التمييز بين ثقافة المقاومة وثقافة التطرف

أحمد شهاب

تُقيّم المقاومة السياسية والعسكرية بحجم إنجازاتها في الميدان السياسي والعسكري. وفي الغالب فإن المقاومة تبدو ناجحة إذا استطاعت أن تحقق نصرا مظفرا على أرض المعركة، وتعتبر فاشلة إذا عجزت عن تحقيق ذلك المقدار من النصر، وبالكاد يُمكن تلمس النواحي الإيجابية التي قد تخلقها المقاومة من حولها إذا عجزت عن تحقيق انتصار سياسي أو عسكري يشار له بالبنان.

قلة من الناس تقتنع أن جهة ما يمكن أن تعتبر منتصرة، على رغم أن حجم خسائرها من الناحية المادية هي دوما أكثر من خسائر عدوها، أو أن عدد قتلاها يفوق عدد القتلى عند الطرف المعادي، فالنصر والخسارة في أذهان معظم الناس يرتبط بالأحجام والكميات، وهو بالتحديد ملخص للنقاط التي يحرزها كل طرف على الطرف المقابل.

في الغالب فإن الخاسر هو الذي يفقد عناصر بشرية ومادية أكثر في ساحة المواجهة، وفي المحصلة، فإن جردة حساب المعارك التي تشتعل في مناطق مختلفة من العالم، لن تُقيّم في الغالب إلا بعد النظر في حجم وأعداد القتلى والجرحى من كلا الطرفين، وعدد ونوعية الجسور والطرق التي تعرضت إلى التدمير، وعدد وأهمية المنشآت الحيوية والأبنية الرسمية وربما المدنية والسكنية التي أصيبت بالضرر! إن المحصلة النهائية لحجم الخسائر هي التي تحدد المهزوم من المنتصر.

لذلك لا يستوعب الكثير من أفراد المجتمع الحديث الذي يتداوله إعلام المقاومة والممانعة بثقة وإصرار حول انتصار حزب الله في لبنان، لأن حجم الكارثة التي حلت على الأراضي اللبنانية، وعدد القتلى والجرحى الذين سقطوا جراء القصف الإسرائيلي العشوائي، فاق بأضعاف مضاعفة ما حل بإسرائيل، ولا وجه للمقارنة، لا في مستوى التدمير، ولا مستوى وبشاعة القتل بين ما حدث هنا وهناك.

لكن من خلال النظر إلى طبيعة الدولة الصهيونية، والخلفية الذهنية المتشكلة عن قوتها العسكرية، وقدراتها القتالية، والدعم اللامحدود الذي تتلقاه من الولايات المتحدة والدول الأوروبية، فيمكن ببساطة الإشارة إلى الأداء الحسن الذي أبلاه شباب المقاومة في ساحة المواجهة. إن مسألة النصر والهزيمة لا تقف عند حدود حصر أعداد وأحجام الخسائر عند كل طرف من الأطراف المتقاتلة، وإنما تتعلق أيضا بالقدرة على التحدي والمواجهة، والقدرة على نقل المعركة من ميدان إلى آخر، وأخيرا بالنتائج المترتبة على المواجهة.

شن الكيان الصهيوني حربه في تموز (يوليو) بدعوى أسر جنديين إسرائيليين، قال الحزب إن إطلاق الأسيرين مرتبط بمفاوضات غير مباشرة لإطلاق أسراه من السجون الإسرائيلية، وردت الإدارة الإسرائيلية بأنها غير مستعدة إطلاقا للتفاوض مع حزب الله، وشنت الحرب لإطلاق سراح الجنديين، لكنها اضطرت أخيرا للدخول في مفاوضات غير مباشرة مع الحزب، وأطلقت الأسرى اللبنانيين وسلمت العشرات من جثث الشهداء، وهو في نظر الحزب ومؤيديه، وفي نظر الكثير من المحايدين يعد انتصارا كبيرا.

الأمر لا يختلف في قطاع غزة، لقد شن الكيان الصهيوني حربه الفائتة للقضاء على حماس، وإزالة العقبات أمام تقدم إسرائيل في المنطقة، إضافة إلى الهدف المعلن، وهو الحد من قدرات حماس الصاروخية، وانتهت الحرب وجميع المؤشرات تؤكد أن القدرات الصاروخية لحماس، وإن لم تكن في أفضل حالاتها، فهي لا تزال بخير، وأن نفوذ حركة المقاومة لا تزال الأوسع على القطاع، وتشارك الحركة كطرف فاعل في جميع الحوارات الدائرة حول مستقبل القضية الفلسطينية، أما تقدم إسرائيل في المنطقة فيبدو أكثر عُسرا من ذي قبل.

