أين انتصر الطيب أردوغان؟

أحمد شهاب

أماط رئيس الوزراء التركي الطيب أردوغان خلال الحفلة السياسية الأخيرة في دافوس اللثام عن التناقض الحاد بين شعارات الحرية والديمقراطية وحقوق الإنسان التي ترفعها الدولة الصهيونية والغرب بصورة عامة، وتطبيقاتها على أرض الواقع، مذكرا بأن الديمقراطية التي يريدونها ويلهثون وراءها تحققت في فلسطين على يد حماس عندما اختارها 70 في المئة من الشعب الفلسطيني، فماذا يريدون أكثر من ذلك، ولماذا حاصروا حماس إذن؟

موقف السيد أردوغان المثير للدهشة جاء بمثابة الصاعق في مشهد غياب الوعي العربي، فقد أمضى العالم العربي والإسلامي ردحا من الزمن يمتدح الدعوة الغربية للحريات السياسية، ودعمها المتواصل لمسيرة التقدم الديمقراطي، ويعتقد بها كأنموذج عال صالح للتطبيق، وأفنت الولايات المتحدة عمرها السياسي وهي تحاول أن تقنع العالم بأن إسرائيل هي رائدة الحريات في المنطقة، وأنموذج الديمقراطية المتميز في العالم الحديث، في مقابل تخلف العالم العربي السياسي، وعدم أهلية أنظمته الاستبدادية للاستمرار وسط أنظمة العالم الحديث، وجاء أردوغان ليعيد ربط صورة المأساة في غزة بكل فظاعتها برداءة تطبيقات الديمقراطية التي يدعو لها الغرب وتمثلها إسرائيل، فهو حوّل المأساة إلى فضيحة سياسية.

فكيف يمكن أن يساوي العالم بين من يستخدم السلاح الكيماوي والجرثومي في حربه ضد مجموعة من العزل، وتؤمن له الدول المتقدمة الممرات المائية والجوية لبناء ترسانته الحربية وتجديدها، وبين التضييق على من يُطلق بضعة صواريخ ذات تأثير عسكري محدود، ويُفرض عليه حصار كامل يمنع وصول أي سلاح اعتيادي ليدافع به عن نفسه؟!

وكيف يمكن أن نصدق دعوى نشر وضخ أمصال الديمقراطية من قبل دول لا تتردد في ملاحقة ومتابعة كل الناشطين ضد المشروع الصهيوني، حتى وإن كانت نشاطاتهم ذات طابع سلمي وخيري، مثلما صنفت الولايات المتحدة عدة جمعيات ومؤسسات ناشطة في العمل الخيري الفلسطيني على قائمة الإرهاب الأميركية؟ ودعت الدول الأوروبية لاعتماد ذلك التصنيف في دولها.

وعندما نستعرض أعداد الفلسطينيين الذين قضوا نحبهم في غزة نتيجة لغياب الإسعافات الأولية والدواء، ونسجل عدد المحرومين من العمل الذين يعانون من الجوع نتيجة تدمير أماكن عملهم وحقولهم ومنشآتهم، فلا يمكن إلا أن ندين شعارات التقدم والرفاهية التي يبشر بها العالم الحر نتيجة الخلل الذي اعترى تطبيقات الديمقراطية في صورتها الغربية والإسرائيلية. وعندما نصطدم بالجدران الأمنية الكثيفة التي تفرضها الدولة العبرية على الضفة الغربية (وليس غزة)، بهدف تأمين راحة المستوطنين، فإننا لا نستطيع إلا أن نكّذب كل المزاعم التي تدعي أنها تعمل وتسعى إلى كسر جدران الصمت والسكون والخوف في العالم المتخلف، وتحرير الشعوب المحرومة من ظلامتها، وإطلاق الحريات العامة.

وفي ظني، فإن هذا الحد من الفضيحة والكشف السياسي الذي مارسه أردوغان كان مهما للغاية، ولم يكن مطلوبا من الأتراك أن يحرروا فلسطين من خلال موقف رجولي واحد، أو أن يرموا اليهود في البحر بالضربة القاضية، كما لم يكن أحد ينتظر من رئيس وزراء تركيا الطيب أردوغان أن يكون نقي الثوب الملائكي الوحيد في وسط مستنقع آسن من الشوائب العربية، بل يكفيه أنه وضع الجميع أمام مسؤولياتهم التاريخية، وكشف صور التواطؤ الدولي على حقوق الإنسان والديمقراطية وتعثر مفهوم التقدم السياسي في العالم.

