قراءة في كتاب: ماذا حدث للمصريين؟

أضواء كاشفة على حال المجتمع المصري في نصف قرن

 

 

 

 

 

العنوان: ماذا حدث للمصريين؟ تطور المجتمع المصري في نصف قرن

المؤلف: جلال أمين

الناشر: دار الشروق، الطبعة السادسة، 2008

عدد الصفحات: 188

عرض: علاء بيومي

 

 

 

 

شبكة النبأ: كتاب "ماذا حدث للمصريين؟" ممتع ومخيف في آن واحد، فهو ممتع لما يتضمنه من نظرات وأفكار ثاقبة على أوضاع المصريين خلال العقود الأخيرة، وهو مخيف لأنه يشعرك بالخوف على المصريين ومنهم بعدما تحولوا إلى شعب مشغول بالإستقواء أو الإستعلاء على بعضهم البعض كما يرى مؤلف الكتاب الأستاذ الكبير جلال أمين.

حيث يرى أمين – في خلاصة كتابه الأساسية - أن المصريين باتوا مشغولين بأمر واحد وهو سر تعاستهم، ألا وهو الاستعلاء والتفاخر والتكابر والاستقواء على بعضهم البعض حتى ولو استعانوا بالغريب لغلبة أبناء جلدتهم، بل أن المصريين باتوا فعلا مشغولين نهارا مساء بالاستعانة بكل ما هو غريب وأجنبي من عملات وألفاظ وعادت غربية كانت أو خليجية للإستقواء على بعضهم البعض ولإشعار من هم دونهم أو أعلى منهم دخلا ومكانة اجتماعية بأنهم أفضل منهم.

ويبدو أن جلال أمين يأس من علاج المصريين من هذا المرض العضال على المدى المنظور مما دفعه إلى التعبير في بداية كتابه عن اعتقاده بأن مرض المصريين "بالحراك الاجتماعي" متوغل متجذر لن يشفى سريعا، وأنه يعيق تقدم المجتمع ويعد سببا رئيسيا في تعاسته على المستويات الثقافية والسياسية والاجتماعية، وأن علاج السياسات الحكومية لن يجدي وحده لوقف تدهور المصريين، وذلك لأن مرض المصريين ليس سياسيا محضا بل هو اجتماعي اقتصادي متوغل في أوساط المصريين وفي قلب المجتمع المصري بشكل يحتاج عقود لعلاجه.

سبب المرض – كما يراه أمين – يعود للتغيرات الاجتماعية والاقتصادية الكبرى التي تعرض لها المصريون منذ عام 1952 حيث دفعت الثورة عجلة الحراك الاجتماعي في مصر بشكل غير مسبوق وبسرعات عالية وبدون وعي بتبعاتها الاجتماعية والثقافية نظرا لضعف الخلفية الفكرية والثقافية لقادة الثورة المصرية أنفسهم، حتى أن جلال أمين يسخر من هؤلاء القادة لأنهم لم يجيدوا الحديث في خطاباتهم باللغة العربية ولم يكونوا معنيين بالاستقلال الفكري والثقافي في الوقت الذي كانوا مشغولين فيه باللحاق بالغرب سياسيا واقتصاديا.

الثورة وما تبعها من سياسات اقتصادية وسياسية كبرى مثل التصنيع والإصلاح الزراعي ثم الانفتاح والهجرة الخارجية والعولمة قلبت الهرم الطبقي في مصر رأسا على عقب لأنها دفعت بفئات واسعة من الطبقات الفقيرة والمتوسطة المصرية إلى أعلى السلم الاجتماعي المصري بشكل سريع وغير مسبوق.

انقلاب الهرم الطبقي

وللأسف جاء صعود تلك الفئات إلى أعلى كارثة ولعنة حلت بالمصريين لأن تلك الفئات صعدت في غالبية الأحيان إلى أعلى السلم الطبقي في مصر دون جهد يذكر ودون وعي كافي مما جعلها مشغولة بإثبات مكانتها الجديدة بشكل مرضي أحيانا كثيرة نابع من "عقدة نقص" ركزت بسببها تلك الفئات على إذلال إخوانها المصريين من أبناء الطبقات الفقيرة والمتوسطة التي كانوا جزءا منها حتى عهد قريب.

