q

أم أشرف، امرأة تقرب الخمسين من العمر، وهي موظفة خدمات، في وزارة حكومية، وتستلم راتب لا يتعدى الخمسمائة دولار، لأنها لا تملك مؤهل علمي، فكل ما تستلمه، بالكاد يسد بعض حاجات البيت، فهي المعيل الوحيد للبيت، بعد وفاه زوجها بحادث سير مؤسف، ولديها ثلاث بنات في المدارس وإبن في الجامعة، في اليومين الأخيرين، عاشت معاناة حقيقية، بسبب اقتطاع جزء كبير من راتبها الشهري الذي تتقاضاه من الحكومة، فأصبحت أم أشرف تعيش مرارة حسرتها وحرجها الكبير، فراتبها الان لا يكفي لسد رمقها وأبنائها، وعليها السير في طريق الديون.

الموظفون في حالة من الذعر والقلق، بعد أن شنت حكومة الدكتور رامي الحمد الله، حرب استقطاعات على رواتبهم، فأصبحت الطبقة المتوسطة (محدودو الدخل)، هي من تتحمل خواء الخزينة، والخواء أنتجه المتنفذون، عبر اتخاذ اسلوب ادارة غريب، أوقعنا في فخ الفشل والفساد، وعلى المساكين جبرا، دفع فاتورة فشل هؤلاء المتنفذين، في ادارة الحكومة، مع أن البرنامج الحكومي، كان يعلن بأنه سيعمل على انصاف الموظفين، بتعديل رواتبهم للأحسن، لكن أصبح اخلاف الوعد، أمر طبيعي منها.

عملية الاقتطاع من رواتب الموظفين، هي عملية تضييق على الآلاف من العوائل، وتحميلها فوق طاقتها، وعملية الاقتطاع لن تحل المشكلة، بل ستفتح أبواب لمشاكل أكبر، ستجبر الحكومة لصرف أموال أكثر، لردم تلك الثغرات، التي ستتولد من جوانب أخرى، فالقرار خاطئ اقتصاديا، والحلول ممكن أن تتوجه، لآليات أخرى أجدى اقتصاديا، لكن قصر النظر الحكومي، ومحدودية أفق التفكير لشلة الوزراء والمستشارين، أوقعهم في فخ الخطيئة، بحق الآلاف من العوائل الغزية، التي تعتمد كليا على الراتب الشهري.

نعتقد أن حكومة الحمدالله مصابة بالزهايمر، لأن من يكلف الخزينة، هم وزراء وموظفي أمانة رئاسة الوزراء وأعضاء وموظفي المجلس التشريعي والسفراء والقناصل ورؤساء الهيئات، الذين يتقاضون مخصصات خيالية، وما زالت سارية حتى اللحظة، مع إيفادات وزيارات ورحلات وطشات لا تنقطع، طيلة فصول السنة، مما أسس طبقة سرطانية ملتصقة بأصحاب القرار الحكومي، وهي أساس فساد مؤسسات السلطة، لارتباط باقي الوزارات بها، هذه الفئة من المتنفذين، هي من تحتاج لتخفيض رواتبها، وازالة أي مخصصات مخالفة للعدل، مع استرجاع كل ما قبضوه، لأنه سحت.

قد يعتقد البعض ان تخفيض رواتب الموظفين والمتقاعدين والاستقطاع المخطط له سوف يسهم بتقليل النفقات، فاعتقد ان ذلك سوف يزيد من تعقيد المشكلة ولا يشكل اي جزء من الحل، فالمشكلة الأكبر في هذا الأمر هو التعيين المستمر بلا تخطيط والتي كان اخرها تعيين الدكتور سائد الكوني قائما بأعمال رئيس ديوان رئيس الوزراء \"بدرجة وزير\" ، وطارق رشماوي ناطقا رسميا باسم الحكومة في مكتب المتحدث الرسمي، الى جانب الناطق الاول يوسف المحمود، عدا عن تعيين عدد كبير من السفراء ومسؤولي البعثات الدبلوماسية وهذا ما اثر بشكل واضح بزيادة أعداد الموظفين وبالتالي لا بد من تخصيصات مالية إضافية مما انتج بطالة مقنعة في اغلب الوزارات والدوائر, اضافة زيادة عدد الدرجات الخاصة وبشكل كبير وهذا إسراف واضح في ميزانية السلطة.

