الوطن الكويتية..عشرون عاما قضاها حبيسا في داره وجليسا في غرفته

كتب الاستاذ منصور كرم مقالا في صحيفة الوطن الكويتية الصادرة اليوم 8/12/2002 بعنوان بعد عام على رحيل المرجعية العليا جاء فيه:

(وتلك الأيام نداولها بين الناس وليعلم الله الذين آمنوا ويتخذ منكم شهداء والله لا يحب الظالمين) (آل عمران-140).

لقد تصرمت الليالي والايام وهذا العام الأول قد مر على علم من أعلام الاسلام وفقيه من فقهاء الدين والشريعة وآية من الآيات العظام المرجع الديني الأعلى آية الله العظمى الامام الراحل الحاج السيد محمد بن السيد ميرزا مهدي الحسيني الشيرازي (أعلى الله مقامه). ذلك الجبل الشامخ والطود العظيم الذي انفق من بحر (الميرزا) المهدي الشيرازي (قدس الله سره) هو واخوانه الشهيد السيد حسن (قدس سره) والفقيه الصادق والمحقق المجتبى (دام ظلهم الوارف).

طالما امتدت اليه يد الغدر لتهدم ذلك الجبل بمعولها الخشبي، ولكن الله تعالى اراد له الشموخ فتحطمت تلك المعاول وشلت الايدي على تلك الصخور الصلبة، وانقشعت غيوم الشك والريبة ليظهر نور علمه الباهر، وفي مقابل ذلك امتدت الى قمته يد اخرى لتنهل من رحيق ادبه وشهد اخلاقه وعسله المصفى، واستخرجت من باطن مناجمه الماس زهده ودرر علومه وياقوت تقواه ومعدن جوده وغاصت في اعماق بحره تبحث عن لآلىء الحكم ومرجان المنطق، وعلى ضفافه تستلهم جواهر الكلام والأصول.

نعم، عشرون عاما قضاها حبيسا في داره وجليسا في غرفته التي لا تتجاوز الامتار التسعة المربعة، ليدير شؤون المرجعية العليا، فمن تلك الغرفة الصغيرة يعطي تعليماته لوكلائه ومقلديه ومريديه وللمؤمنين بمختلف طبقاتهم والوانهم ومشاربهم في شتى بقاع العالم، حيث انتشرت مشاريعه وحوزاته العلمية ومؤسساته الاجتماعية والدينية والثقافية والعلمية حتى الصحية منها والمبرات الخيرية، وكان جل وقته في هذه الغرفة يفترش تحته بطانية قديمة بالية خشنة لا تساوي شيئا من حطام الدنيا، ومن هذا المكان المتواضع يوجه العلماء والخطباء وطلبة الحوزات العلمية بل وعامة الناس ومن جميع المستويات رجالا ونساء، كبارا وصغارا، شيبة وشبانا. وكثيرا ما كان يختلي بأخيه آية الله العظمى المحقق الفقيه الامام السيد الصادق الشيرازي (حفظه الله ورعاه) ليبحث معه ما استجد وما يستجد على الساحة الاسلامية والعالمية.

كما كان يجمع ابناءه واحفاده وابناء اخيه وارحامه ويوصيهم بتقوى الله وبوصايا نيرة وكان يبدأ بتوصية نفسه اولا حيث يقول: «اوصي نفسي واوصيكم...» وكان يختلي للدعاء والزيارة والمناجاة، وكثيرا ما كان يذكر مصيبة جده الامام الحسين (عليه السلام)، وكذلك كان يتابع اخبار العالم من خلال الراديو او من المقربين له، فتراه يتفاعل مع جميع قضايا الاسلام والمسلمين وذلك تطبيقا لحديث الرسول الاعظم-صلى الله عليه وسلم-: «من اصبح ولم يهتم بأمور المسلمين فليس بمسلم»... لا بل كان يهتم بقضايا البشرية جمعاء وخاصة حقوق الانسان، والفقراء والمساكين، والمهجرين، والمضطهدين، والمحرومين، والمشردين، والمظلومين في جميع انحاء العالم، كما كان يقضي حوائج الفقراء والمساكين والمهجرين من العراق وافغانستان وغيرها، ومن كانت له حاجة قضاها، وكثيرا ما كان يعقد قران الشباب والفتيات ويحث العزاب منهم على الزواج.

واتخذ من زوايا تلك الغرفة المهترئة ركنا للكتابة والمطالعة والتأليف، ومن تلك الغرفة صدرت اغلب كتبه ومؤلفاته التي تربو على الف ومائتين وخمسين كتابا وكتيبا، بشتى الاساليب وخاطب بها جميع العقول وجميع مستويات المجتمع وشرائحه من الطفل الصغير الى الشيخ الكبير، من المبتدىء الى العالم والمجتهد، رجالا ونساء وقد توقفت عن الحركة ثلاثة من اصابع يده اليمنى من اثر الكتابة والتأليف، وكان يقول: لو فرضت علي الظروف ان اكون وحيدا، متفرغا، وفي مكان ناء كالجبال مثلا ومعي اقلام واوراق لتمنيت ان اشرح كتاب بحار الانوار في الف مجلد واشرح الكتب الاربعة وهي (الكافي-الاستبصار-التهذيب-من لا يحضره الفقيه) وغيرها من الكتب.

ومن هذه الغرفة الصغيرة حجما الكبيرة معنى والتي تفوح بعبق علوم اهل البيت (عليهم السلام) خرج ابناؤه (الرضا والمرتضي وجعفر المهدي، ومحمد علي ومحمد حسين) كما خرج منها ابناء اخيه الصادق (علي وحسين واحمد وجعفر) وخرج منها احفاده واصهاره وغيرهم كل يقول: علمني الفقيد السعيد (أعلى الله مقامه ودرجاته) مكارم الاخلاق قبل الفقه والاصول ولقد كان نعم المربي الفاضل والاب الحاني، كما ربى مخدراته على الاخلاق الحميدة وادبهن بأدب اهل البيت (عليهم السلام) وغذاهم بعلوم محمد وآل محمد (عليهم السلام) فاصبحت عالمات فاضلات.

لقد رحل الى الرفيق الاعلى ليحل ضيفا على اجداده الكرام من محمد وآله الطيبين الطاهرين. واوقف ذلك العطاء لينال هو الجزاء الاوفى، فقد فاز والله فوزا عظيما في جنة عرضها السموات والارض ، وخسرنا نحن وحرمنا من فيوضاته تلك.

ختاما اقول سيدي: لم تغب عنا وقد رأيناك في اخيك، حينما افل نجمك بزغ نجم اخيك آية الله العظمى السيد الصادق، فهنيئا لك يوم ولدت ويوم مت ويوم تبعث حيا. رحمك الله وحشرك مع اجدادك الطيبين الطاهرين، ونسأل الله ان يرحمنا واياكم ويحشرنا في زمرتكم ويرزقنا شفاعتكم.