وبهذا تحول المصريون إلى فئات محظوظة اعتلت قمة الهرم الطبقي في زمن قياسي وبدون جهد يذكر وباتت مشغولة بالتعالي على من هم دونهم وإذلالهم، وفئات أقل حظا لم يسعفها الحظ للصعود الاجتماعي وباتت هي أيضا مشغولة بالصعود الاجتماعي وبكراهية من هم أفضل منها لأنهم لا يستحقون - من وجهة نظرها - هذا الثراء، وبإذلال من هم دونها لتفريغ ما لديها من غضب وسخط على الأوضاع القائمة، وبالاستعلاء على من هم في نفس مكانتها لأنهم يذكرونها بأوضاعها الحالية أو لأنهم باتوا مثل بقية المصريين حاقدين غاضبين وكارهين ومتحاسدين.

ونسى الجميع – كما يرى أمين – قيم العمل والكفاح والرضا والقناعة التي كانت منتشرة في أوساط المصريين قبل الثورة على الرغم من أن الحراك الاجتماعي في مصر كان منعدما في تلك الأوقات، وعلى الرغم من أن السور الذي كان يفصل الطبقات المصرية قبل الثورة كان سورا حديديا يصعب اختراقه

فالغالبية العظمى من المصريين (80%) كانت قبل الثورة مسحوقة تماما تنتمي لطبقة فقيرة معدمة تكاد تكفي قوتها اليومي، والطبقة العليا في مصر كانت صغيرة (1%) تنعم بكل شيء ولا تحتاج حتى أن تعمل بسبب شدة ثرائها الناجم في أغلب الأحيان عن عوامل طبيعية تلقائية كالوراثة، أما الطبقة المتوسطة (14%) من الشعب المصري فكانت صغيرة أيضا مقارنة بالطبقة السفلى وكانت قانعة بأحوالها لا تطمح للترقي والصعود كثيرا.

ثورة ثم إحباط

ولكن المصريين كانوا على موعد في النصف الثاني من القرن العشرين مع تغيرات كبرى عصفت بالمجتمع المصري وبالعلاقة بين طبقاته، فقد دفعت الثورة بقاع المجتمع إلى أعلى بشكل غير مسبوق، وكان جيل الثورة هو أخر الأجيال المحظوظة في مصر كما يرى أمين، لأنه ولد في فترة حراك اجتماعي لأعلى غير مسبوقة، ووجد نفسه جزء من مشروع وطني كبير للنهضة الاقتصادية استفاد منه غالبية المصريين بسبب انتشار التصنيع وقوانين الإصلاح الزراعي ومشاريع البنية التحتية العملاقة التي تبنتها الثورة المصرية

ويقول أمين أن غالبية المصريين كانوا سعداء بهذا الصعود الذي صب في صالحهم وأن معاناة بعض المثقفين والسياسيين مع العهد الناصري - الذي اضطهد معارضيه السياسيين - لم تؤثر على سعادة المصريين خلال تلك الفترة لأنه الفئات المثقفة والنشطة سياسيا كانت صغير جدا مقارنة بغالبية المصريين الذي استفادوا من الثورة اقتصاديا وباتوا يتمتعون بخدمات حكومية وأوضاع اقتصادية لم يحلموا بها.

ويقول أمين – سبيل المثال - أن أغاني جيل الثورة ومطربيها مثل عبد الحليم حافظ كانت تعبر عن هذه السعادة بوضوح، فقبل الثورة كانت الأغاني إما حزينة تعبر عن أوضاع الفقراء المعدمين قليلي الأمل والحظ من الدنيا وهم غالبية الشعب، أو أغاني غريبة موجهة لأثرياء القوم تتحدث بلغة أجنبية أو بلغة عربية فصحى لا يفهمها غالبية المصريين، أما أغاني عبد الحليم القادم من أفقر طبقات المصريين فكانت مليئة بالسعادة والأمل والطموح على الرغم من ملامح عبد الحليم الحزينة والمرض القديم الذي كان ينخر في جسده، وكأن خلفية حليم الفقيرة أبت آلا تهزمه في النهاية. 