خلال تشكيلها وحتى اللحظة، لم تُظهر حكومة الحمد الله، مؤشرات أو علامات، ولم تبعث برسائل جادة عن نيتها بالقيام بالإصلاح الجذري الذي ينقذ الوطن من الغرق في بحر الفوضى والفقر والمجهول القادم، بل أبدتْ هذه الحكومة تمسكا بمصالحها اكثر من السابق، وبدت وكأنها لم تكترث بالظروف الخطيرة التي يمر بها الوطن الفلسطيني، خاصة ما يتعلق بالإعمار والتنمية والازمة المالية وتداعياتها، ولم تقم الحكومة بما ينبغي عليها من اجراءات حقيقية لوضع حد للفساد المالي واستعادة الاموال المنهوبة الى ميزانية الشعب.

بشكل عام ان وضع الموازنة للحكومة وبالخصوص الجانب الإنفاقي تعاني من اختلال هيكلي، فبالرغم من الارتفاع النسبي إلا انه صنع جملة من الآثار غير المرغوب بها كونه مرافق لعملية توزيع غير متوازنة صنعت فوارق طبقية ذات انعكاسات سياسية واجتماعية كارثية، بالإضافة الى الإسراف في الإنفاق التشغيلي للوزارات الفلسطينية والامتيازات غير المبررة للقيادات العليا في الحكومة.

لذا لابد من اجراء مراجعة شاملة ومخلصة لما يحدث، لابد أن يتنّبه القادة لما يدور في ساحة الاقتصاد مثلما هم مهتمون بالسياسة، فالمركب لا تقوده السياسة وحدها، هناك ملايين الافواه والبطون التي تحتاج الى الطعام، والاخير لا يأتي من دون توفير فرص العمل، وهذه لا تتحقق في الرواتب الخيالية التي يتقاضاها الوزراء ورؤساء الهيئات والسفراء واعضاء المجلس التشريعي وغيرهم من مسؤولي السلطة، وعلى جميع القادة والمسؤولين أن يتفهموا بعمق وضمير ما يدور في الساحة جهارا نهارا، المركب ينحدر الى الاعماق وقد يغرق ويُغرق معه الجميع، لذا مطلوب حلول سريعة بل فورية ولكن ليست عشوائية بل مخطط لها، انقذوا الموظفين والفقراء من فقرهم وجوعهم الذي نشاهده يوميا في تقاطع الطرقات والشوارع والساحات العامة، بل امتد الامر ليصل الى ابواب البيوت ومكبات القمامة والنفايات، نعم عدد ملحوظ من المحتاجين باتوا يطرقون الابواب على اهلها ليحصلوا على ما يسد رمقهم.

هنا تكمن قصة الظلم الفلسطيني، التي أسستها الحكومات المتعاقبة، فئة صغيرة تتنعم بكل الملذات، وفئة واسعة تكافح لتحفظ كرامتها، فمن يريد الإصلاح الحقيقي، لا يكون عبر الوزراء التكنوقراط فقط، بل عبر الإسراع بتسوية رواتب مؤسسات ووزارات السلطة، واسترجاع كل دولار صرف ظلما، وإلغاء كافة القوانين الظالمة والمجحفة للموظفين، التي سمحت بتضخم رواتب المدللين، بالإضافة لأهمية تفتيت هذه الطبقة السرطانية، مع تعويض الأغلبية، عن سنوات الظلم التي مضت.

