منظومة الأمان الإقليمية

 أحمد شهاب

يعرف الجميع ماذا تريد الولايات المتحدة من المنطقة، ولم يعد لغزا محيرا تحديد أهداف إشعال الصراعات والنزاعات في الشرق الأوسط، وغاياته، وخروجها من حرب إلى أخرى، ودفع المنطقة إلى حافة الانفجار، والانفجار أحيانا أخرى، حتى أصبح الشرق الأوسط برمته مكانا طاردا للفرص والاستثمارات والعيش الآمن، حاضره يحكمه الخوف والقلق، ومستقبله يسوده الإبهام والضبابية.

كانت الدول المارقة، والجماعات المتطرفة، هي المستهدفة من الإجراءات الأمنية والعسكرية عندما انطلق قطار الإصلاح الأميركي، حتى ظن كثيرون أنها خشبة الخلاص التي جاءت لتحررهم من جور الأنظمة الفاسدة، وعنف الجماعات المتشددة، لكنهم سرعان ما اكتشفوا أن جميع الدول العربية والإسلامية، حتى المعتدلة منها، وكل الجماعات النشطة، حتى الشرعية منها، مستهدفة من قبل الإدارة الأميركية.

على الرغم من ذلك كله، فإن دول المنطقة لم تقرر حتى الآن كيف تتعاطى مع هذه الاستهدافات والغايات الأميركية والغربية عموما، إلا بنظرية القطيع الذي ينساق خلف ومع رغبات الآخرين من دون إرادة، أو قرار حر، من دون أن يعرف ماذا يريد بالضبط ضمن حساباته ومصالحه الخاصة، سنجد ذلك ماثلا في طبيعة الصراعات التي تنشب داخل الجسد العربي، وبخاصة ما يتعلق بالموقف الحدّ الذي تتخذه دول المنطقة من حركات المقاومة والتحرر، إرضاء للجنرال الأميركي، على رغم أن المقاومة لا تزاول أي أعمال تربك السلم الأهلي، وتكرس أعمالها للتصدي والدفاع عن قضايا وطنية عادلة تصب في خدمة الدولة وسيادتها.

تعرف دول المنطقة أيضا أن سبيل التنمية والنهضة لا يأتي بالاقتتال والحروب، وان عليها جميعا انتخاب مسلك آخر للتفاهم الودي بينها غير أسلوب القوة، ولذا ينصح الخبراء الإستراتيجيون القادة في المنطقة بالعزوف عن الحلول العسكرية، أو المقاطعة السياسية أو الاقتصادية، وبذل المساعي حثيثة في اتجاه التقارب والتعاون، بصفتهما السبيل الوحيد إلى تحصيل القوة الحقيقية. ويتفق الخبراء السياسيون على أن لغة التفاهم عبر الطرق الدبلوماسية أفضل من القطيعة، وبالتأكيد أجدى من الدخول في نزاعات مسلحة.

لكن ثمة من يدفع، ودائما، عكس هذا الاتجاه، ويمكن الإشارة إلى الشق العربي- العربي، والعربي- الإسلامي، الذي تولد أخيرا على ضفاف مجزرة غزة، على رغم أن حدثا بهذا الحجم كان بإمكانه أن يوفر مساحة واسعة من المشتركات، وحيزا كبيرا من التفاهم بين دول المنطقة، ولاسيما أنهم يواجهون عدوا واضحا ومحددا يتمثل في الكيان الصهيوني. بيد أنهم دخلوا في حلقة جديدة من الخلافات التي باعدت بين دول المنطقة، في الوقت ذاته الذي عزز الهجوم العدواني على غزة من العلاقات الإسرائيلية- الأميركية، على رغم أن الأمل لا يزال يسري في ظهور مبادرات بحجم المسؤولية ربما لاح أفقها في قمة الكويت.

صحيح أن الدول العربية الكبرى، فقدت قدرتها على القيادة والمبادأة في رص الصف العربي، وقررت التوقف والاصطفاف إلى فريق السلطة ضد «حماس»، ولم تتردد من تحميل الأخيرة مسؤولية نشوب الحرب وإطلاق النزاع المسلح، إلا أن الموقف التركي في المقابل اخترق حاجز الصمت والركود في المنطقة، واستهدف في حركة لافتة رأب الصدع داخل البيت العربي، ووضع النقاط على الحروف.