وهكذا يبدو أن سعادة جيل الثورة كانت قصيرة فسرعان ما أتت هزيمة 1967 والتي فتحت باب معاناة طويلة للمصريين فقد أوقفت مشاريع الثورة التنموية العملاقة وأثقلت عبئ المصريين بتبعات اقتصادية وعسكرية مهولة، وجاءت بعهدها سياسة الانفتاح الاقتصادي والتبعية السياسية للغرب في عهد السادات والتي فتحت الباب على مصراعيه – كما يرى أمين – للثراء السريع غير المبرر وتسببت هجرة العمالة المصرية غير المتقدمة إلى الخليج بعد الثورة النفطية في تعميق عصر ثراء المصريين السريع وغير المبرر.

وبالطبع لم يكن ذلك ليستمر كثيرا وكان لابد من أن يواجه الثراء السريع وغير المبرر عقبات في منتصف الثمانينات والتسعينيات بسبب مشاكل الاقتصاد المصري وتراجع أسعار النفط والكساد العالمي، وهذا يعني إصابة المصريين بإحباط شديد وواسع النطاق لأن غالبية المصريين الذين لم يلحقوا بفرص الثراء السريع وغير المبرر فقدوا هذه الفرصة ولم يتبقى لهم سوى مشاعر الندم والسخط على المجتمع

البحث عن كنز علي بابا

ويبدو أن مشكلة الثراء السريع وغير المبرر هذه كانت واسعة النطاق للغاية في مصر خلال العقود الستة الأخيرة لأسباب مختلفة وأنها قادت إلى صعود فئات كبيرة من أدنى طبقات المجتمع المصري إلى أعلاها بدون تفسير منطقي.

فبعد الثورة استفاد الضباط وكبار رجال وموظفي الدولة بشكل غير مسبوق واحتلوا قمة الهرم الطبقي دون أن يمتلكوا الوعي الكافي بذلك، وخلال الانفتاح استفاد رجال البنوك والتجارة والعاملين في الشركات الأجنبية، كما استفاد العاملون في السياحة بشكل لا يتناسب مع الجهد الذي يبذلونه ومع طبيعة نشاطهم الخدمي غير المنتج.

أما العمالة المؤقتة في الخليج فقد ساهمت في صعود فئات من أدنى السلم الطبقي إلى قمته ليس بسبب مستواهم الفكري أو الثقافي أو بسبب طبيعة مهنهم المنتجة أو بسبب تطورهم المهني أو الاجتماعي، ولكن لأنهم فازوا بفرصة السفر التي استقدمت بعض أقل العمالة المصرية كفاءة وتعليما وثقافة ومنحتهم أموال طائلة لا تتناسب مع مستواهم الثقافي أو مع طبيعة مهنهم أو مع طبيعة الجهد الذي يبذلونه للفوز بتلك الأموال في المهجر.

هذا إضافة إلى أصحاب الحرف الذين أصبح من الصعب استئجارهم داخل مصر بعدما هاجر أفواجا إلى الخارج، وبالإضافة إلى العاملين في مجال البناء والتأجير والتمليك وفي مجال العقارات بشكل عام والتي أقبل المصريون على امتلاكها بشكل غير مسبوق فدفع أسعار العقارات إلى عنان السماء وبدون مبرر.

ويقول جلال أمين أن الفئات السابقة تشابهت في شيء واحد وهو أنها صعدت السلم الاجتماعي بشكل سريع للغاية وبدون وجه حق وبدون وعي ثقافي كافي مما جعلها تتعمد التمايز والاستعلاء على المصريين بكل ما هو غريب، فالعائدون من الخليج جلبوا معهم أحدث الأجهزة وأغلى البضائع للتمايز على المصريين، والوزراء وكبار رجال الدولة باتوا يخلطون حديثهم بكلمات أجنبية للتمايز على المصريين وكأن اللغة العربية لا تمتلك عدد كافي من الكلمات القادرة على التعبير على أفكارهم البسيطة بوضوح، وأثرياء العقارات والسياحة والاستيراد والتصدير باتوا يشترون أغلى السيارات والمنازل والمصايف للتمايز على المصريين

والمصري العادي بات مشغولا بشراء كل الأجهزة الكهربائية بمنزله وبالسكان في أرقى الأحياء حتى ولو استدان طوال حياته للتمايز والتعالي على المصريين.

