q
هناك ظاهرة يطلق عليها اسم الاستدلال المدفوع، والتي تعني أننا ننحي جانبا الفكر المتوازن في القضايا التي تمسنا شخصيا وتمس هوياتنا، وبالتالي لا نقيم الأدلة تقييما موضوعيا. وكلما زاد ذكاء المرء أو اتسعت معرفته كان من السهل عليه تقديم الحجج التي تدعم وجهة نظره...
ديفيد روبسون-صحفي

هل ستخرج بريطانيا من الاتحاد الأوروبي في عام 2019؟ وهل يُقدم مجلس النواب الأمريكي على عزل الرئيس دونالد ترامب هذا العام؟ وهل يفوز رجل أم امرأة بترشيح الحزب الديمقراطي لخوض الانتخابات الأمريكية المقبلة؟

لا تعتمد الإجابة على تلك الأسئلة على ذكاء المرء أو تعليمه فحسب. ففي مسابقة للتنبؤ بما سيحدث خلال الأربع سنوات المقبلة بعنوان "مشروع الحكم الرشيد"، اختبرت قدرات آلاف الأشخاص على توقع أحداث عالمية في المستقبل.

ورغم أن من حصلوا على المراكز الأولى في هذه المسابقة كانوا من ذوي التعليم الجيد، فإن أداءهم لم يعتمد على ما تلقوه من تعليم فحسب، بل على العديد من أساليب التفكير التي لا تقاس في الاختبارات الأكاديمية التقليدية، كما كانوا متنوعين من حيث الجنس والسن والخلفية الثقافية.

ولنضرب مثلا بإيلين ريتش، وهي صيدلانية بإحدى ضواحي ولاية ميريلاند الأمريكية، التي انضمت للمسابقة وهي في الستينيات من عمرها وسرعان ما تفوقت في اجتياز التكهنات المبنية على الاحتمالات خلال المسابقة.

ونقلت الإذاعة الوطنية العامة في الولايات المتحدة "إن بي أر" عن ريتش قولها إنها لم تهتم من قبل بالشؤون الدولية ولم تدرس الرياضيات في الجامعة، لكن التدريب ساعدها على أن تكون من بين أفضل مجموعة تمثل نسبتها واحدا في المئة من المشاركين في المسابقة.

ويقول فيليب تيتلوك، مدير المشروع، في كتابه "التوقعات الفائقة": "البعض لديه مهارة فائقة في حل الألغاز واستعداد طبيعي لتوقع الأحداث توقعا صحيحا، لكن إذا لم يكن لدى المرء رغبة في طرح التساؤلات بشأن المعتقدات الأساسية، فإنه في الغالب سيكون في مستوى أقل من الشخص الأقل ذكاءً ولديه قدرة أكبر على التفكير الناقد للذات."

وقد تجد أن لديك موهبة بالفعل في توقع المستقبل، لكن لا تقلق إذا جاءت توقعاتك الأولية مخيبة لآمالك، لأنه بقليل من التدريب يمكن لأي شخص تحسين قدرته على التنبؤ في كافة المجالات.

وعلى مدار آلاف السنين، حار الفلاسفة في معرفة الأسرار التي تجعل المرء يتوقع الأمور بشكل صحيح، ورجح بعضهم أن يتجاوز ذلك مجرد الذكاء الفطري.

وحذر الفيلسوف الفرنسي رينيه ديكارت من أن الاعتماد على الذكاء وحده قد يدفع لخطأ أفدح. وكتب في القرن السابع عشر: "أعظم العقول قادرة على ارتكاب أعظم الرذائل، وكذلك أعظم الفضائل. ويمكن لأولئك الذين يمضون قدماً ببطء شديد أن يحققوا نجاحا أكبر، إذا اتبعوا دائمًا الطريق الصحيح، من أولئك الذين يمضون في عجلة من أمرهم ويبتعدون عن الطريق الصحيح."

وكما أشرت في كتابي "فخ الذكاء"، تقدم الأبحاث النفسية المتطورة الآن بعض الطرق الدقيقة للغاية التي تشير إلى أن القوة العقلية الأفضل يمكن أن تقود صاحبها إلى المسار الخطأ.

وهناك ظاهرة يطلق عليها اسم "الاستدلال المدفوع"، والتي تعني أننا ننحي جانبا الفكر المتوازن في القضايا التي تمسنا شخصيا وتمس هوياتنا، وبالتالي لا نقيم الأدلة تقييما موضوعيا. وكلما زاد ذكاء المرء أو اتسعت معرفته كان من السهل عليه تقديم الحجج التي تدعم وجهة نظره، وبالتالي يقوده عقله الراجح إلى الطريق الخطأ بدلا من الاستفادة به في البحث عن الحقيقة.

ويمكننا ملاحظة ذلك جليا فيما يتعلق بالمواقف إزاء ظاهرة الاحتباس الحراري، فالأكثر ذكاء واطلاعا بين الديمقراطيين يؤكدون أن الانبعاثات التي يحدثها النشاط البشري تتسبب في التغير المناخي، لكن العكس هو الصحيح تماما بين الجمهوريين.