وعزز من أهمية أن تتخذ عناوين مثل احترام وصيانة حقوق الإنسان والدفاع عنها، ونشر وتعميم الديمقراطية والقبول بنتائجها، صفة الإطلاق والعالمية، لا التقييد والعنصرية، فهي حق الجميع الذي ينبغي أن يحصلوا عليه بصورة كاملة غير منقوصة، ومشكلة العالم اليوم أو جزء كبير منه -على الأقل- تكمن في النظرة المنشطرة للمفاهيم وتطبيقاتها، فهي من جهة تطالب باحترام حقوق الإنسان وتعميم الديمقراطية، ورفض قسر الآخرين على خيارات لا يقبلونها، ومن جهة ثانية تدعم انتهاك حقوق الإنسان في أجزاء واسعة من العالم، وتؤيد سحق اختيارات الشعوب تحت عجلات الترسانة العسكرية إذا جاءت متعارضة مع مصالحها ورغباتها.

وبغض النظر عن الفوائد الشخصية والمكاسب السياسية التي حققها أو سوف يحققها أردوغان من خلال مواقفه المتعلقة بغزة، فإنها تكشف عن قدرة الأتراك الجدد على قراءة مجريات الساحة، سواء على مستوى المنطقة أو العالم، والإشارة بذكاء لافت إلى صور الانقلاب المنظم على كل ما أنجزته الحضارة الغربية من تقدم وجهود في حقل الدفاع عن حقوق الإنسان وقضايا الكرامة الوطنية، ونشر الديمقراطية، وكأن الحضارة الغربية تأكل ذاتها بذاتها.

وهي دعوة جدية من دولة وليدة في إسلاميتها الحديثة، وتسعى جاهدة لتقديم أنموذج بديل عن ممارسات وتجارب الدول الإسلامية السائدة، موجهة للعالم الحر من أجل أن يتصالح مع المفاهيم الحديثة التي يدعو لها، في مبادرة امتازت بالفطنة والدهاء السياسيين، فقبل أشهر معدودة كانت تركيا مطالبة بأن تثبت عصريتها والتزامها بالقيم الديمقراطية كشرط يؤهلها للدخول في النادي الأوروبي، والآن أصبحت هي من يطالب الدول الأوروبية بأن تثبت صدقيتها واحترامها لخيارات الشعوب الديمقراطية، حتى وإن انتخبوا حكومة لا تعجب أوروبا، فهذه هي الديمقراطية، وطالبها بأن تدين انتهاكات حقوق الإنسان، حتى وإن كان مصدر الانتهاك حليفة أوروبا إسرائيل.

تعاطى الأتراك مع الصراع العربي والإسلامي-الإسرائيلي بوصفه صراعا حضاريا شاملا، لكنهم خاضوه بهدوء لم يخل من توهج حماسة أحيانا، وقرروا أن يحرزوا تقدما في ميدان المعركة الحضارية في الدرجة الأولى، وهي المعركة التي قررت الحكومة التركية الحالية أن تخوضها بكل دهاء، فهي من جهة عززت فرص انتصارها السياسي في الداخل، وعبرت عن مشاعر الشارع التركي العام، واكتسبت مشروعية إضافية سيظهر أثرها في الانتخابات القادمة، وقطعت من جهة أخرى خطوات مهمة نحو تأكيد دورها الإقليمي الذي يستند إلى موروث ثقافي وحضاري ضارب في العمق، ولا يستبعد أن يكون ذلك أيضا دافعا إضافيا يعزز من فرص الانضمام إلى الاتحاد الأوروبي على عكس المتوقع.. أما خطابات الشجب والتنديد، فتركوها للأنظمة العربية باعتبارها ساحات حروبهم الوحيدة.

* كاتب كويتي

[email protected]

شبكة النبأ المعلوماتية- االسبت 7/شباط/2009 - 11/صفر/1430

© جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة النبأ للثقافة والإعلام 1419-1429هـ  /  1999- 2008م