وبهذا أصبح شغل المصريين الشاغل هو التعالي على بعضهم البعض عن طريق امتلاك كل الكماليات وأدوات الرفاهية خاصة الغريب منها وغير المنتج، فغالبية المصريين باتوا يحلمون بشراء سيارة بغض النظر عن حاجتهم الحقيقة لها، وباتوا يرغبون في امتلاك أحدث الإلكترونيات والأجهزة المنزلية بغض النظر عن احتياجهم الحقيقي لهم وعلى الرغم من أنهم وإبائهم عاشوا حتى عهد قريب دون أن يفكروا في امتلاك هذه الأشياء التي قد لا تسد حاجة حقيقية لدى الشعب المصري.

وما يعمق المشكلة هو أن المصريين باتوا يحلمون بامتلاك كل هذه الأشياء بشروط واحد، وهو أن تأتي بسهولة وبدون جهد كبير، لأنهم باتوا مقتنعين بأن كثير ممن حولهم يتمتعون بكل تلك الأشياء الكمالية وبأكثر منها بدون جهد يذكر وبدون أن يمتلكوا أي مهارات حقيقية تميزهم عنهم، وبهذا تحول أغلبية المصريين إلى "علي بابا" يبحث عن "مغارة" يكبش منها ذهبا في رحلة سريعة وخاطفة وبلا مجهود ليعيش سعيدا بقية العمر.

وقد أضافت الدولة أو الحكومة المصرية لهذه المشكلات بأنها أصبحت "هشة" كما يسميها جلال أمين، فالحكومة المصرية وقفت عاجزة أمام تلك التحولات ورفعت يدها عن الاقتصاد وعن التخطيط الاقتصادي لفترة طويلة وتركت المصريين يصارعون أمواج الحراك الاجتماعي والتغيرات الاقتصادي الطاغية والطاحنة وبعضهم بعضا

ثقافة الطبقات الدنيا

ويقول جلال أمين أن انقلاب الهرم الطبقي في مصر رأسا على عقب بالشكل السابق روج في مصر ثقافة تعكس حالة الصراع الطبقي والشغف بالحراك الاجتماعي التي تلخص هذه المرحلة، وقد انعكس ذلك على مختلف أوجه الحياة المصرية.

فاللغة المصرية باتت ضحية لكلمات مقتضبة مثل "ماشي" و"يلا" و"فوت" و"خلص" وغيرها من الكلمات التي تلخص الرغبة في الصعود السريع بلا مجهود وبدون التزام بأي قيم.

والأغاني الشعبية باتت أكثر رواجا بين مختلف طبقات الشعب بعدما فرض الطبقات الدنيا ثقافيا والعليا اقتصاديا إرادتها على المصريين.

والأفلام المصرية لم تعد تمجد حياة الفقراء السعداء كأفلام الماضي، بل باتت تتحدث عن سعي الجميع للثراء السريع والأثرياء الجدد وثقافتهم الغريبة المدمرة دون أن تجد مشكلة في ذلك.

وأساتذة الجامعات والمدارس حولوا مهنهم لسلع ولوسيلة استرزاق من خلال الدروس الخصوصية والكتب الجامعية وغيرها من وسائل مضاعفة الدخل بشكل سريع.

وانتشرت المحلات التجارية غير المنتجة و"المشاريع" التي تبيع كل ما هو استهلاكي وغير ذي قيمة إنتاجية للمصريين.

حتى الدين بات أداة في يد الطبقات الدنيا الصاعدة للتمايز على الطبقات المتوسطة والعليا باعتبار أن المتدينين ولو فقراء أفضل ممن هم سواهم.