كما لاحظ الباحثون أنماطا شبيهة حول الكثير من القضايا - منها ما يتعلق بحيازة السلاح، والتنقيب عن النفط والغاز بالتكسير الهيدروليكي، وبحوث الخلايا الجذعية - إذ يزداد الاستقطاب السياسي باتساع المعرفة. ولا شك أن "الاستدلال المدفوع" سيؤدي لانحراف التفكير حين يتعلق الأمر بتوقع ما سيؤول إليه شأن مثير للخلاف كخروج بريطانيا من الاتحاد الأوروبي.

وبالإضافة إلى "الاستدلال المدفوع"، قد يكون الأذكياء أكثر عرضة لما يسمى بـ "الدوغماتية المكتسبة"، بمعنى أن تُملي عليك خبراتك ومعرفتك السابقة موقفا ما يجعلك تنغلق أكثر من الناحية الذهنية، فعلى سبيل المثال إذا كنت من الحاصلين على درجة في العلوم السياسية فقد تميل لتجاهل ما يُستجد من أدلة تناقض تصوراتك المسبقة لأنك ترى في نفسك أنك تعرف كل شيء في هذا المجال.

لا يعني ذلك أن كل الأذكياء يقعون في هذا الفخ، بل يعتمد الأمر على اقتران الذكاء بسمات أخرى تساعد على استخدام العقل بشكل أفضل.

وأكدت استطلاعات للرأي وقياسات سلوكية تفوق البعض عن البعض الآخر فيما يتعلق بالشغف بالمعرفة، إذ يشعر هؤلاء بالرضا لمجرد تعلم حقائق جديدة، بل وبالنشوة نتيجة إفراز مادة الدوبامين في المخ.

فهل أنت ممن يحرصون على معرفة الجديد باستمرار؟ وهل تبادر بقراءة مقال عن موضوع مفضل حتى لو تعارض ذلك مع قناعاتك أو افتراضاتك؟ في الواقع، يكون هؤلاء أقل عرضة لانحراف آرائهم نتيجة انتماءاتهم السياسية، لأن شغفهم بالمعرفة يفوق تشبثهم بآرائهم. لكن الكثير من الأذكياء ليس لديهم هذا القدر من الشغف بالمعرفة.

كما يسترعي ما يعرف بـ"التواضع الفكري" انتباه الخبراء النفسيين بما له من أثر إيجابي في حماية الفكر. ويقصد بالتواضع الفكري هنا سهولة الاعتراف بالخطأ في الرأي. ووُجِد أن المتمتعين بقدر أكبر من التواضع الفكري يكونون أقل استقطابا وتشبثا بآرائهم، ويقيمون الأدلة المتاحة ويصغون لوجهات النظر البديلة.

وفي "مشروع الحكم الرشيد"، كان واضحا أن من حصلوا على المراكز الأولى في هذا الاختبار يظهرون تلك الأنماط الفكرية، إذ لم ينقادوا لغرورهم واعترفوا بالخطأ وصححوا مواقفهم إزاء ما استجد من أدلة. وفي المقابل، كان أداء ذوي الفكر المنغلق المتحجر أسوأ بكثير، بغض النظر عن ذكائهم ودرجاتهم العلمية.

ولحسن الحظ تتمتع عقولنا بمرونة كبيرة، وهو ما يعني أنه يمكن لأي شخص أن يتعلم كيف يتجنب التفكير بأفق ضيق. وهناك طريقة أثبتت فعاليتها في هذا الصدد، وهي استراتيجية "فكر في العكس"، بمعنى أن يتبنى المرء عن قصد وجهة النظر البديلة ويسعى لإيجاد الأدلة التي تعارض مواقفه الحدسية الأولى. وقد أثبتت هذه الاستراتيجية فاعلية كبيرة في الحد من التحيز وهوى النفس.

وهناك أيضًا دليل على أن التعرف على المغالطات المنطقية وأخطاء التفكير الشائعة يمكن أن يساعدك على التفكير بشكل أكثر عقلانية فيما يتعلق بالأخبار التي تقرأها، بحيث تُقيم المعلومات استنادا على الأدلة لا على مدى تطابقها مع قناعاتك المسبقة.

كما أن إجراء تقييم للمخاطر المحتملة يمكن أن يساعد في تحسين قدرة المرء على اتخاذ قرارات صائبة في العديد من المجالات، مثل الصحة والمال والسياسة.

وبالتالي، يمكن النظر إلى التفكير الجيد على أنه مهارة يمكن تعلمها. وقد تتيح مسابقات التوقعات فرصة ممتازة لاختبار مدى قدرتنا على اتخاذ قرارات صحيحة وتحسينها، إذ يُجبر تمرين التوقع في هذه المسابقات الشخص على التعامل مع فكره البديهي وقناعاته على أنها افتراضات قابلة للنفي أو الإثبات. وبالتالي، يتعلم المرء التغلب على "الاستدلال المدفوع" و"الدوغماتية المكتسبة" والخروج بفهم أفضل للمخاطر المحتملة.

وتشير الأدلة أن المشاركين بمسابقات التنبؤ قد تمكنوا من تحسين قدرتهم على التوقع من خلال التدريب، كما ثبت أن لديهم قدرا أكبر من "التواضع الفكري"، وقدرا أقل من الاستقطاب إزاء القضايا التي لم تناقش حتى خلال المسابقة، إذ يتعلم المشاركون التشكيك في افتراضاتهم.

http://www.bbc.com/arabic

...........................
* الآراء الواردة لا تعبر بالضرورة عن رأي شبكة النبأ المعلوماتية

اضف تعليق