلبية المستمرة هذه ساهمت في ارتفاع التضخم، وبدأت البنوك المركزية، مثل البنك المركزي الأوروبي وبنك إنجلترا وبنك الاحتياطي الفيدرالي الأميركي، تعترف بأن الهبوط الناعم سيكون صعبا للغاية. والآن يتحدث رئيس الاحتياطي الفيدرالي جيروم باول عن "هبوط شبه ناعم" مع "بعض الآلام" على الأقل. من ناحية أخرى، أصبح سيناريو الهبوط العنيف موضع إجماع بين محللي السوق وخبراء الاقتصاد والمستثمرين.

إن تحقيق الهبوط الناعم في ظل ظروف صدمات العرض السلبية المصحوبة بالركود التضخمي أصعب كثيرا من تحقيقه عندما يكون الاقتصاد محموما بسبب الطلب المفرط. منذ الحرب العالمية الثانية، لم نشهد أي حالة نجح فيها الاحتياطي الفيدرالي في تحقيق الهبوط الناعم في ظل تضخم أعلى من 5% (وهو حاليا أعلى من 8%) ومعدل بطالة أقل من 5% (وهو الآن 3.7%). وإذا كان الهبوط العنيف هو خط الأساس في الولايات المتحدة، فمن الأرجح أن تكون هذه هي الحال في أوروبا، نظرا لصدمة الطاقة الروسية، والتباطؤ في الصين، وتخلف البنك المركزي الأوروبي لمسافة أبعد عن المنحنى مقارنة بالاحتياطي الفيدرالي.

هل نحن في حالة ركود بالفعل؟ ليس بعد، لكن الولايات المتحدة سجلت نموا سلبيا في النصف الأول من العام، وتشير معظم المؤشرات التي تستشرف مستقبل النشاط الاقتصادي في الاقتصادات المتقدمة إلى تباطؤ حاد سيزداد سوءا مع إحكام السياسة النقدية. ويجب اعتبار الهبوط الحاد بحلول نهاية العام السيناريو الأساسي.

بينما يوافق محللون آخرون كثيرون الآن على هذا، يبدو أنهم يعتقدون أن الركود القادم سيكون قصير الأجل وسطحيا، في حين أنني حذرت من هذا التفاؤل النسبي، مؤكدا على خطر اندلاع أزمة ديون تضخمية ركودية حادة ومطولة. والآن تسببت الضائقة الأخيرة في الأسواق المالية ــ بما في ذلك أسواق السندات والائتمان ــ في تعزيز وجهة نظري التي ترى أن الجهود التي تبذلها البنوك المركزية لإعادة التضخم إلى الانخفاض باتجاه المستوى المستهدف من شأنها أن تؤدي إلى انهيار اقتصادي ومالي.

دأبت لفترة طويلة أيضا على الزعم بأن البنوك المركزية، بصرف النظر عن حديثها الخشن، ستستشعر ضغوطا هائلة لإلغاء تدابير إحكام سياساتها بمجرد تحقق سيناريو الهبوط الاقتصادي العنيف والانهيار المالي. الواقع أن العلامات المبكرة التي تشير إلى التراجع بات من الممكن تمييزها الآن بالفعل في المملكة المتحدة. ففي مواجهة استجابة السوق للتحفيز المالي المتهور من جانب الحكومة الجديدة، أطلق بنك إنجلترا برنامج طارئ للتيسير الكمي لشراء سندات الحكومة (التي ارتفعت عوائدها بشكل كبير).

تخضع السياسة النقدية على نحو متزايد للسيطرة المالية. وأذكر هنا أن تحولا مماثلا حدث في الربع الأول من عام 2019، عندما أوقف الاحتياطي الفيدرالي برنامج الإحكام الكمي وبدأ ملاحقة خليط من التيسير الكمي وخفض أسعار الفائدة الرسمية في الخلفية ــ بعد الإشارة سابقا إلى استمرار زيادة أسعار الفائدة والتيسير الكمي ــ عند أول علامة دلت على نشوء ضغوط مالية معتدلة وتباطؤ النمو. سوف تتحدث البنوك المركزية بحزم؛ لكن الأمر لا يخلو من سبب وجيه للشك في استعدادها لفعل "كل ما يلزم" لإعادة التضخم إلى المعدل المستهدف في عالَـم يتسم بالديون المفرطة في ظل مخاطر انهيار اقتصادي ومالي.