هنا لابد من حل جذري يساهم بشكل مؤثر في تخطي هذه الأزمة، وهذا الحل يأتي من إرادة حكومية قوية تأخذ بنظر الاعتبار مصلحة الوطن الفلسطيني فوق كل اعتبار، فالإرادة القوية تجعلنا نتخطى هذه الازمة وهذا يتطلب ترك الخلافات والمصالح الشخصية والحزبية جانبا من اجل فلسطين.

من هذه الحلول والخطوات التي ينبغي أن تفهمها الحكومة، وتدرسها وتبادر بها:

- إعادة ما تم استقطاعه من الموظفين مع رفع الظلم والإجحاف بحقهم.

- إعادة العلاوات الاشرافية وبدل المواصلات والترقيات وتعديل السلم الوظيفي.

- تسوية ملف تفريغات 2005، اضافة الى إعتماد الشهداء والجرحى من أبناء وطننا.

- أن تفهم الحكومة، أنها تتعامل مع فرصتها الأخيرة لإنقاذ الوطن.

- أن تضع الحكومة مصالح الشعب والدولة فوق مصالحها، مجبرة وغير مخيّرة.

- أن يفهم القادة وأصحاب القرار والمتنفذون، انهم يمرون بمنعطف خطير.

- أن تتخذ الحكومة، قرارات اصلاحية يقتنع بها الشعب.

- أهم هذه القرارات وضع رؤوس الفساد خلف القضبان، واعطاء اشارات قاطعة حول اعادة أموال الشعب المنهوبة الى خزينة الدولة.

- الشروع الفوري بمحاربة الفساد وكل من يتخندق خلفه، مع تعضيد القضاء والنزاهة لأداء دورهما الحازم في هذا المجال.

- عدم العودة مطلقا، الى اسلوب غض الطرف عن رؤوس الفساد بسبب نفوذهم او انتمائهم الى فصائل واحزاب، على العكس ينبغي تطبيق معادلة حازمة، كلما كان الفاسد أعلى مسؤولية كلما يكون الحزم أقوى وأشد في التعامل معه.

- لابد من وضع ضوابط حازمة لحماية الوطن من الانزلاق الى الفوضى.

- التعامل مع هذا المنعطف الخطير بهدوء وحزم وبروح المسؤولية الحكيمة التي تعي خطورة المرحلة.

- لا ينبغي حدوث اي تصادم بين الشعب والاجهزة الامنية مهما كانت الأسباب، وهذه مسؤولية الحكماء من القيادات الشريفة حصرا.

- أن يعلن الجميع مبدأ التمسك بإنقاذ الوطن من الغرق، وان يكون الجميع على استعداد للتضحية المادية حفظا وحماية للشعب والدولة، فهي أمل الجميع وحاضرهم ومستقبلهم.

وأخيرا وليس بآخر ننتظر من الأخ الرئيس محمود عباس، اعادة النظر في سياسات الحكومة الخاطئة والمجحفة والتعسفية، وتنفيذ ما جاء من مقررات في المؤتمر السابع لحركة فتح ومحاولة فهم التأثير السلبي لمقص الحمدالله الخاص بقطاع غزة، والخروج من خطيئة ظلم المواطنين في أرزاقها، مع أهمية تفتيت بؤر الفساد، في كافة مؤسسات ووزارات الحكومة، مع التعجيل بمساواة رواتبهم بباقي دوائر السلطة.

آخر الكلام:

هل من قائد أو سياسي شريف، سيعمل على إنصاف الموظفين والمسحوقين والمحرومين والفقراء، وهم أغلبية الشعب، ويجتهد في تفتيت الفئة المدللة، كي تشرق شمس العدل، على ارض لم ترى إلا الظلم.

* إعلامي وباحث سياسي

...........................
* الآراء الواردة لا تعبر بالضرورة عن رأي شبكة النبأ المعلوماتية

اضف تعليق