والأفراح المصرية البسيطة اختفت لتحل محلها الأفراح الصاخبة بالفنادق والنوادي المكلفة كتعبير عن رغبة المصريين في التعالي والتفاخر.

كما بنى المصريون مصايف جديدة مكلفة لا يرتادوها إلا لأسابيع أو أيام كل عام للتعبير عن رغبتهم في التمايز والنأي بأنفسهم عن المصايف التي يرتاد عليها غالبية الشعب.

وبهذا تحول الحديث عن القيم والمثل إلى نوع من "ثقل الدم" لدى المصريين الذي باتوا مشغولين ليلا نهارا بالحراك الاجتماعي السريع.

نقد وتقييم

كتاب "ماذا حدث للمصريين" يمتلك مزايا عديدة على رأسها سهولة لغته وامتلائه بأفكار ثاقبة عن المصريين يمزج فيها الأستاذ الكبير جلال أمين بين الإحصاءات والتحليل العلمي والأفكار التحليلية الثاقبة والأمثلة التي تعبر عن قلب المجتمع المصري ونبضاته.

وبهذا يجد القارئ نفسه وسط سيل مستمر من الأفكار والمقارنات الممتعة التي تدفعه للتفكير والتأمل والتوقف بشكل متكرر لإبداء الإعجاب بأفكار المؤلف أو التأمل فيها أو نقدها، بمعني أخر أن الكتاب الصغير (180 صفحة) مليء بالأفكار المثيرة للتأمل والإعجاب.

وتصب جميع هذه الأفكار والأمثلة في نظرية واحدة وهي نظرية الكتاب وأطروحته الرئيسية المتعلقة بسيطرة فكرة "الحراك الاجتماعي" على حياة وتفكير المصريين، حيث يدور الكتاب حولها بشكل بعيد كل البعد عن الملل، فالمؤلف يضرب عبر صفحات الكتاب مثالا بعد الأخر ويأتي بدليل تلو الأخر وبإحصائية ثم مثال من حياته الشخصية دون أن يمل أو يعطي القارئ فرصة للشعور بالملل، وكل هذه الأفكار تصب في نفسه الاتجاه وفي نفس الأطروحة.

لذا تشعر وأنت تقرأ الكتاب بأنك أمام مؤلف كبير متمكن من مادته يعرضها بأقل مجهود بشكل يقصد به إمتاع القارئ وجلب انتباهه حتى أخر سطر من سطور الكلمات دون عناء أو مجهود من قبل المؤلف، فالكتاب وأسلوبه ينتميان لتلك الفئة من الكتابة التي يطلق عليها أحيانا مسمى "السهل الممتنع" فهي في غاية السهولة والعمق في أن واحد.

ولعل هذا ما يفسر طباعة 6 طبعات من الكتاب الصادر لأول مرة في عام 1998، كما يفسر أيضا المتعة التي يحصل عليها القارئ من قراءة كتاب صدر لأول مرة منذ عشر سنوات كاملة، وذلك لأن أفكار الكتاب ثاقبة مازالت تنطبق إلى حد كبير على حياة المصريين.

ولكن الكتاب كأي عمل أخر لا يخلو من عيوب يأتي على رأسها أنه يبدو كتجميع لمقالات كتبها الكاتب على فترات متفرقة ثم قام بتجميعها في كتابه هذه وهو أمر يشير إليه المؤلف في مقدمة كتابه، وعلى الرغم من أن ذلك الأمر ليس عيبا في حد ذاته وأن الكاتب أجاد في جمع تلك المقالات وربطها وكون المقالات تصب جميعها في أطروحة الكتاب الرئيسية إلا أن القارئ يشعر أحيانا بأن الكتاب ينتهي فجأة بلا تمهيد وأن بعض فصوله كالفصل قبل الأخير الذي يتحدث عن أوضاع الاقتصاديين المصريين لا يتماشى مع تسلسل الكتاب الهادئ ومواضيعه البسيطة.