علاوة على ذلك، تتكاثر علامات مبكرة تشير إلى أن الاعتدال العظيم تنحى ليفسح المجال للركود التضخمي العظيم، والذي سيتسم بعدم الاستقرار وتلاقي صدمات العرض السلبية البطيئة الحركة. بالإضافة إلى الارتباكات المذكورة أعلاه، من الممكن أن تشمل هذه الصدمات الشيخوخة المجتمعية في العديد من الاقتصادات الرئيسية (وهي مشكلة تفاقمت بفعل القيود المفروضة على الهجرة)؛ والانفصال الصيني الأميركي؛ و"الكساد الجيوسياسي" وانهيار التعددية؛ والمتحورات الجديدة من كوفيد-19 والفاشيات المرضية الجديدة، مثل جدري القرود؛ والعواقب المتزايدة التدمير المترتبة على تغير المناخ؛ والحرب السيبرانية؛ والسياسات المالية لتعزيز الأجور وقوة العمال.

تُـرى أين يترك هذا المحفظة التقليدية 60/40؟ في السابق كنت أزعم أن علاقة الارتباط السلبية بين أسعار السندات والأسهم ستنهار مع ارتفاع التضخم، وهذا ما حدث بالفعل. خلال الفترة من يناير/كانون الثاني، ويونيو/حزيران من هذا العام، هبطت مؤشرات الأسهم الأميركية (والعالمية) بأكثر من 20% في حين ارتفعت العائدات على السندات الطويلة الأجل من 1.5% إلى 3.5%، مما أدى إلى خسائر فادحة في كل من الأسهم والسندات (علاقة ارتباط إيجابية بين الأسعار).

علاوة على ذلك، انخفضت عائدات السندات أثناء ارتفاع السوق خلال الفترة من يوليو/تموز ومنتصف أغسطس/آب (وهو ما تنبأت بشكل صحيح بأنه سيكون ارتدادا زائفا)، مما حافظ بالتالي على علاقة الارتباط الإيجابية بين الأسعار؛ ومنذ منتصف أغسطس/آب، واصلت الأسهم هبوطها الحاد في حين ازدادت عائدات السندات ارتفاعا. ولأن التضخم الأعلى أدى إلى سياسة نقدية أشد إحكاما، فقد نشأت سوق هابطة متوازنة لكل من الأسهم والسندات.

لكن الأسهم الأميركية والعالمية لم يكتمل تسعيرها حتى في ظل هبوط عنيف معتدل وقصير الأمد. تنخفض أسعار الأسهم بنحو 30% في الركود المعتدل، ونحو 40% أو أكثر في ظل أزمة الديون التضخمية الركودية التي توقعتها للاقتصاد العالمي. والآن تتصاعد علامات الإجهاد في أسواق الديون: إذ تواصل الفوارق السيادية وأسعار السندات الطويلة الأجل الارتفاع، كما تتزايد بشكل حاد هوامش العائد المرتفع؛ وتغلق أسواق التزامات القروض المضمونة أبوابها؛ وتنزلق الشركات المثقلة بالديون، وبنوك الظل، والأسر، والحكومات، والبلدان إلى ضائقة الديون. إن الأزمة حاضرة بيننا بالفعل.

* نورييل روبيني، أستاذ فخري للاقتصاد في كلية ستيرن للأعمال بجامعة نيويورك، وهو كبير الاقتصاديين في فريق أطلس كابيتال ومؤلف كتاب "التهديدات الضخمة: عشرة اتجاهات خطرة تهدد مستقبلنا، وكيفية النجاة منها"
https://www.project-syndicate.org

اضف تعليق