حذار من المسخ

حيدر السلامي

بالأمس القريب، والقريب جداً. كنا نصف "الرفاق" البعثيين بالأميين الجهلة وهم كذلك بحق إذ انعدم أو قل بينهم المثقفون الحاملون للشهادات الجامعية أو ما يدانيها.

وكنا نسخر منهم ونعيرهم بذلك وفي نفس الوقت نرثي لحال المثقف والجامعي الذي عاش يكابد ألم الإقصاء وحسرة التهميش الدائم لا لشيء سوى أنه امتنع عن الانتماء إلى حزب السلطة، ما يعني أنه مشكوك في أصالته وولائه لوطنه متهم في قوميته مظنون بعمالته للأجنبي وبالنتيجة فهو مغضوب عليه، مطرود من الجنة، لا يستر عورته كل ورق التوت الموجود في العالم.

كان المثقف المستقل محروما من أي موقع إداري مرموق فلا يقلد أي منصب وظل يراوح في مكانه.. هذا إن حواه مكان غير السجن أو القبر طبعاً.

وبالأمس أيضا كنا نعيب على الطاغية سياسته الحمقاء وطريقته الهوجاء في ابتكار القرارات وارتجال المواقف والتسرع في نقض وإبرام القوانين وفقا لمشتهياته ورغباته وميوله الشخصية وننتقد تقريبه إلى الحكم والإدارة أبناء عمومته وأفراد عشيرته وفصيلته.

ونضع هذه الحالة في لائحة الظواهر العديدة الشاذة التي تميز بها "القائد الضرورة" ونعدها تعبيراً عن نفسيته العدوانية المريضة وتعصبه الأعمى وجاهليته الجهلاء.

وكثيراً ما كنا نردد مقولة "الرجل المناسب في المكان المناسب".. تلك المقولة التي أهدر دمها وضاع بين القبائل والأحزاب والحكام.. كنا نراها الحل الأمثل لجميع مشاكلنا في العراق.

وكنا نسجل على صدام وزبانيته ملاحظة الشره القيادي ونضع الكثير من الخطوط تحت الصفات والألقاب والكنى والرتب والعناوين الوظيفية، ونهزأ ونتندر بذلك في أحاديثنا الهامسة وإشاراتنا الخافية الخائفة وننعت "بطل النصر والسلام" بجنون العظمة.

ولطالما تابعنا بعين الاستنكار خطاباته المتفرعنة وعباراته الصماء التي كان يلقيها كالأحجار على رؤوس الأشهاد ومن خلال الصحافة المتلفزة.. كان الرجل كلما أخذته العزة بالإثم وأنساه الفخر والحماسة أكاذيبه السابقة استرجل وارتجل أباطيل أكبر وضلالات أكثر وأمعن في تنقيح المقال تبعا لتبدل الأحوال واختلاف الظروف.

ونحن بدورنا كنا نصفق مرغمين بحرارة أسطورية ولكن.. ربما كان إذا انفض الجمع وركن كل منا إلى خاصته ولجأ إلى حاضنته المحصنة من العيون والأنوف والآذان، ضحكنا لشدة البكاء، وبكينا لسخرية القدر، وبرزنا بروز الأبطال لمحاربة الظل المخيف بشجاعة فائقة، معلنين ـ لحظة ئذٍ ـ التوبة والطهارة من الذنوب. وكنا نتساءل باستغراب: كيف ليد واحدة أن تحمل كل رمان الدنيا؟ وهل عقم الزمان وخلا من الرجال؟! ولا من جواب طبعا.

واليوم وقد حلت الديمقراطية في ربوعنا وحلقت الحرية في فضائنا وتعددت الأحزاب والزعماء وانفصلت السلطات الثلاث وتحررت الرابعة وانطلقت الألسن وشرعت الأقلام وتنوعت المؤسسات والمنظمات وسقطت خرافة "القائد البعبع".. هل تخلصنا من تبعات الأمس أم ما نزال نعيش في قمقه ونتفحص آثار مخالبه المميتة؟!

يبدو من الصورة أن رواسب وعوالق الماضي ما تزال لدى بعض منا تتنفس وربما كانت لدى بعض آخر تأكل وتشرب وتمشي باسترخاء عجيب محاولة قلب المعايير وتحويل البوصلة باتجاه لا تحمد عقباه وتشويه الوليد السياسي الجديد في العراق. فإذا بالديمقراطية منتهية الصلاحية، والديكتاتورية تطل بثياب فضفاضة غالية الثمن عصرية الموضة من جديد.. فيا أبناء وطني.. الحذر.. الحذر وكل الحذر من مولود مسخ يرتقبه العراق بعد مخاض عسير، فنمسي ونصبح ـ معاذ الله ـ وكأن شيئا من التغيير المنشود لم يكن..

شبكة النبأ المعلوماتية- السبت 24/كانون الثاني/2009 - 26/محرم/1430

© جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة النبأ للثقافة والإعلام 1419-1429هـ  /  1999- 2008م