حدد أردوغان الجاني والمجني عليه، ولوح بإمكانية معاقبة الجاني على فعلته النكراء، و ضرورة احترام إرادة الشعوب إذا نطقت، وهو ما يُمكن أن يمثل انطلاقة لمبادرات من داخل المنطقة تضغط على السياسات الأميركية، وتدفعها نحو إعادة التفكير في طريقة تعاملها مع دول المنطقة، بوصفها سادة المنطقة، لا وكلاء عن الدول الكبرى. لقد قدمت المبادرة التركية إجابة عن سؤال: ماذا تريد دول المنطقة؟ ودفعت في اتجاه التفكير فيه والعمل على إنجازه، بدلا من انتظار ما يريده الآخرون، خصوصا أن دول المنطقة تمتلك في يدها أوراقا كثيرة، ويمكنها لو أحسنت استثمارها، أن تفرض إرادتها على المنطقة بدلا من تركها نهبا للآخرين يسيّرونها كيفما يشاءون.

من المؤكد أن هذا الدور لن ينجح من دون تعاون الدول العربية، لقد ضيعت الدول العربية من قبل فرصة كسب إيران إلى جانب قضاياها العادلة، وبدلا من التفاهم معها، عملت على استعدائها والعمل على تقويض نظام حكمها، واصطفت خلف النظام العراقي في حربه عليها، وفقدت على أثره تأييد دولة قوية لها رؤية واضحة في شؤون المنطقة ومستقبلها، وعليها اليوم ألا تكرر الخطأ وتفقد الدور التركي وإقباله عليها.

العجز الذي تعيشه دول المنطقة في طريقه إلى التضخم والتنامي مادامت لم تقرر حتى الآن مواجهته باستراتيجية عمل مشتركة، خصوصا أن إشارات التقارب التي أطلقها أردوغان مع العالم العربي والإسلامي بعد تدمير غزة، قوبلت بإجراءات عكسية حاولت خنق المبادرة التركية، والالتفاف عليها، فيما سعى البعض الآخر إلى تعظيم الخطر التركي، ملوحا بأن المنطقة تبدو اليوم بين فكي إيران وتركيا من جهة والولايات المتحدة من جهة أخرى.

في المقابل فإن لدى الولايات المتحدة والدول الغربية اليوم مصالح كبيرة مع العديد من دول المنطقة لا يمكن أن تفرط فيها، حتى ولو قررت هذه الدول إدارة ظهرها لسياساتهم، وهذه المصالح ينبغي أن تكون بوابة للحديث عن ما يشغل الشارع العربي والإسلامي، وبالتحديد عن السيادة المنتهكة، وعن حقوق الإنسان المجزأة، والسعي للتحرر من كل صور الارتهان للسياسات الغربية، عن طريق بناء منظومة أمان إقليمية تغلق كل أسباب الصراع والسلبية والمخاوف الوهمية بين دول المنطقة.

هذه المنظومة تعتمد على مثلث عربي إيراني تركي يواجه مشروع الشرق الأوسط الجديد، الذي تسعى الولايات المتحدة لتكريسه على الأرض لتأهيل الكيان الصهيوني في المنطقة العربية، ومن شأن هذا التحالف الثلاثي أن يضمن وحدة وقوة دول المنطقة، ويعزز من قدرتها على فرض الاستقرار، وهي فكرة ممكنة التطبيق، ولاسيما مع توافر كل مقومات نجاح مثل هذا الحلف في إطار الدائرة الإسلامية والحضارية..والأهم من ذلك أنها حاجة ملحة لأمن واستقرار المنطقة الآن وفي المستقبل.

* كاتب كويتي

[email protected]

شبكة النبأ المعلوماتية- الاحد 25/كانون الثاني/2009 - 27/محرم/1430

© جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة النبأ للثقافة والإعلام 1419-1429هـ  /  1999- 2008م