سايكولوجية الانتخابات الأخيرة ومسؤولية الاحزاب الفائزة

دعوة الى تشذيب مفهوم فرض السلطة بما يتلائم والحريات العامة

محمد حميد الصواف

طويت صفحة الانتخابات... واسدل الستار على ضجيج الدعايات الانتخابية، لتنخفض وتيرة السجال السياسي الذي احتدم على مدى الشهور الماضية. مخلفة اشادات محلية ودولية بنزاهة المعايير المتبعة، مع الاشارة الى طبيعة المشاركة التي شملت مختلف اطياف الشعب العراقي، رغم نسبة الاقبال المتوسطة للناخبين.

حيث تميزت هذه الانتخابات بالكثير من العوامل الايجابية تنظيمًا وممارسةً عما سبقها من التجارب الديمقراطية التي شابها الكثير من اللغط والطعن، فضلا عن اداءها في اجواء امنية هادئة ومستقرة نسبيا، مما عزز ثقة الناخب بقدرات القوات الامنية في حفظ ارواح المواطنين. والتي دون ادنى شك ترتقي رغم بعض السلبيات المرصودة على وضع العراق ابان الديكتاتوريات السابقة.

المنعطف التاريخي جاء برأي اغلب المراقبين الدوليين على تخطي الناخب العراقي التأثيرات العاطفية والتوجه العام صوب الاختيارات الاكثر عقلانية خلال الممارسة الديمقراطية الاخيرة.

فتجلى للعيان تسيد مزاج عام لدى الناخب دفعه الى تفضيل الاحزاب التي تضع في اولويات اجندتها مصلحة العراق، ونبذها للطائفية المقيتة.  

فالعراقيون في هذه الانتخابات حاولوا وضع اللبنة الاساسية في بناء مجتمع ديمقراطي حر متعدد، في اشارة الى تنامي الوعي المسؤول بعد انقشاع الغمامة التي كانت تحد من رؤيتهم للمسار الصحيح.

فيرى المختصون ان المحطات الديمقراطية التي مر بها العراقيون تتضمن أربع مراحل، أولها ما يمكن تسميته بسايكولوجية الضحية وهو الشعور المزمن بعقدة الاضطهاد، من جراء ممارسات النظام السابق ضد مكونين رئيسين في المجتمع العراقي هما الشيعة والأكراد، فاتباع هذين المكونين عانوا لسنوات من ردة فعل انفعالية  كان من نتيجتها أن أصبح الولاء الشيعي لرموزهم والشيء نفسه بالنسبة للأكراد.

اما المرحلة الثانية يمكن تسميتها بسايكولوجية الاحتماء حيث توزع العراقيون بعد سقوط النظام السابق تحت هيمنة من يحميهم من الساسة الطائفيين، وأصبح الولاء للقوة التي تحميهم على نحو مشروط بعقد اجتماع غير معلن بين الطرفين، بما مضمونه أنا أحميك بشرط أن تكون معي وذلك ما تحكم بالانتخابات التي جرت بعد سقوط النظام السابق.

في حين كانت المرحلة الثالثة التي يمكن تسميتها بسايكولوجية المسؤولية الهشة حيث شهدت ادلاء المواطنين بأصواتهم بحرية في الانتخابات التشريعية أو المحلية، لكن كتحصيل حاصل حيث لم يمارس الناخب المسؤولية الوطنية ولا حتى الشخصية في ذلك.

اما المرحلة الرابعة والأخيرة تمثلت بسايكولوجية الوعي بالمسؤولية، والشيء الجيد فيها هو ما شهدته انتخابات مجالس المحافظات الأخيرة، حيث اعطى الناخب العراقي فيها صوته للمرشح الذي توافرت فيه عناصر الكفاءة والنزاهة والقدرة على تلبية حاجات المواطنين بغض النظر عن الطائفية والمذهبية.

لكن كل ذلك مجرد بداية للمشوار وللمهمة بقية طويلة، خصوصا ان الكرة اصبحت الان في ساحة القادة السياسيين الجدد، بعد ان القى العراقيون على عاتقهم مهمة تحمل المسؤولية في صيانة البلاد وترميم ما فسد واصلاح الشؤون الهامة والحساسة، بعد سنين عجاف عانى العراق من التجاذابات الطائفية والحزبية وموجات الاحتراب الداخلي المكلفة.

فالمواطن علق آماله على القوائم التي حازت اكثر نسب الاصوات، ومنحت الافضلية في التصدي لقيادة العملية السياسية، علَها تلتفت الى مراعاة بعض المسائل الضرورية في ادائها مستقبلا، فاغلب القراءات الاولية تشير الى ان الناخب العراقي عزف عن انتخاب بعض الاحزاب بعد ان ادرك خطورة هيمنتها على مفاصل الدولة واستئثارها بالسلطة من جانب، وممارستها التهميش والاقصاء من جانب آخر وعدم اصغائها الى الاصوات المعارضة، وتغليب المصالح الفئوية الضيقة على مصالح البلاد، مما كبدها انحسار دورها وخسارتها الحظوة التي كانت تتميز بها في السلطة.

لذا يستوجب في حال رغبة القوائم الفائزة بالنجاح والنهوض بمهامها ومسؤولياتها الجديدة انتهاج سياسة اكثر حكمة واعتدال عبر اشراك الاخرين والاخذ بتعددية الاراء، ونبذ التفرد بالسلطة، واستقطاب الافكار البناءة.

فيما تبرز الحاجة الملحة الى ضرورة تشذيب مفهوم فرض السلطة بما يتلائم والحريات العامة والخاصة، التي مكنت القوائم الصاعدة من الفوز، والاعتبار مما سبق. حيث تبرز في هذا المنحى ضرورة الانفتاح او الانصهار العملي في بناء العراق، مع مختلف التيارات والاحزاب الوطنية والتوجهات الهادفة الى بناء مجتمع ديمقراطي مسؤول، قادرا في الوقت نفسه على الاعتراض والاختلاف او حتى التنديد بما يتصوره البعض غير ملائم على صعيد السياسة الداخلية او الخارجية.

فالكثير من الجماهير لفظت بعض الاحزاب السلطوية والفئوية خلال الانتخابات الاخيرة، واضعة ثقتها بالقوائم الفائزة علها تلبي رغبة ناخبيها، فالاعمار وتقديم الخدمات والحد من ظاهرة البطالة جميعها نقاط تأتي في سياق تلك الرغبات، ولا نعتقد انها ترغب ان تلاقي المصير نفسه ونحن على اعتاب انتخابات برلمانية في الشهور القليلة القادمة.

شبكة النبأ المعلوماتية- الاحد 22/شباط/2009 - 26/صفر/1430

© جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة النبأ للثقافة والإعلام 1419-1429هـ  /  1999- 2008م