هناك أيضا مشكلة تتعلق بمنهج المؤلف الذي تعتريه نزعة مادية واضحة تركز على الاقتصاد والاجتماع في تفسير ماذا يحدث للمصريين، وتهمل الجانب القيمي أو الثقافي إلى حد ما، حتى أن المؤلف لا يتحدث عن الدين إلا في سياق كونه أداة في يد بعض أبناء الطبقات الدنيا يسخدمونه من أجل التعالي والتمايز على الطبقات الأخرى الأكثر حظا اقتصاديا.

وقد يرد المؤلف على ذلك بالقول أن تركيزه لم يكن على دور الدين من البداية، وأنه فضل التركيز في المقابل على الأوضاع الاقتصادية والاجتماعية والتي لا تهمل العامل الثقافي ولكنها لا تركز عليه، وأن من يريدون دراسة دور الدين والثقافة فعليهم أن يفعلوا ذلك في دراسة مستقلة ولا يطلبوا منه ذلك في دراسته الخاصة بالطبقات المصرية والحراك الاجتماعي.

ولكن هذا الرد قد لا يقلل من شعور القارئ بأن الكتاب يهمل العامل الثقافي والقيمي وتأثيره على أوضاع المصريين وأن المؤلف يقدم الاقتصاد على الثقافة في تحليله.

ثالثا: يشعر القارئ أحيانا أن المؤلف يتعالى على الطبقات الدنيا والمتوسطة ويجحفها حقها ويفضل عليها الطبقات العليا في مصر ما قبل الثروة والتي يصفها الكاتب عبر كتابه بأوصاف إيجابية حيث يرى أنها طبقات واثقة من نفسها أكثر استقلالية فكرية وثقافية وقدرة على تمييز الخبيث من الطيب وذلك مقارنة بالطبقات العليا الحالية القادمة من قاع المجتمع والتي تبدو غير مستقرة أو مستقلة أو واثقة من نفسها، وهي أوصاف تشعرك أحيانا بتحامل جلال أمين على الطبقات العليا الجديدة وبتحيزه ضد الفقراء والطبقات الدنيا وكأنه كتب عليهم أن يظلوا أبدا في قاع المجتمع، أو كأن الفقر المدقع الذي عاشوا فيه قبل الثروة وفقدان أملهم في الحراك الاجتماعي على أيدي طبقات ما قبل الثورة - التي يمتدحها جلال أمين - كان شيئا إيجابيا.

ولكن وللعدالة يمتدح أمين إنجازات الثورة وقدرتها على رفع مستوى معيشة قطاعات واسعة من المصريين وقدرتها أيضا على خفض حجم الطبقة الدنيا ومضاعفة حجم الطبقة المتوسطة، كما أنه يتحدث إيجابيا عن الأجيال الجديدة وكيف أنها أكثر حرية وأكثر تعلما وإنجازا من إبائها، ولكنه يبدو غير راض عن حالة عدم الثقة والتوتر التي تعيشها تلك الأجيال ويقول أن ذلك ثمن الحرية وثمن الصعود السريع وثم ثورة التطلعات

فيبدو أن أمين يقول أن الصعود والحراك الاجتماعيين ليسا عيبا، ولكن العيب يكمن في ثورة التطلعات التي تصاحب صعود المصريين حاليا.

أخيرا الكتاب المنشور في عام 1998 يحتاج إلى تحديث كما يحتاج أيضا إلى بعض الدعم البحثي والمعلوماتي خاصة فيما يتعلق بالإحصاءات والدراسات التي قد تدعم رؤى المؤلف الثاقبة، ويشتكي المؤلف في بداية كتابه من ندرة الدراسات الخاصة بالحراك الاجتماعي في مصر، وفي الحقيقة أن دراسته هذه تمثل مساهمة هامة، ولكنها تترك القارئ في النهاية ولسان حاله يقول "هل من مزيد!؟"

www.alaabayoumi.com

شبكة النبأ المعلوماتية- االاحد 8/شباط/2009 - 12/صفر/1430

© جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة النبأ للثقافة والإعلام 1419-1429هـ  /  1999- 2008م