ملخص الرسالة التي وصلت من كلا الحربين أن الآلات العسكرية لم تعد الوسيلة المثلى لتحقيق النصر وتعزيز المواقع بين الدول أو المجتمعات، فهي تستطيع بكل تأكيد إحداث قدر هائل من الدمار والخراب، وفي إمكانها إسقاط عشرات الضحايا بضربة وحشية واحدة، لكنها لا تستطيع أن تكسر إرادة مجموعة مناضلين قرروا المواجهة حتى الموت، ولن تثني أصحاب الحق عن الاستمرار في الصراخ والشكوى لحين بلوغ هدفهم واسترجاع حقهم.

هذا على مستوى فوائد المقاومة السياسية والعسكرية. وثمة فوائد أخرى يجدر بنا الإشارة إليها، وهي الفوائد الثقافية والحضارية، وأظن أنها إن لم تواز، فإنها تفوق من حيث الأهمية الدور السياسي والعسكري، فقد لعبت المقاومة الشرعية دورا مهما في تبريد التوترات المذهبية، في مقابل المشاريع المتكاثرة التي كانت ولا تزال تستهدف تلغيم المنطقة ومن ثم دفعها للانفجار بالنزاعات المذهبية والطائفية.

فقد عملت المقاومة الشرعية في كل من لبنان وفلسطين على إبراز المشتركات بين الأطراف المختلفة مذهبيا، وشخصت العدو الحقيقي الذي ينبغي على جميع الأطراف أن يُفعّلوا برامجهم في مواجهته، والانصراف عن الاقتتال الداخلي. وتبنت المقاومة مشروع تعزيز الجبهات المختلفة بأفكار ومبادرات الوحدة، وبدا التحالف بين حزب الله وحركة المقاومة حماس، وتفاعل شيعة لبنان مع سنة فلسطين، وتعاطف سنة فلسطين مع شيعة لبنان، كخطوة في اتجاه تأكيد قدرة المسلمين على تجاوز خلافاتهم وفروقهم المذهبية، مهما عمل، من طرف الآخرين المغرضين، على أن تبدو حادة.

وهو الأمر الذي أسهم في إغلاق الطريق أمام أبواق الفتنة التي حاولت أن تعزف ألحانها في المنطقة، وعرَّى جماعات العنف والإرهاب التي كانت تستهدف الأبرياء لأسباب طائفية، وحاولت أن تُدثر أعمالها بغطاء الجهاد والمقاومة والتحرير، ووضع حد قاطع بين المقاومة المشروعة وبين جماعات التطرف والعنف. فالمقاومة المشروعة لا تنزلق إلى الصراعات الجانبية والفرعية، ولا تميل إلى الانشغال في حروب طائفية، وإنما تحاول بالقدر الممكن تركيز جهدها وإمكاناتها نحو مواجهة عدوها الحقيقي، بينما لا تتورع الجماعات الإرهابية عن إشعال المنطقة في الصراعات الجانبية، واختلاق معارك طائفية وهمية لتحقيق أكبر قدر من المكاسب والمغانم.

أحد فوائد المقاومة الثقافية والحضارية أنها تعتبر عامل توحيد وتلاق داخل المجتمع، ولاسيما أنها تمتلك القدرة على تحديد الجبهات السياسية والعسكرية والإعلامية التي يجب أن تفتح، والأخرى التي يجب أن تُغلق ويُغض النظر عنها، أما السلبيات التي تعترض مفهوم المقاومة وطريقها، وتشوه صورتها وتزعزع مكانتها، فهي نتيجة الموقف السلبي من قبل الحكومات ضدها، وقد حان الوقت لنحدد -كدول ومؤسسات رسمية وباحثين- مفهومنا للجماعات المتطرفة والأخرى المقاومة الشرعية، ونفرق بين الجماعات التي تستهدف تحقيق مغانم خاصة، وبين الجماعات الرشيدة التي تحمل هموم مجتمعها، وتحرص على تعزيز التماسك الداخلي.

* كاتب كويتي

[email protected]

شبكة النبأ المعلوماتية- الخميس 19/شباط/2009 - 23/صفر/1430

© جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة النبأ للثقافة والإعلام 1419-1429هـ  /  1999- 2008م